هل يمكن للعلم أن يصنع حضارة؟ نعم، والإسلام أول من أثبت ذلك. في زمن تتسارع فيه وتيرة التقدم العلمي والتقني، تعود بنا ندوة “قيمة العلم في بناء الحضارة” بمعرض الدوحة الدولي للكتاب إلى الجذور الأصيلة التي جعلت من العلم لبنة أساسية في صرح الحضارة الإسلامية. فالعلم لم يكن مجرد أداة للمعرفة، بل كان رسالة إيمانية وأخلاقية تنبثق من الوحي وتخدم الإنسان.

ندوة “قيمة العلم في بناء الحضارة” أبرزت كيف أن الإسلام شرّع طلب العلم كفريضة، وربط بين المعرفة والسلوك، وغرس في العلماء قيمًا مثل التواضع والإخلاص واحترام الاختلاف، مما أنتج نهضة علمية لا تزال آثارها حية في الطب والفلك والرياضيات. هذه المبادئ الأخلاقية والمعرفية شكّلت سرّ ازدهار الحضارة الإسلامية.

إذا كنا نتطلع اليوم إلى نهضة عربية وإسلامية جديدة، فالمفتاح هو في إعادة تفعيل العلاقة المتوازنة بين العلم والقيم، واستلهام منهج العلماء الموسوعيين الذين جمعوا بين علوم الدين والدنيا لخدمة الإنسان والمجتمع.

شهد المسرح الرئيسي لمعرض الدوحة الدولي للكتاب في نسخته الرابعة والثلاثين ندوة فكرية متميزة تحت عنوان “قيمة العلم في بناء الحضارة”، وذلك ضمن فعاليات الصالون الثقافي، وسط حضور جماهيري واسع ومشاركة نخبة من المفكرين والباحثين في الشأن الإسلامي.

أدار ندوة “قيمة العلم في بناء الحضارة” محمد الجاسم، الباحث المتخصص في علوم القرآن، وشارك فيها كل من الأستاذ حسن الرميحي، الباحث في الدراسات الإسلامية، والدكتور سالم القحطاني، الباحث في التراث الإسلامي، والأستاذ فداء الدين يحيى الناشط على شبكات التواصل الاجتماعية في المجالات الثقافية.

العلم في الإسلام.. منارة حضارية

في مستهل ندوة “قيمة العلم في بناء الحضارة”، أكد المتحدثون أن الحضارة الإسلامية قامت على أساس متين من العلم والإيمان، معتبرين أن القرآن والسنة شكّلا المرجعية المعرفية التي انطلقت منها جهود العلماء المسلمين في مختلف المجالات.

وأشار الباحث فداء الدين يحيى إلى أن الإسلام جعل من طلب العلم فريضة شرعية، وأسّس لحضارة جمعت بين الوحي والعقل، وكانت منارة علمية للعالم، حيث ساهم علماء المسلمين في تطوير الطب، والفلك، والرياضيات، ولم يكتفوا بالنقل، بل أسسوا لنهضة علمية أصيلة أثّرت في مسار البشرية.

أخلاقيات العلماء.. سر النهضة

وشدد يحيى على أن تقدم المسلمين في ميادين العلم كان مقرونًا بمنظومة أخلاقية راقية، تميز بها العلماء، مثل:

  • التواضع العلمي
  • احترام الاختلاف
  • الإخلاص في النية
  • نسبة الفضل لأهله

وأكد أن هذه القيم كانت مفتاحًا للتفوق، داعيًا إلى إحيائها في زمن الماديات وتراجع المعايير الأخلاقية في المجال المعرفي.

القرآن والعلم.. علاقة تأسيسية

من جهته، أكد الدكتور سالم القحطاني أن العلم يمثل قيمة مركزية في التصور الإسلامي، مشيرًا إلى أن القرآن الكريم رفع من مكانة العلماء، ووصفهم بأنهم أهل خشية حقيقية من الله، مستشهدًا بقول الله تعالى:

{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28].

كما استدل القحطاني على دقة التشريع الإسلامي في ربطه بين العلم والسلوك، بآية صيد الكلاب المعلّمة في سورة المائدة، لافتًا إلى أن هذه الآية تعبّر عن عمق الوعي القرآني بدور العلم في تنظيم الحياة.

وأشار كذلك إلى حديث النبي :

“من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهّل الله له به طريقًا إلى الجنة”،
مؤكدًا أن فضل العلم لا يزول بوفاة صاحبه، بل يستمر أثره كصدقة جارية.

خصوصية المنهج العلمي الإسلامي

وفي مداخلته، أوضح الدكتور حسن الرميحي أن العلم في الإسلام لم يكن أداة استعمار أو توسّع، بل كان وسيلة لتحقيق العيش الكريم ضمن مرجعية الوحي، مشيرًا إلى أن المسلمين الأوائل طوّروا علومًا فريدة مثل أصول الفقه وعلم الحديث، واهتموا بفكرة السند التي مثلت نموذجًا استثنائيًا في الدقة المعرفية.

كما شدد على أن الثقة بالشفاهية في نقل المعارف، كانت ظاهرة لافتة في الثقافة الإسلامية، ما يعكس دقة حفظ النصوص والتشريعات قبل التدوين.

تكامل الدين والدنيا.. علماء موسوعيون

تطرقت ندوة “قيمة العلم في بناء الحضارة” إلى سمة الشمولية التي تميز بها العلماء المسلمون، حيث لم يكن التخصص ضيقًا، بل كان العالم يجمع بين الطب والفلك واللغة والشريعة والفلسفة، في انسجام لافت بين علوم الدين والدنيا، ضمن رؤية تؤمن بوحدة المعرفة وخدمة الإنسان.

وأشار المتحدثون إلى استفادة العلماء من العلوم التجريبية لخدمة الشعائر الإسلامية، مثل علم الفلك الذي استخدم في تحديد أوقات الصلاة واتجاه القبلة، ما يؤكد دمج العلم بالسلوك العبادي.

دعوة لإحياء النهضة العلمية

اختتم المشاركون ندوة “قيمة العلم في بناء الحضارة” بالتأكيد على أن بناء المستقبل يبدأ من استعادة العلاقة المتينة بين العلم والقيم، مشددين على ضرورة دعم البحث العلمي ضمن إطار أخلاقي أصيل، والعمل على تجديد المنهج الإسلامي في العلم والمعرفة، بما ينسجم مع تحديات العصر ويعزز موقع الأمة في السباق الحضاري العالمي.