بعد شهر من الإعلان عن إطلاق معجم الدوحة التاريخي (11 ديسمبر 2018)، الذي يعد المشروع الحضاري للأمة والبوابة التاريخية للغة العربية، وبعد شهر من احتفالات العالم باليوم العالمي للغة العربية (18 ديسمبر)، أكملت قطر مشروع المحافظة على العربية بقانون لحماية هذه اللغة العريقة والعظيمة التي يتعدى عدد كلماتها 20 مرة عدد كلمات اللغة الإنجليزية. قانون حظي بتفاعل واسع محليا ودوليا وعلى منصات التواصل الإجتماعي، وهو قانون ملزم باعتماد الفصحى لغة للتعليم في المدارس والجامعات وتوقيع الاتفاقات والمعاهدات الدولية، و صارم بفرض غرامات مالية على المخالفين.
تفاصيل مشروع القانون تتلخص في إلزام الوزارات والمؤسسات الرسمية، والمؤسسات التعليمية الرسمية في جميع مراحل التعليم، والبلديات، باستخدام اللغة العربية في جميع ما يصدر عنها من أنظمة وتعليمات ووثائق وعقود ومعاملات ومراسلات وتسميات وبرامج ومنشورات وإعلانات، كما تلتزم الجامعات القطرية العامة ومؤسسات التعليم العالي التي تشرف عليها الحكومة بالتدريس باللغة العربية في جميع العلوم والمعارف.
وقد تضمن القانون 15 مادة، وورد في المادة الأولى منه “تلتزم جميع المؤسسات الحكومية وغير الحكومية بحماية ودعم اللغة العربية في كافة الأنشطة والفعاليات التي تقوم بها. فيما نصت المادة الثانية على أن “تلتزم الوزارات والأجهزة والهيئات والمؤسسات العامة باستعمال اللغة العربية في اجتماعاتها ومناقشاتها، وفي جميع ما يصدر عنها من قرارات ولوائح تنظيمية وتعليمات ووثائق وعقود ومراسلات وتسميات وبرامج ومنشورات وإعلانات مرئية أو مسموعة أو مقروءة وغير ذلك من معاملات. يسري حكم الفقرة السابقة على الجمعيات والمؤسسات الخاصة، والمؤسسات الخاصة ذات النفع العام، والجهات التي تمول موازناتها من الدولة”.
14ألف دولار غرامة
وينص القانون رقم (7) لسنة 2019 ، الذي صادق عليه مجلس الوزراء القطري، وأصدره سمو الأمير الشيخ تميم بن حمد آل ثاني يوم الإثنين 15 يناير، على فرض غرامات مالية على المخالفين تصل إلى غاية 50 ألف ريال قطري (ما يعادل 14 ألف دولار تقريبًا) على كل من يخالف أحكام القانون.
وجاء في المادة 11 منه “مع عدم الإخلال بأي عقوبة أشد ينص عليها قانون آخر، يعاقب بالغرامة التي لا تزيد عن (50.000) خمسين ألف ريال، كل منه خالف أيًّا من أحكام مواد القانون. ويعاقب المسؤول عن الإدارة الفعلية للشخص المعنوي المخالف بذات العقوبة المقررة عن الأفعال التي ترتكب بالمخالفة لأحكام هذا القانون، إذا ثبت علمه بها، وكانت المخالفة قد وقعت بسبب إخلاله بواجبات وظيفته.
كما ألزم القانون الجهات الخاضعة لأحكام هذا القانون، توفيق أوضاعها بما يتفق وأحكامه خلال ستة أشهر من تاريخ العمل به، ويجوز لمجلس الوزراء مدّ هذه المهلة أو مددا أخرى مماثلة.
المحادثات والمفاوضات والمذكرات الرسمية
يلزم القانون بأن “تصاغ تشريعات الدولة باللغة العربية، ويجوز إصدار ترجمة لها بلغات أخرى، إذا اقتضت المصلحة العامة ذلك”. كما يؤكد أن “اللغة العربية هي لغة المحادثات والمفاوضات والمذكرات والمراسلات التي تتم مع الحكومات الأخرى والهيئات والمنظمات الإقليمية والدولية والمؤتمرات الرسمية، مع إرفاق النص باللغة الأخرى لتلك الجهات.
وتعتمد اللغة العربية في كتابة المعاهدات والاتفاقيات والعقود التي تعقد بين الدولة والدول الأخرى، والهيئات والمنظمات الإقليمية والدولية، ويجوز اعتماد لغة أخرى، على أن ترفق بها ترجمة إلى اللغة العربية.
القانون الجديد أكد على أن اللغة العربية هي لغة التعليم في المؤسسات التعليمية العامة، إلا إذا اقتضت طبيعة بعض المقررات تدريسها بلغة أخرى، وفقًا لما تقرره وزارة التعليم والتعليم العالي.
كما تلتزم المؤسسات التعليمية الخاصة بتدريس اللغة العربية مادة أساسية مستقلة ضمن مناهجها، ووفقًا للقواعد والضوابط التي تضعها وزارة التعليم والتعليم العالي.
إلى جانب ذلك، التأكيد على أن تنشر الأبحاث العلمية التي تمولها الجهات الحكومية وغير الحكومية باللغة العربية، ويجوز النشر بلغات أخرى، على أن يقدم الباحث في هذه الحالة، مختصرًا باللغة العربية.
أسماء الشركات المحلية والعالمية
القانون الجديد يلزم الشركات التجارية والمالية، بأن تسمى بأسماء عربية الشركات، والمؤسسات ذات الأغراض التجارية والمالية والصناعية، والعلمية والترفيهية أو غير ذلك من الأغراض.
يجوز للشركات والمؤسسات العالمية والمحلية التي يكون لأسمائها الأجنبية أو أسماء منتجاتها شهرة عالمية ذات علامة مسجلة، أن تحتفظ بالاسم الأجنبي، على أن يتم كتابته باللغة العربية إلى جانب اللغة الأجنبية.
ويضيف نص القانون “تكتب باللغة العربية البيانات والمعلومات المتعلقة بالمصنوعات والمنتجات القطرية، ويجوز أن يرفق بها ترجمة بلغة أخرى، كما يلزم بأن تكتب العلامات التجارية والأسماء التجارية والمسكوكات والطوابع والميداليات باللغة العربية، ويجوز كتابة ما يقابلها بلغة أخرى، على أن تكون اللغة العربية أبرز مكانًا.
القانون حظي بتفاعل واسع على مواقع التواصل الاجتماعي في قطر وخارجها. وشارك مغردون قطريون وعرب تفاصيل القانون، مشيرين إلى أنّه فريد من نوعه، ومطالبين المؤسسات كافة بالعمل على تطبيقه والالتزام به حماية للغة العربية، التي ربما لا يعلم الكثير من العرب غيرهم أن عدد كلمات هذه اللغة 20 مرة أكثر من عدد الكلمات في اللغة الأنجليزية، فكل ما نراه من تطور وتكنولوجيا حديثة مبنية على لغة لا تتعدى كلماتها ٥٪ من اللغة العربية.
تفاعل واسع
وقد عبر معظم المغردين عن آرائهم بأن القانون قرار موفق متمنين المزيد من هذه الأنجازات. فرحب المفكر المعروف محمد حامد الأحمري في تغريدة له قائلا ” قرار مشكور ومهم جدا أن يتم تنفيذه ولا يبقى على الورق” كما دعا الأحمري إلى تعميم هذا القانون على دول عربية أخرى. وتفاعل مواطن قطري بالقانون وقال إنه يفكر في التوقف عن استخدام اللغة الإنجليزية في الأماكن العامة ليفرض على هذه الجهات توفير متحدثين باللغة العربية.
وقال ياسر أبوهلالة في تغريدة له “لنتخيل لو أن الدول العربية طبقت هذا القانون من 10 سنوات لوجدنا أن ملايين من أصحاب الكفاءات أتقنوا العربية. شكى لي ديبلوماسي غربي بأنه نسي ما تعلمه من اللغة العربية في العالم العربي. وأسر تعلم أطفالها العربية في الغرب ونسوها في بلادهم”. وغرد علي الكواري “نتمنى إلزام كافة المطاعم والمقاهي ومكاتب الخطوط القطرية باللغة العربية (تحدثاً وكتابة الفواتير) حسب ماجاء بهذا القانون”. وقال عبدالناصر زياد هياجنه “قانون حماية اللغة العربية، خطوة للأمام يجب تكريسها والبناء عليها نحو المزيد من رعاية اللغة العربية وخدمتها”.
وغرد الصحفي العراقي سيف الهيتي،عضو نقابة الصحفيين العراقيين “في القرن المنصرم أول دولة عربية شرعت هذا القانون كانت ليبيا في الخمسينات ومن بعدها العراق في عام ١٩٧٧، والتحقت الجزائر عام ١٩٩١، وفي القرن الحادي والعشرين جاء الاردن مشرعاً ومحافظاً، وفي عامنا هذا كانت قطر، بانتظار بقية الدول الناطقة بلغة الضاد!”.
وغردت الباحثة القطرية في التوثيق اللغوي والتراث ظبية بنت عبدالله السليطي قائلة “لم تملك أية لغة في العالم ما تملكه اللغة العربية من فصاحة وجزالة ووفرة ألفاظٍ وعمق معانٍ وبلاغة تراكيب،ونحمد الله الحمد كله أن قيض لنا ولها من يحميها في وطننا قطر ،شكراً من القلب أميرنا العربي المتميز لإصدارك قانون حماية اللغة العربية في قطر وليس هذا عليك بغريب”.
وقال باحثون وخبراء إن الدوافع التي جعلت قطر تتبنّى مثل هذا المشروع تتلخّص في عاملين محلي ودولي، فالخلل الكبير في التركيبة السكانية للدولة واختلال الميزان الديموغرافي لصالح الأجانب يعدّ عاملا محليا يفرض على الحكومة القطرية اتخاذ خطوات عملية تحفظ للبلاد هويتها الحضارية والثقافية، والاهتمام المتزايد عالميا باللغة العربية وكونها لغة روحية لأكثر الأديان انتشارا في العالم يستدعي من البلدان العربية الجادة إعادة الاهتمام بلغتها.
وقال المدير العام للمنظمة العالمية للنهوض باللغة العربية الدكتور علي الكبيسي إن “دولة قطر بتبنّيها مثل هذا القانون تعترف دون خجل أو مجاملة بالحقيقة والوضع الخطير الذي وصلت إليها اللغة العربية في عقر دارها”. وأضاف أن “الدوافع التي جعلت دولة قطر تتبنّى مثل هذا القانون هي نفسها الموجودة في بقية الدول الخليجية، بل والعربية جميعا”.
وحذر الباحث في الأدب العربي الدكتور ادي ولد آدب من مجاملة الوافد الأجنبي على حساب لغة البلد الذي يقيم فيه، داعيا إلى تسهيل تعليم اللغة العربية عن طريق قيام المؤسسات والمنظمات العلمية والثقافية بطباعة كتيبات صغيرة تحتوي على العديد من المفردات والمصطلحات التي يكثر استخدامها بشكل يومي وترجمتها إلى اللغات الأخرى حتى يسهل تعلم اللغة العربية على الأجانب.
الرابعة عالميا
والحقيقة أن اللغة العربية، مثلها مثل كل اللغات في العالم شهدت ازدهارا ورقيا عندما كان العالم العربي منارة إشعاع في العصرين الأموي والعباسي فكتبت بها شتى العلوم والفنون والآداب والفكر.
كما تراجعت لأسباب عديدة داخلية وخارجية ، منها الإستعمار و تراجع العقل العربي وجنوحه للتقليد وغيرها من العوامل التي أدت إلى تراجع مكانتها ودخولها في أزمات عدة.
اللغة العربية تأتي حاليا في المرتبة الرابعة في ترتيب اللغات الأكثر انتشارا في الكرة الأرضية بعد الإنجليزية والفرنسية والإسبانية، وبذلك تعد العربية من أكثر اللغات تداولًا في العالم.
وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن العربية هي اللغة الأم لأكثر من 290 مليون نسمة في العالم، معظمهم في العالم العربي، يضاف إليهم 130 مليونًا يتحدثون بها كلغة ثانية. وتتوقع الإحصائيات أن يصبح عدد المتحدثين بها نحو 647 مليونًا سنة 2050، ما سيشكل 6.94% من سكان العالم.
وتعد اللغة العربية من قلائل اللغات السامية التي صمدت في وجه التاريخ، كالعبرية والأمهرية والتيغرينية. وهي من أغنى اللغات من حيث الكلمات والمعاني، ويتجاوز القاموس العربي 12مليون كلمة، بحسب قاموس “المعاني” الإلكتروني.
كما أن الأبجدية العربية تتألف من 28 حرفًا، وهي تعد ثاني أكثر الأبجديات انتشارًا في العالم، وتستعمل لكتابة العديد من اللغات غير العربية كالفارسية والأفغانية والكردية.
القرار شجاع والتعميم مطلوب
وعموما يأتي مشروع قانون حماية اللغة العربية لتعزيز الهوية العربية والإسلامية، والإعتزاز بلغة القرآن الكريم وإبراز أهميتها و سيادتها في بلدها داخل المجتمع القطري، وكذلك الحد من الاستهتار والتمادي والاعتداء على لغة الوطن والأمة والدين.
وإذا ما أحسن الأفراد والمؤسسات تطبيق وتنفيذ قانون حماية اللغة العربية سيكون ذلك سببا فعالا في المحافظة على اللغة العربية وعودة الأمة إلى لسانها الأصلي الذي غيرته في كثير من المقامات والمقالات، واستبدلته بألسنة دخيلة، وسوف يعيد للعربية رونقها وبهاءها ومكانتها ومنزلتها، متربعة على عرش اللغات كما أراد لها الله عندما ختم رسالاته بأفضل رسله، وأنزل عليه أفضل كتبه، واختار لكتابه أفضل لغة وهي اللغة العربية.
يبقى فقط أن يتم تعميم مثل هذه القرارات على معظم – إن لم نقل كل – الدول العربية خاصة التي تعرضت لفترات استعمارية طويلة على غرار الجزائر التي بقيت تحت نير الاستعمار 132 سنة، كادت خلالها أن تفقد هويتها وثقافتها، لكن المجتمع الجزائري لا يزال يحاول منذ أكثر من نصف قرن لاسترجاع لغته الذائبة في لغة المستعمر من خلال مشروع التعريب وتعميم استعمال اللغة العربية..لكن دون جدوى..وهذا موضوع آخر سنعود إليه في الأيام القادمة.