صدر حديثا كتاب “سيرة المؤسس الشيخ قاسم بن محمد آل ثاني” للباحث الدكتور علي بن غانم الهاجري، عن دار جامعة حمد بن خليفة للنشر. يقع الكتاب في 262 صفحة ويسرد محطات حياة المؤسس، وأبعاد شخصيته المتعددة، ليقدم نموذجا قياديا شاملا جمع بين الحكمة والعلم الواسع والقيم الإنسانية السامية.

يقدم هذا الكتاب سيرة أشهر أعلام دولة قطر وأحد أبرز قادة الأمة العربية والإسلامية في العصر الحديث ، وهو المؤسس الشيخ قاسم بن محمد آل ثاني رحمه الله والذي كان نبراسا في العلم والقيم الإنسانية ، وقاد نهضة الدولة القطرية الحديثة مجسدا وحدتها ومثبتا أركانها ، ولذا استحق مكانه في الصدارة بين أبرز القادة العرب والمسلمين .

ومن خلال سيرته المقدمة في هذا الكتاب ، تتجلى سماته الأصيلة المتفردة ، ودوره السياسي والاجتماعي والعلمي والإصلاحي والأدبي والخيري ، ضمن سيرة عامرة بالدروس والعبر ملهمة للعقول ومثرية للأفكار ومفعمة بالأصالة والأخلاق النبيلة .

ومن بين هذه الأبعاد جميعا برز بعد استثنائي جعل منه أيقونة للعطاء على امتداد العالمين العربي والإسلامي وهي مبادراته الرائدة في مجال الأوقاف والعمل الخيري .

يهدف هذا المقال إلى تسليط الضوء على هذا البعد من سيرة المؤسس الشيخ قاسم بن محمد آل ثاني رحمه الله ، ومستنداً إلى التوثيق الذي يقدمه كتاب الدكتور علي بن غانم الهاجري وتوضيح أسس رؤية الشيخ قاسم بن محمد الخيرية والتي لازالت آثارها ممتدة إلى يومنا هذا.

المؤسس وانبعاث العمل الخيري

إن نظام التكافل الاجتماعي جزءٌ أصيلٌ في الحضارة الإسلامية، وبه استطاع المجتمع الإسلامي أن يغطّي ضرورياته الأساسية، وحاجياته المجتمعية، ومكملاته الثقافية في أكثر المجالات حيويةً، وقد تطوّر النظام التكافلي عبر مبادرات الخلفاء والملوك والأمراء والميسورين على مدى قرون. ومع دخول العالم العربي والإسلامي في دوامة المواجهات الخارجية مع القوى الاستعمارية، تراجعت فاعلية النظام التكافلي

وفي خِضمّ هذه المواجهات، ظهر الشيخ قاسم بن محمد آل ثاني، فوحّد مناطق قطر تحت إمارته، مسترجعًا الأنظمة التعاونية الخيرية التي كادت أن تندثر، فأحياها من جديد، وأضاف إليها أبعادًا جديدة وفق معطيات العصر، وانتشرت من خلاله الأعمال الخيرية في المجالات الإنسانية والاجتماعية والعلمية والدينية، وأوقف من أجلها الأوقاف، كما دعا إليها، وشجّع الميسورين، حتى أسس مجتمعًا متكافلاً مترابطا مستنهضا بأعباء الحضارة الإنسانية الراقية. 

للمؤسس فلسفة واضحة الرؤية في انبعاث الأعمال الخيرية، وفق الظروف والتحديات ومعطيات العصر، وقد أعاد ترتيب الأولويات في العمل الخيري، بناءً على قانون الضرورة والحاجة، وقدّم الضروة على الحاجة، لأن الضرورة تهدف إلى دفع ضرر وقع على مجتمع ما، وجبت إزالته، خشية أن ينتج أضرارا أخرى. وتتميز تلك الرؤية بالتوازن والتوازي، في التوفيق بين معيار النجاح في العمل الخيري دون الانسياق وراء محور واحد، والذي قد يؤدي إلى فشل، فقد دفع المؤسسَ هذا التوفيق إلى توسيع مساحة المساعدات والجهات المستفيدة.

ويمثل المؤسس شخصية نموذجية متزنة في عدم الانحياز إلى عمل خيري محدد دائما، لأنه يتميز بالانفتاح لكونه يعيش هموم أمته الكبيرة، كما ظلت أعماله الخيرية لا تنحاز لفئة دون فئة، وفي هذا الصدد، قد تعاون مع السلطان العثماني عبد الحميد الثاني في دعم الليبيين ضد الاستعمار الإيطالي. ويمكن القول بأن مراعاة المؤسس لحاجات المستهدفين للأعمال الخيرية قد دفعه إلى النجاح الكبير، مع استمرارية هذه الأعمال، حيث لا تزال بعض هذه الأعمال مستمرة إلى اليوم، مثل العقارات الخيرية والمنشآت الزارعية.

أعمال خيرية لا تتحدّد بسقف

تنوعت أعمال المؤسس الخيرية، حيث شملت أكثر الجوانب الإنسانية والاجتماعية والعلمية والدينية حيوية، منها تلبية حاجة الفقراء، والمساكين، والأيتام، والأرامل، ونجدة الملهوف، وفك كربة العاني، ومساعدة الغرباء، وبناء المدارس، والمساجد، وتوفير نفقات المدرسين، وأئمة المساجد، والقائمين عليها، وطباعة الكتب، وشرائها، وتوزيعها، والإنفاق على طلاب العلم، وإكرام العلماء، وغير ذلك من الأعمال الخيرية المتنوعة.

إن أعمال المؤسس الخيرية لم تقف في مناطق قطر فحسب، بل جاوزت مناطق أخرى، مثل الرياض، والدرعية، وحريملاء، والقصيم، وحائل، وبغداد، ودمشق وغيرها من البلاد. ذلك لأن المؤسس، ينظر إلى العمل الخيري بنظرة متكاملة، بناءً على الهوية الإنسانية الجامعة، من غير التجزئة، لأنها تؤدي إلى غياب الرسالة الخيرية والإنسانية، وإن غياب الرسالة الخيرية والإنسانية يؤدي إلى استحكام الأنانية الضيقة في العمل الخيري فيكون ذلك سببًا في تمزيق النسيج الاجتماعي، بدلاً من رتقه وإعادة ما مزقته الحدود الجغرافية.

أوقاف المؤسس شاهدة

يُعتبر الوقف مظهرا من مظاهر التكافل الاجتماعي بل هو أهمها، لأنه يستوعب مجال العلم والتعليم والرعاية الصحية والإنسانية والاجتماعية وغيرها، مما يسدُّ حاجات المسلمين. وبما أن المؤسس عاشق للأعمال الخيرية، فقد أراد لها الديمومة والاستمرارية دون انقطاع، لهذا اهتم كل الاهتمام بالأوقاف، حيث أوقف لتلك الأعمال أوقافا كثيرة، حتى تم اعتبار المؤسس على رأس قائمة تاريخ الوقف الحديث، وله فضل كبير في معالجة كثير من المشاكل وتقديم العمل الخيري على اتساع الوطن العربي والإسلامي.

الأوقاف في شكل الأراضي الزراعية

وقف المؤسس الأراضي الزراعية نخيلا وبساتين بكثرة، في مناطق مختلفة، وعلى مساحات واسعة، وتميزت هذه الأراضي بخصوبتها، وفرة مياهها، وجودة تربتها، وكثرة مردودها، ومن أوقافه الزراعية، مزارع منطقة حوطة بني تميم، ومحلة الحلوة بحوطة بني تميم أيضا، وله في شمال الرياض أوقاف في محلة سلطانة، ومحلة صباح، وله وقفان بمنطقة الدرعية، وقف الفتيقة، ووقف الفريجي، ثم وقف في محلة المصانع المعروفة بكثرة نخيلها. وله أوقاف كثيرة في منطقة القصيم، فيها أربعة بساتين في منطقة المذنب، حيث يصرف عائداتها على علماء بلدة القصيم، وطلاب العلم، وله وقف آخر في منطقة الشعيب.

ومن عجائب المؤسس، أنه نسي بعض الأوقاف التي أوقفها لكثرتها، ومما يؤكد هذا، ما جرى بينه وبين حارس مزرعة حوطة بني تميم، والتي كانت بالنخيل عامرة، وطلب من حارسها يوما أن يبيع له المزرعة ونخيلها، فقال حارس النخيل للمؤسس: “هذه المزرعة لابن ثاني، وهي وقف وليس لي حق بيعه”، وكان هذا الرجل لا يعرف المؤسس، وكان المؤسس لا يعرف أن هذه النخيل من أوقافه. 

أوقاف من أجل العلم والتعليم

كان للمؤسس منشآت تعليمية متمثلة في دور العلم والمرافق التي تهتم بطلاب العلم، من مدارس، وكتاتيب، ومساجد بملحقاتها، ومساكن للمدرسين والطلاب المنقطعين الذين ابتعدوا عن مواقع سكنهم، إضافة إلى الأماكن المخصصة لإعداد الأطعمة لهم. وتمثل هذه المنشآت الركيزة الرئيسة لطلب العلم، حيث كان طلاب العلم يفدون إليها من أماكن مختلفة لتلقي العلم، وكان المؤسس يُوقف عليها الأراضي الزراعية والمحالات التجارية للإنفاق عليها من خلال عائداتها.

أوقاف في شكل المساجد

شيّد المؤسس عددًا كبيرًا من المساجد في الخليج العربي، ومن ذلك مسجد في البحرين، ومسجد في حوطة بني تميم والذي يسمى بمسجد آل ثاني، فضلا عن عدد من المساجد والجوامع التي شيّدها المؤسس في قطر، منها: مسجد القبييب في الدوحة، ومسجد في الحويلة، ومسجد في لوسيل، وغيرها.

الأوقاف التجارية

أوقف المؤسس المنشآت التجارية، ويدخل في إطار هذه المنشآت، المحلات التجارية، والدكاكين، والحوانيت، وغيرها. ومن أمثلة هذه الأوقاف، العمارتان في البحرين، والجدير بالذكر، أنه يتم استخدام عائدات تلك الأوقاف في الإنفاق على المشاريع التعليمية والإنسانية والاجتماعية. 

أوقاف الخدمات العامة

استطاع المؤسس أن يوقف كثيرا من المنشآت الخدمية التي تتعلق بالآبار في مختلف المناطق والأماكن داخل قطر وخارجها، ومن تلك الآبار، بئر في أم صلال.

أوقاف الكتب العلمية

قام المؤسس بوقف عدد كبير من الكتب العلمية، وذلك في الهند والرياض والدرعية وحريملاء والقصيم وحائل وبغداد ودمشق، ومن أهمها: كتب التفسير، والعقيدة، والحديث، والفقه، والمجامع، والتي أسهمت بدروها في نشر العلم والمعرفة وتسهيل الوصول إليهما.

آثار أوقاف المؤسس

أسهمت الأوقاف التي أوقفها المؤسس من الأوقاف الزراعية والمنشآت التجارية، والمدارس، والمساجد، في  تطور التعليم، وتطور المنارات العلمية تطورا غير مسبوق في نجد والأحساء والعراق والشام، وظهر كنتيجة لهذه الأوقاف طبقة من العلماء، وانتشرت حركة التأليف، والبعثات العلمية. كما أسهمت هذه الأوقاف في مساعدة المحتاجين، وأبناء السبيل، وتوفير الوظائف، ونشر الأخلاق الفاضلة.

الخاتمة

تبين لنا من خلال ما سبق أن المؤسس كان أيقونة فريدة متميزة في العمل الخيري، وليس في قطر فحسب، بل في كثير من البلاد العربية، فقد كانت رؤيته متطورةً في تفعيل أثر العمل الخيري خلال بناء الأوقاف بشكل منشآت تجارية، لتتولى الإنفاق على الأوقاف التي لا تدر مالا، مثل المنشآت التعليمية، والمساجد وطلاب العلم والعلماء، وقد أسهم العمل الخيري في أن تكون قطر قبلة لأصحاب العقول الراقية، والموهبة المتميزة، ما أفرز تطورا كبيرا، يُرى نبضاته في قطر المعاصرة.