مقدمة: الدنيا دار ابتلاء وأهمية الصبر والاعتبار بالقرآن

إن هذه الدنيا دار ابتلاءات ومحن، ويُعد الصبر على أقدار الله تعالى من أعظم خصال المسلم. ويزخر القرآن الكريم بقصص تقدم العبر والنور، ومن أبرزها قصة أصحاب الأخدود، التي تجسد أسمى معاني الصبر والثبات والفداء والتضحية في سبيل الدين. لقد سُطرت هذه القصة بدماء الشهداء لتكون منارة للمؤمنين، ولعنة على الظالمين، وشاهداً على طبيعة الصراع بين الحق والباطل. ذكرها الله عز وجل في سورة البروج، وبيّن النبي فصولها، حاملةً في طياتها دروسًا عظيمة للمسلمين.

تفسير آيات أصحاب الأخدود: صبر المؤمنين وجبروت الطغاة

يقول الله تَعَالَى في سورة البروج: ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8)﴾.

بصيرة المؤمنين وصبرهم على الحرق

قال الواحدي في التفسير: قال أبو إسحاق: أعلم الله قصة قوم بلغت بصيرتهم وحقيقة إيمانهم إلى أن صبروا على أن أحرقوا بالنار في الله.

استعاذة النبي من شدة البلاء

قال الإمام الحسن: كان رسول الله إذا ذكر أصحاب الأخدود تعوذ بالله من جهد البلاء. (رواه الإمام ابن أبي شيبة في مصنفه، وقال العلامة محمد عوامة في تحقيقه على المصنف: رجاله ثقات). وقد ثبت ذلك في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: ((كان النبي يتعوذ بالله من جهد البلاء ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء)).

معنى “قُتِلَ أصحاب الأخدود” وتضحيات الصحابة

قال القرطبي: “قُتِلَ”: أي لُعِنَ، قال ابن عباس: كل شيء فِي الْقُرْآنِ “قُتِلَ” فَهُوَ لُعِنَ… ثم قال: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَلَقَدِ امْتُحِنَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَتْلِ وَالصَّلْبِ والتعذيب الشديد، فصبروا ولم يلتفتوا إلى شيء مِنْ ذَلِكَ وَيَكْفِيكَ قِصَّةُ عَاصِمٍ وَخُبَيْبٍ وَأَصْحَابِهِمَا وَمَا لَقُوا مِنَ الْحُرُوبِ وَالْمِحَنِ وَالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ وَالْحَرْقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قُتِلَ أَصۡحَـٰبُ ٱلۡأُخۡدُودِ﴾ دُعَاءٌ عَلَى هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ بِالْإِبْعَادِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الْإِخْبَارُ عَنْ قَتْلِ أُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ إِنَّهُمْ قُتِلُوا بِالنَّارِ فَصَبَرُوا، وَقِيلَ: هُوَ إِخْبَارٌ عَنْ أُولَئِكَ الظَّالِمِينَ.

صيغة تقريع وتوبيخ للطواغيت

قال الشيخ الدكتور محمد الكبيسي في مجالس النور: ﴿قُتِلَ أَصۡحَـٰبُ ٱلۡأُخۡدُودِ﴾ هذه صيغةٌ من صيَغ التقريع والتوبيخ، وقد جاءت جوابًا للقسَم؛ تهويلًا لها، وتنبيهًا على خطرها، وأصلها دعاءٌ بالهلاك، وليست خبرًا، وأصحاب الأخدود هم: الطواغيت الذين قاموا بشقِّ الأرض وحفْرِها، وإضرام النيران فيها لحرق مجموعةٍ من المؤمنين مِمَّن كانوا على النصرانيَّة، وكان ذلك قبل الإسلام، كما تنصُّ الأخبار والأحاديث الواردة.

تجبر الكفار وقيمة إيمان المؤمنين

وقال السعدي: وهذا من أعظم ما يكون من التجبر وقساوة القلب، لأنهم جمعوا بين الكفر بآيات الله ومعاندتها، ومحاربة أهلها وتعذيبهم بهذا العذاب، الذي تنفطر منه القلوب، وحضورهم إياهم عند إلقائهم فيها، والحال أنهم ما نقموا من المؤمنين إلا خصلة، يمدحون عليها، وبها سعادتهم، وهي أنهم كانوا يؤمنون بالله العزيز الحميد، أي: الذي له العزة التي قهر بها كل شيء، وهو حميد في أقواله وأوصافه وأفعاله.

إن قصة أصحاب الأخدود ليست مجرد حدث تاريخي عابر، بل هي تجربة حية غير مرتبطة بزمان أو مكان معين، وهي قصة ظلم تتكرر في تاريخ الدعوات، وفي ذات الوقت قصة فداء وتضحية في سبيل الدين. ولو ذهبت تستقصيها وتتعمق فيها لاستخرجت منها دروسًا مهمة في التربية، والثقة بالله، وتصحيح كثير من المفاهيم الخاطئة، وتجلية الحقائق التي قد تغيب عن النفس أو الغير.

دروس وعبر مستفادة من قصة أصحاب الأخدود: منهج حياة للمؤمن

تحمل هذه القصة العظيمة،  التي تُعد من أبرز صور الابتلاء في سبيل الإيمان، معاني جليلة وفوائد جمة، فمن هذه الدروس:

  1. أهمية تربية الأبناء: ففي القصة أساس لتربية النشء على الإيمان والتوحيد.
  2. القصة تجربة حية غير مرتبطة بزمان أو مكان معين، فصراع الحق والباطل مستمر.
  3. محاربة أهل الباطل للفطر السليمة.
  4. تيسير الله عز وجل الأسباب لمن خلصت نيته للهداية، كما في هداية الغلام.
  5. إباحة الكذب في بعض الحالات كما في توجيه الراهب للغلام لدرء الخطر.
  6. اهتمام الأستاذ بشؤون التلميذ، مثل حرص الراهب على الغلام.
  7. حب الغلام لمنفعة قومه وسعيه لهدايتهم.
  8. إثبات كرامات الأولياء: وما جرى على يد الغلام من خوارق.
  9. تواضع العالم وتجرده من الحسد: كما في موقف الراهب من تفوق الغلام.
  10. وجوب تصحيح أخطاء الناس في العقيدة، ومنه دعوة الغلام للتوحيد.
  11. أن لكل فرعون سحرة، وسحرة كل زمان بحسبه: فأهل الباطل يستعينون بأعوانهم.
  12. تعليق نفوس المدعوين بالله وحده، لا بشخص الداعية أو كراماته.
  13. الثقة التامة بالله تعالى والتوكل عليه في أحلك الظروف.
  14. الابتلاء طريق ممتد وملحمة لا تنتهي.
  15. الإيمان جذوة لا تخمد، وشمس لا تغيب، مهما حاول أهل الباطل إطفاءها.
  16. الثبات على الإيمان ثباتًا أشد من ثبات الجبال الراسخات في الأرض: كما ثبت المؤمنون أمام النار.
  17. المؤمن لا يتردد في الحق ولو أُرهب أشد الترهيب، ولا يتزحزح عن الحق ولو افتتن بالمال والمنصب وجميع مغريات هذه الدنيا: وهذا دأب الصادقين.
  18. المؤمن ينظر إلى العاقبة الآخرة ولا تغره الدنيا الفانية.
  19. لا يفلح السحر والساحر حيث أتى، ولا يفلح إلا الإيمان بالله حق الإيمان: فالسحر باطل والإيمان حق.
  20. على الإنسان أن يتحرى الحق ويبحث عنه: ولا يتبع الهوى أو التقليد الأعمى.
  21. أن يُنسب الفضل لله -تعالى- ولا ينسبه الإنسان لنفسه كما فعل الغلام.
  22. التضحية بالنفس من أجل إعلاء كلمة الله -تعالى- وفي سبيل الدعوة إلى الله: وهي ذروة سنام الإيمان.
  23. إن الله يُجري المعجزات، ويهيئ أسباب الفرج لعباده الصالحين الأتقياء المخلصين: نصره لعباده واقع لا محالة.
  24. ليست العبرة في المؤمن الداعية إلى الله أن يرى نتائج دعوته ولا ينتظر ذلك: بل عليه البلاغ والنتيجة على الله.

إن  قصة أصحاب الأخدود تمثل دعوة كاملة من بدايتها إلى نهايتها، وفيها تنوع الأساليب من الفردية إلى الجماعية، وغير ذلك الكثير مما يستنبطه المتأمل.