تعتبر كتب رحلات الحج من المصادر التاريخية التي وثقت تجارب الحجاج، ومن المصادر الغنية في رصد بعض التفاصيل المتعلقة بتاريخ وثقافات وأحوال المسلمين لعصور مختلفة وحقب زمنية متعددة. ميزة كتب أدب رحلات الحج بالدرجة الأولى أنها تسجل انطباعات الرحالة وتصوراتهم حسب الأضواء المسلطة عليها، وزاوية التناول، ورؤية كتابها وثقافاتهم وخبراتهم الحياتية. وكتاب “أفئدة من الناس .. فصول في أدب الحج وثقافته” لمؤلفه الأديب السعودي حسين محمد بافقيه من الكتب الملفتة التي رصدت جوانب من أدب الحج، عمله كرئيس تحرير لمجلة متخصصة في الحج والعمرة قاده إلى تتبع القديم والجديد من الرحلات الحجازية، ورغب في التعرف على موقع الحج في حياة المسلمين، وهي الموضوعات التي أدمن القراءة والكتابة فيها.
كتب حسين بافقيه في ديباجة كتابه: “أما الحج، فمهما قرأت وكتبت، فإنه لا يزال أرحب مما نكتبه وأوسع مما نعرفه. وليست كتب الرحلة الحجازية – على علو شأنها – إلا وجها واحدا من وجوه الحج. ففي كل ناحية من ديار المسلمين قصص عن الحج تستحق أن تروى، وثقافة تغور في ذاكرة أبنائها يجدر أن تدون.”
احتوى كتاب “أفئدة من الناس .. فصول في أدب الحج وثقافته” على مقالات تناولت موضوعات مختلفة تتصل كلها بالحج.
يبدأ حسين بافقيه في أصل حكاية رحلة الحج وفلسفتها، وينبه إلى أن السير في هذه الرحلة الخالدة “على خطى إبراهيم عليه السلام” ما هو إلا وسيلة لمعرفة معنى (الاكتمال) وحالة من (العبور) بين حياة مضت وعودة إلى لحظة الميلاد، وأن في طيات هذه الرحلة اكتظاظا للرموز والمعاني تستوجب من الحاج التأمل.
أما تأمل المؤلف لرحلة سيدنا إبراهيم عليه السلام فقد قاده لاستلهام عنوان الكتاب مستفيدًا من الآية الكريمة: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (إبراهيم : 37).
ثم يدلف إلى الآية الكريمة: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (الحج:27)، وتستوقفه كلمة (ضامر)، فينطلق من ضمور الناقة إلى التفكير في قوافل الحجيج وما احتفظت به كتب الرحلات بأخبار الجمال وكرائها.
استعرض الكتاب تاريخ الحج منذ زمن النبي إبراهيم عليه السلام وحتى العصر الحديث، وركز المؤلف على التطورات التي طرأت على طرق الحج ووسائل النقل، من الجمال والخيول إلى الطائرات والقطارات، وعلى التحولات التي جعلت من الحج رحلة ميسرة مقارنة بالماضي، مؤكداً على أهمية هذه التغيرات في تحسين تجربة الحجاج.
الحج والإنتاج المعرفي
وينبه بافقيه القارئ إلى أن بوسع الباحث من مختلف التخصصات الاعتماد على الحج كمؤسسة تامة الأركان تمس أوجه الحياة كافة – بحسب وصفه – ذلك أن رحلة الحج لها علاقة بالقدرة المالية والصحية، والقوافل أضحت من أعمال الدول فتحتاج للجند والأطباء والعلماء والطباخين وغيرهم من شتى المهن. وحجم الإنتاج في أدب الحج يكشف عن كم المسائل التي طرقت هذا الباب ووضعت له الكتب والرسائل في الفقه والمناسك والجغرافيا، أو كما عرف بعلم (البلدانيات والمسالك والممالك).
وضرب المؤلف أمثلة عديدة لكتب اعتنت بطرق الحج وبالمدن والبلدات والقرى والصحاري، وما إلى ذلك مما تمر بها قوافل الحجاج.
بعرض نماذج من كتابات الرحالة المسلمين مثل ابن بطوطة وابن جبير. ونقل المؤلف كيفية تصوير هؤلاء الرحالة لمشاعرهم وتجاربهم الروحية، وأبرز أساليب السرد والوصف التي استخدموها.
يعكس الكتاب أيضًا كيف كانت الرحلة إلى البيت العتيق مكابدة روحية أحدثت تحولا عظيما في حياة الأدباء والمفكرين، وأثر هذه التجارب الروحية العميقة خلال أدائهم للمناسك وكيفية انعكاس هذه الرحلة على حياتهم بعد العودة إلى أوطانهم.
الحج والإثراء الحضاري
يناقش الكتاب تأثير الحج الكبير على الثقافة الإسلامية. يوضح المؤلف كيف أسهم الحج في تعزيز الوحدة والتفاهم بين المسلمين، وكيف نقل الحجاج المعارف والتقاليد من بلدانهم إلى الحجاز ومنها إلى بقية العالم الإسلامي.
يبرز الكتاب كيف أن أدب الحج أثرى الثقافة العربية والعالمية على حد سواء، مقدماً رؤية شاملة ومعمقة لفهم أبعاد هذه الشعيرة العظيمة وتأثيراتها المتعددة، كما أن الحضارة الإسلامية زاخرة بكنوز الرحلات المنسية والمحققة التي أفردت للحج مكانة كبيرة في مؤلفاتها.