فرحة عفوية لا توصف في الشارع العربي للفوز الرياضي الكبير الذي منحته لهم دولة قطر، حتى على مستوى الناس الذين لا تهمهم الكرة كثيراً من مفكرين وأكاديميين وعلماء وخطباء!
هناك أكثر من سبب، بينها حاجة الإنسان العربي للخروج من حيّز الإحباط الذي يلفّه من كل الجهات، حتى خيّل إليه أنه يحمل في طبيعته جينات التخلّف والفشل، وفجأة رأوا أنفسهم قادرين على أن ينجزوا شيئاً، وأن ينافسوا الآخرين ولو في المجال الذي لا يشكل الأولية بالنسبة لقضاياهم أو همومهم.
انتصار قطر على اليابان وعلى الفرق الكبيرة الأخرى أيقظ في النفس شعوراً إيجابيّاً بإمكانيّة الدخول في مجالات المنافسة الأخرى، فنحن مثل شعوب العالم لا نختلف عنهم في شيء، نفوز ونفشل، نتقدم ونتأخّر، ننتصر وننهزم، تدور الدورة لنا مرة ولغيرنا أخرى، هكذا هي طبيعة المجتمعات البشرية، لكن الفشل كل الفشل أن نفقد الثقة بأنفسنا، لتسيطر علينا حالة الفشل الطارئة، حتى نراها كما لو كانت نهاية التاريخ.
لقد خطّط القطريون تخطيطاً متميّزاً، ووضعوا لكل سؤال جواباً، وأصرّوا على الفوز ففازوا، هذه هي كل القصّة، ليست هناك معجزات ولا خوارق للعادات، ولو استخدمنا هذه المنهجية في أي مجال من مجالات الحياة لتميّزنا وتفوّقنا كذلك.
إن الفريق الذي يعمل بروح الفريق، ويمتلك التدريب العالي، ويتمتع بالدعم المطلوب رسمياً وشعبياً سيفوز، لنجرّب هذا في حياتنا كلها، في التعليم، وفي الطب، وفي الصناعة …الخ.
إذا كنّا مثلاً نجعل الكفاءة شرطاً في وصول اللاعب إلى المنتخب بلا مؤثّرات جانبية، ولا “واسطة” ولا محسوبيّة، فلنجرّب هذا في أي مؤسسة نريد منها أن تتقدم وتنجح وستتقدم وتنجح.
وإذا كان الفريق كله يعمل تحت الشمس فتظهر مواهبه كما تظهر معايبه، دون تستّر ولا تحرّج، ثم تجتهد الإدارة في معالجة الخلل بكل ثقة وأمانة وشفافية، فلنجرّب ذلك في أي مؤسّسة أخرى، ولننتظر النتائج. وإذا كان المجتمع كله قد وقف مع الفريق مشجعاً ومؤازراً مهما كان اسم اللاعب وأسرته أو قبيلته، ومهما كان شكله وبشرته، المهم لعبه وأداؤه، فلنجرّب ذلك أيضاً في أية مؤسسة أخرى.
هذه أيها الناس سنن الله في هذه الحياة، أخذنا بزمامها قروناً من تاريخنا، فكانت لنا الريادة، وتفلتت من أيدينا فضاع منا كل شيء، وما زالت التجارب الجزئية في حياتنا المعاصرة تمدّنا بالنماذج المختلفة، لتترسخ عندنا هذه القناعة.
لقد قرر العراق في مطلع ثمانينيات القرن الماضي أن يبني جيشاً نموذجياً، فكان له ذلك، وكانت منشآت التصنيع العسكري تتطوّر بشكل لافت وتواكب باستمرار حاجة الجيش، وأذكر أن صديقاً لي عُيّن مسؤولاً في إحدى هذه المنشآت، فاستغرب الناس لأنه لم يكن بعثياً، فشرح لهم كيف أن القيادة عزلت البعثي لعدم كفاءته وعينته مكانه، هكذا تقدّمت الكفاءات، وهكذا أصبح العسكري -مهما كانت رتبته- مهاباً ومحبوباً في مجتمعه، ولو طُبّق هذا النهج في المجالات الأخرى لأصبح العراق شيئاً آخر.
إن دولة قطر صنعت نموذجها الرياضي وصنعت نموذجها الإعلامي -وهناك مجالات أخرى على الطريق- لتؤكّد اليوم أننا مثل شعوب العالم إذا أردنا أن نفوز فإننا سنفوز.