لا يخفى على أحد حالة العداء المتصاعدة ضد الوجود الإسلامي في الغرب، فيما يعرف بظاهرة “الإسلاموفوبيا”، التي تتغذّى على روافد متعددة؛ بعضها لا علاقة له بالإسلام كمنهج وفكر، ولا بالمسلمين كواقع وممارسة؛ وإنما يتصل بالصراع الداخلي في المجتمعات الأوربية.. هذه الصراعات التي توظّف “الورقة الإسلامية” في مواسم الانتخابات ومعادلات الصراع السياسي والاجتماعي؛ كما أشار لذلك الصحفي الفرنسي إيدوي بلينيل في كتابه (من أجل المسلمين).
وفيما يتصل بمواجهة هذه الظاهرة الخطيرة المتنامية، هناك الكثير مما يمكن فعله، خاصة على المستوى الفكري وتوضيح أن الإسلام والمسلمين لا يمثلون- عند الإنصاف والتدقيق- عنصر توتر للمجتمعات الغربية؛ بل على العكس، لديهم ما يمكن تقديمه لهذه المجتمعات على الأصعدة الروحية والمعرفية والاجتماعية.
ومن الوسائل المهمة التي ينبغي الاستعانة بها في هذا الصدد، تلك الأعمال الفكرية الرصينة التي قدمها غربيون منصفون لهم إسهام جيد في دراسة ومتابعة الحضارة الإسلامية؛ فكرًا وممارسة، قديمًا وحديثًا..
فهذه الكتابات الغربية المنصفة تفيدنا في نقد ظاهرة “الإسلاموفوبيا” وتفنيدها، من أكثر من وجه؛ فهي كتابات لغربيين من الصعب اتهامهم بالانحياز للإسلام وحضارته؛ فهم غير مسلمين أصلاً.. كما أن أصحاب هذه الكتابات لهم اطلاع عميق على الإسلام وما يتصل به؛ فهي كتابات من مختصين مشهود لهم بالخبرة في هذا المجال، وشهادتهم لها وزنها العلمي والفكري.
وما أكثر تلك الكتابات الغربية المنصفة التي تفيدنا في مواجهة “الإسلاموفوبيا”؛ مثل كتابات المستشرقة الألمانية “أنا مارى شيمل” صاحبة العديد من المؤلفات المنصفة للإسلام، ومنها كتابها: (إنسانية الحضارة الإسلامية).. وكتابات المستشرقة البريطانية كارين أرمسترونج التي لها مؤلفات كثيرة رائعة وعميقة، مثل: (معارك فى سبيل الإله: الأصولية في اليهودية والمسيحية والإسلام)، (محمد ﷺ نبي لزماننا).. والمستشرقة الألمانية زيجريد هونكه صاحبة الكتاب الأشهر: (شمس الله تشرق على الغرب)، وكتاب (الله ليس كذلك).
فهذه الكتابات قد تناولت الحضارة الإسلامية في جوانبها المتعددة، ورصدت إسهامات المسلمين المتميزة في مسيرة الفكر والحضارة الإنسانية، وخبرت جيدًا ما يختزنه الإسلام من قدرة على العطاء الحضاري وعلى مد الجسور الإنسانية.. مما يساعد في توضيح الصورة الصحيحة عن الإسلام والمسلمين، ومحو تلك الصورة النمطية الزائفة التي يراد تثبيتها، وبل وتحويلها من النطاق الفكري إلى الصراع السياسي، ومن مجرد أصوات نشاز إلى سياسات راسخة وبرامج عملية تشق طريقها عبر التنافس الانتخابي!
وعلى سبيل المثال، تعرِّي زيجريد هونكه، في مقدمة كتابها المهم (الله ليس كذلك)- ترجمة د. غريب محمد غريب- هذا الإصرار الغربي على تجاهل الحقيقة التاريخية، وتقديم صورة تناسب مخيلته هو؛ فتقول: “لقد أصر الغرب إصرارًا على دفن حقيقه العرب في مقبره الأحكام المتعسفه والافتراءات الجماعيه دفنًا، وأهال عليها ما أهال طمسًا منه لمعالمها؛ على الرغم من محاولاتنا المعروفه، كما يشهد بذلك كتابنا (شمس الله تشرق على الغرب) الذي صدرت أولى طبعاته عام 1960، وكتابنا (قوافل عربيه في رحاب القيصر) والذي صدر عام 1976؛ حيث أخدنا على عاتقنا أن نخرج الإنجازات والتأثيرات العربيه ذات الفضل على العلوم والفنون في أوروبا”.
وتضيف: وعلى الرغم من أن محاولاتنا تلك قد شقت طريقها شقًّا في متاهات عدم المعرفة المتوارثة: فقد استقر فى أذهان السواد الأعظم من الأوروبيين الازدراء الأحمق الظالم للعرب الذي يصمهم جهلاً وعدوانًا بأنهم (رعاة الماعز والأغنام الأجلاف لابسو الخرق المهلهلة)، أو أنهم (محدثو الثراء الفاحش من شيوخ البترول المتكئون على أرصدتهم الضخمه التي تطفح بها بنوك سويسرا). ولا يزال صريخ القوم يحذّرهم من سطوة الإسلام الحربي الذي يتهددهم منذ أن أوقف الفرنسي (شارل مارتل) زحف المسلمين، متحينًا الفرصة للانقضاض!! ولا يزال القوم يروّجون للخرافات السائده هنا مثل (استعباد الإسلام للمرأة)!”.
ثم تكشف هونكه في صراحة تحمد لها كثيرًا، أن هذا الزيف التاريخي بحق الإسلام يراد له أن يكون (حالةً مَرَضية) وسياسةً متأصلة لدى الغرب! فتقول: “والحق أن محور الأمر ومداره أن ذلك التصوير المشوّه الممسوخ المقصود المتوارث منذ القرون الوسطى لذلك العدو الكافر، أى لأولئك المدعوّين بأنصار محمد، يراد له أن ينقلب إلى كره متأصل، كحاله مَرَضية يرزح الغربي تحت كابوسها الخانق” (ص: 7، 8).
ولاحقًا، سَيلفت الصحفي الفرنسي إيدوي بلينيل النظرَ إلى محاولات إحلال العداء للمسلمين محل العداء لليهود، في لعبة صناعة (العدو الداخلي) التي يبدو أنها باتت تمثل ركيزة أساسية لدى صناع القرار الغربي! فيقول: “إنه فخ مكشوف، ولكنه فعّال مع الأسف. إن اليمين المتطرف لم يغيّر أبدًا أصله التجاري؛ أي الخوف والكراهية المتأججة وتعيين أكباش فداء؛ لكنه غيّر الهدف، من خلال الحدس بأنه في ظل الارتباك العام المستشري والعقول المبلبلة، فإن حركة معادية للأجنبي ستحظى بالحق في الاحترام إذا نأت بنفسها عن معاداة السامية” (ص: 44). ويستشهد بما رصدته المؤرخة فاليري إيغوني من أنه مع نهاية سنوات الألفين لم يعد اليهودي هو عدو الجبهة الوطنية، بل المسلم الفرنسي (ص: 43).
وبسبب من هذا التشابه، فإن بلينيل أطلق صرخته (من أجل المسلمين) على غرار صرخة (من أجل اليهود) التي أطلقها الأديب الفرنسي إيميل زولا سنة 1896م.
وفي مشهد منصف آخر، توضح كارين آرمسترونج– في حوارها مع موقع “قنطرة”- خطأَ الزعم بأن الإسلام نفسه، متمثلاً في القرآن الكريم، هو السبب وراء عنف بعض المسلمين، فتقول: “لا ينبغي ذلك لسببٍ بسيطٍ هو أن هذه المقاطع القرآنية لم تثِر الإرهاب على مدى التاريخ. كلُّ إمبراطوريةٍ تقوم على السلطة، سواء كانت هندية أو صينية أو فارسية أو رومانية أو يونانية أو بريطانية. وهذا ينطبق أيضًا على الإمبراطورية الإسلامية. كان الإسلام حتى بداية الحداثة أكثر تسامحًا بكثيرٍ من المسيحية الغربية.
وعندما احتل الصليبيون القدس سنة 1099، أصيب الشرق الأوسط بصدمةٍ جرَّاء مجازرهم التي ارتكبوها بحق سكَّان المدينة المسلمين واليهود. ممارسة هذا العنف المنفلت من عقاله لم يكن معروفًا هناك. ومع ذلك، استغرق الأمر خمسين عامًا إلى أنْ قام المسلمون بردِّ العدوان بشكلٍ فعليٍ. وهنالك عنف في الكتاب المقدَّس العبري وفي العهد الجديد يفوق ما في القرآن من عنف”.
وتضيف: “جميع الكتب المقدسة تحوي فقرات عُنْفٍ يتمُّ اقتباسها واستخدامها خارج سياقها وتُولى أهميَّةً مفرطةً تهدم رسالتها السلميَّة التي تكمن من حيث المبدأ في جميع الأديان”.
بهذه الأطروحات المنصفة، يمكن أن نرتكن إلى أساس فكري ذي مصداقية في تعرية ظاهرة “الإسلاموفوبيا” ومواجهتها، من دون أن نُتهم بالانحياز إلى ديننا وإلى ذاتنا الحضارية.. فهؤلاء غربيون أنطقتهم الحقيقة، بعد أن عايشوها سنوات عديدة، وليس لهم مأرب سوى الدفاع عما انتهوا إليه من نتائجَ بوازعٍ من البحث العلمي النزيه، وليس الانخداع بمقولات زائفة والوقوع في فخ سياسات جائرة..
وما أحرانا أن نستفيد من تلك الكتابات التي يستحق أصحابها منا كل تقدير وتبجيل..