دائمًا ما أخذت الدراسات التي تتناول عمارة المدن في الحضارة الإسلإمية أو تخطيطها طابعًا جافًّا جعل الكثيرين يعزفون عن قراءتها، وبالتالي لم تتكون ثقافة واسعة لأهمية هذه المدن وتراثها. جاء كتاب (التراث الحضاري والمعماري للمدن الإسلامية) من تأليف د. خالد عزب كمحاولة لربط تراث المدن الإسلامية من حيث الشكل والمضمون والمكونات ببعضه، فيستعين تارة بالدراسات التاريخية، وتارة أخرى الاجتماعية، وثالثة المعمارية، ورابعة بعلم أصول الفقه، وخامسة بتخطيط المدن، فمن حيث مصادره نراها متنوعة، ولكنه أخرج منها رؤية محددة المعالم متكاملة الأركان .
الرسول وأسس العمارة الإسلامية
يبدأ الفصل الأول من الكتاب بالبحث عن جذور تخطيط وعمارة المدن الإسلامية في المدينة المنورة في العصر الأول، فعندما استقر الرسول ﷺ بها قام بتحديد الوظائف الأساسية للمكان، ومنها محورية المسجد الجامع، وبساطة وفاعلية المسكن، والسوق، ودور الضيافة، وغيرها…
وكلها الأسس المبكرة للمدن الإسلامية والتي قامت على استيعاب تراث السابقين وتقديم الجديد الذي يتلاءم مع روح الدين الإسلامي وقيمه.
يقودنا المؤلف بعد ذلك إلى المدينة في التراث العلمي الإسلامي في الفصل الثاني من الكتاب، فهو هنا يبرز أحوال الإنسان في الاجتماع والأسباب الموحية لاتخاذ المدن، فالاجتماع الإنساني فطرة مجبول عليها الإنسان للحصول على منافعه في الدنيا والآخرة، بدأت بالعجز الفطري الذي دفع إلى الخضوع للخالق، ومن ثَم البحث عن الرزق، ثم التعاون لسد حاجات البعض للبعض لتنتهي إلى اتخاذ المدن، وهي الصورة الإنسانية للاستقرار المؤقت الذي يدوم بدوام الحياة، وينتهي عندما يرث الله عز وجل الأرض ومن عليها.
ونتعرف في هذا الفصل على أهمية المدينة عند علماء الحديث، فقد ربط بين علم وعلماء الحديث وبين المدن، فحينما تذكر مدينة بمعالمها يذكر معها علماء الحديث بها وطبقاتهم، أما المدينة عند الفقهاء فقد اهتموا بأحكام البناء بها، كما كان لهم دور كبير في صياغة أحكام الأوقاف التي كان لها دور فاعل في نمو المدن.
جغرافية المدن خارجيًّا وداخليًّا
ويستطرد المؤلف حول عمارة المدن في الحضارة الإسلإمية في رؤية الجغرافيين المسلمين للمدينة، الذين درسوا المدن وفق قالبين منهجيين:
الأول منهج دراسة المدن من الخارج ويندرج تحته كتب الزيوج والجداول الجغرافية، وهي الكتب التي تحدد مواقع المدن باستخدام خطوط الطول ودوائر العرض. ومنهج دراسة المدن من الداخل يندرج تحت كتب الخطط كما هو في الكتب التي وضعت عن خطط مصر منذ النصف الثاني من القرن الثالث الهجري مثل ما كتبه ابن عبد الحكم والكندي والمقريزي، والأخير وضع دراسة مفصلة مشهورة لخطط مصر. ويندرج تحت هذا المنهج الكتب التي أفردت لتواريخ المدن الكبرى كمكة المكرمة وبغداد ودمشق.
وكتب الرحلات الجغرافية، وكتب الحضارة والعمران، وهذه تبحث في مدينة العرب وأحوال البوادي والأرياف وعن خصائص مواقع ومواضع المدن، وضوابطها البشرية والطبيعية وعوامل قيامها وزوالها، ومن أشهرها مقدمة ابن خلدون، فأفرد المؤلف هذا الفصل لدراسة تحليلية مفصلة لشروط اختيار مواقع المدن وصفات مواضعها، فابن خلدون يرى أن من شروط اختيار المدن، أن تحاط بسور يدفع المضار، أن تحتل موضعًا ممتنعًا من الأمكنة على هضبة أو على نهر أو باستدارة بحر، مع مراعاة اتخاذ الموقع الذي يتمتع بطيب الهواء للسلامة من الأمراض. وسهولة جلب الماء بأن يكون البلد على نهر أو بإزائه عيون عذبة. طيب المراعي لسائمتهم، ومراعاة المزارع فإن الزروع هي الأقوات.
شروط اختيار المدن
يرى ابن الأزرق في كتابه “بدائع السلك في طبائع الملك”، الذي يُعَدّ أول من تناول مقدمة ابن خلدون بالشرح، أن ما يجب مراعاته في أوضاع المدن أصلان مهمان: دفع المضار، وجلب المنافع، ثم يذكر أن المضار نوعان: أرضية ودفعها بإدارة سياج السور على المدينة، ووضعها في مكان ممتنع، إما على هضبة متوعرة من الجبل، وإما باستدارة بحر أو نهر حتى لا يوصل إليها إلا بعد العبور على جسر أو قنطرة فيصعب منالها على العدو، والنوع الثاني من المضار سماوي ودفعه باختيار المواضع طيبة الهواء لا ما خبث منه بركوده أو تعفن بمجاورته مياهًا فاسدة، أو منافع متعفنة أو مروجًا خبيثة يسرع المرض فيها للحيوان الكائن فيه لا محالة. ويكشف عن أن هناك علاقة طردية بين كثرة ساكني البلد وحركة الهواء فيها، ويضرب لذلك مثلاً بفاس التي كانت عند استبحار العمران بأفريقيا كثيرة السكان فكان ذلك معينًا على تموج الهواء وتخفيف الأذى عنه، وعندما خف ساكنوها ركد هواؤها المتعفن بفساد مياهها فكثر العفن والمرض.
والأصل الثاني جلب المنافع، وهو يتأتى بمراعاة أمور منها، توفر الماء وقرب المزارع الطيبة؛ لأن الزرع هو القوت، ولا خفاء في أن هذه الأمور تتفاوت بحسب الحاجة وما تدعو إليه ضرورة السكان.
اختتم المؤلف هذا الفصل بالحديث عن طرق المواصلات بين المدن الإسلامية وخاصة بين المدن ذات الصفة التجارية، حيث أقيمت الخانات على الطرق لتأمين راحة التجار والدواب.
تقسيم المدينة
ويكشف الفصل الثالث الذي يتناول فيه مكونات المدن الإسلامية عن أن نظام المدينة الإسلامية هو نتيجة طبيعية للتوازن بين التجانس والتبيان الاجتماعي، في نظام اجتماعي يتطلب كلاًّ من: فصل الحياة الأسرية، والمشاركة في الحياة الاقتصادية والدينية للمجتمع، ومن ثَم تشكلت المدينة من نظام يقوم على تقسيم المدينة من حيث التخطيط إلى ثلاثة مستويات هي:
- الأماكن العامة: وهي التي تقع على جانبي الشارع الرئيسي للمدينة، وتشمل الأسواق المركزية، والمتاجر الكبرى المغطاة والمكشوفة، وورش المهنيين، والحمامات، وما إليها…
- الأماكن نصف العامة: وهي التي تقع على جانبي الشوارع المركزية للأحياء والتي تتفرع من الشارع الرئيسي للمدينة، ويتخللها بعض المباني السكنية.
- الأماكن الخاصة: وهي التي تقع على امتداد الحواري والمسالك المسدودة الضيقة أو المنعطفات والتي تتفرع من الشوارع المركزية للأحياء.
وقد لاحظ المؤلف من خلال دراسته وجود مظاهر للخصوصية في الصورة العامة للمدينة منها: التزام مباني الأحياء بارتفاع يكاد يكون ثابتًا فيما عدا المساجد. تعدد الأفنية وتداخلها بين مجموعات المباني وفي داخلها لاستقطاب حياة الناس إلى الداخل، انسياب الأسواق المغطاة وامتدادها خلال الكتلة العمرانية للمدينة، مشكلة محاور للحركة ولتلاقي السكان بين الأحياء المختلفة. تلاحم الأحياء المختلفة والمباني بعضها ببعض، معبرة عن التلاحم والترابط الاجتماعي في المدينة. تشعب مسارات الشوارع والدروب والطرقات في خطوط ملتوية منها أيضًا شجيرات من المسالك المقفولة لتوفير الحماية للمدينة.
الرباع والمكتبات
ومما يلفت الانتباه بين ثنايا هذا الفصل اهتمام المؤلف بالرباع وهي منازل بنيت طبقات فوق بعضها يحتل الطابق الأول منها محلات تجارية وورش للصناع، كانت تؤجر لسكن الفقراء وأشهرها ربع السكرية في القاهرة.
ونراه يعرج على المكتبات العامة التي اهتم بها الخلفاء والسلاطين والملوك، وكانوا يتباهون بما يجمعون فيها من كتب مخطوطة، وينفقون عليها ببذخ شديد، فانتشرت خزائن الكتب من نجاري إلى فاس وقرطبة، كان يعمل بكل مكتبة موظفون يرأسهم الخازن وهو أمين المكتبة والذي كان يختار من أهل العلم والمكانة، ومن أشهر خزائن المكتبات سهل بن هارون وابن مسكويه وأبو سيف الإسفراييني، كان بكل مكتبة عدد من النساخين والمترجمين والمجلدين، بالإضافة إلى عدد من المناولين الذين يحضرون الكتب.
الضيافة وكرم العرب
ونظرًا لما عرف عن العرب من كرم، وحسن استقبالهم للضيف، وحث الإسلام على إكرام الضيف وبصفة خاصة أبناء السبيل، فقد اهتم الكتاب بدور الضيافة التي تنقسم إلى ثلاثة أنواع، النوع الأول دور الضيافة العامة ومن أشهرها دار مدينة بولعوان بالمغرب التي شادها أهالي المدينة لتكون دار ضيافة يستضاف فيها الذين يمرون بالمدينة بالمجان.
والنوع الثاني من الدور، هو دور ضيافة الحجاج التي انتشرت بكثرة في مدن العالم الإسلامي على طرق الحج، ومن أشهرها دار ضيافة الحجاج ببغداد. والنوع الثالث دور الضيافة الرمضانية، والتي كان يقدم بها الطعام للفقراء.
ويعالج هذا الفصل أيضًا موضوع موارد المياه التي هي عصب الحياة وعامل لنشوء الحضارات، في حالة توفره، وهي أيضًا أهم عوامل انتهائها في حالة ندرته، فعندما لا تتوفر في مدينة ما أسباب الزرع وتربية الحيوان، فإنها لا تلبث أن تضمحل وتنتهي، والأمثلة على ذلك كثيرة، فمدينة العمار في صحراء راجاسان بالهند، فقدت أهميتها وهجرت نتيجة لنقص الماء؛ لذا فقد حرص الخلفاء العباسيون على توفير المياه لعاصمتهم بغداد فأقيمت في عهد المنصور قناة تأخذ مياهها من كرخايا أحد روافد الفرات، وتجري في عقود وثيقة من أسفلها محكمة بالآجر من أعلاها، واستخدمت أساليب أكثر تركيبًا مثل إمداد مدريد بالمياه بواسطة القنوات الجوفية والتي تجلب المياه من أماكن بعيدة.
أما المراصد الفلكية فقد عدها المؤلف من المنشآت المعمارية التي انتشرت في المدن الإسلامية، كان لها دور هام في تقدم علم الفلك عند المسلمين، وأبرز هذه المراصد، مرصد مراغة، بُني المرصد خارج المدينة، وقد أنشأه مانجو فان أخو هولاكو في القرن السابع الهجري، ويُعَدّ مرصد مراغة أول مرصد استفاد من أموال الوقف؛ إذ وقفت عليه عقارات وأراضٍ، لكي يتم ضمان استمرارية العمل به.
ربط المؤلف أيضًا كل هذا بجماليات المكان من خلال تعرضه للحدائق في المدن الإسلامية، خاصة حدائق الهند المغولية وحدائق الأندلس.
الحداثة والعولمة في المدن
أما الفصل الرابع من الكتاب فيقدم تلك الجهود التي بذلت في السنوات الأخيرة لتنشيط الوعي بأهمية التراث الحضاري والمعماري للمدن الإسلامية، طارحًا ومناقشًا قضايا الحداثة والعولمة في المدن، والمحافظة على المدن القديمة، ثمن المؤلف في هذا المضمار جهود منظمة المدن العربية التي أسست في الكويت سنة 1967 موضحًا أهدافها ودورها، كما تعرض للمؤسسات التابعة لها كمعهد إنماء المدن في الرياض والذي يقوم بتدريب الكوادر البشرية لرفع مستوى الأداء في مختلف قطاعات المدن، فضلاً عن إجراء البحوث والاستشارات وتوثيق التراث.
أما جائزة منظمة المدن العربية فمقرها الدوحة بدولة قطر، وهي تمنح ثلاث جوائز رئيسية هي جائزة المشروع المعماري، وجائزة التراث المعماري، وجائزة المهندس المعماري.
وتعرض المؤلف كذلك لمنظمة العواصم والمدن الإسلامية، وهي تلعب دورًا مماثلاً ومتكاملاً مع منظمة المدن العربية، وكانت قد أسست سنة 1979، ومقرها مدينة مكة المكرمة، وأبرز إنجازاتها مشروع موسوعة العمارة الإسلامية التي صدر جزء منها عن عمارة القاهرة.
جيهان محبوب5>