يبدو أن الإنسان كان على مدار التاريخ في حاجة ماسة إلى أن يمتلك من قوة البيان ووضوح الخطاب ونصاعة الحجة ما يمكنه من نشر أفكاره و الإقناع بها , بالإضافة إلى الدفاع عنها والدفاع عن الحقوق المغتصبة .إن التفوق اللغوي والبلاغي تحتاج إليه الصفوة بحكم موقعها القيادي , كما أن ذلك التفوق قادر في كثير من الأحيان على جعل أشخاص عاديين ينظر إليهم على أنهم من الصفوة التي يحسب حسابها .
إن الرسل – عليهم الصلاة والسلام – بوصفهم حملة رسالة كانوا دائما يتمتعون بدرجة عالية من وضوح البيان والقدرة على الشرح والإقناع ,وقد اعترف قوم نوح – عليه السلام – له بأنه جادلهم فأطال جدالهم حين قالوا : ( قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين ) .وكان من جملة منن الله تعالى على داوود – عليه السلام – ما آتاه الله من القدرة البيانية حين قال : ( وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب ) .
وقد ذكر بعض المفسرين أن المراد بفصل الخطاب هو الفصل بين الحق والباطل أو هو الإيجاز بجعل المعنى الكثير في اللفظ القليل . وقد طلب موسى – عليه السلام – من ربه – جل وعلا – أن يحسن بيانه ، وأن يرفده بأخيه هارون ليكون مؤازرا في تبليغ رسالته لكونه أفصح منه لسانا حيث قال : ( واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيرا من أهلي هرون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا ) وقال: ( وأخي هرون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون ).
وأرشد نبيه – ﷺ – إلى أن يدعو الناس بتلطف ولين دون مخاشنة ولا تعنيف , وأن يستخدم معهم أحسن أسلوب في الحوار والجدال حيث قال – سبحانه – ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ) .
ملخص فصول الكتاب
أولا : البحث عن الجودة :
يواجه المتحدثون والخطباء تحدياً غير مسبوق عبر الدفق الإعلامي الهائل. ففي حين كان خطيب الحي هو الوحيد الذي يسمعه الشخص أصبح يسمع لآلاف المنظرين وأصحاب الآراء والأفكار، ومنهم من هو على مستوى عال من الثقافة وجودة الإلقاء. إن من فضل الله على الأمة الأمر باجتماعها كل أسبوع، فهل استثمرنا هذا اللقاء؟ إن خطبة الجمعة ما تزال تقوم بجزء من دورها لكنه أقل مما يجب. لأسباب منها إتباع البعض الأسلوب الوعظي وتكرار الموضوعات لدى كثير من الخطباء، وبعضهم لا يهتم بالخطبة أصلاً.
إن إدخال التحسينات على الخطاب لا يعني الوصول للكمال، بل لابد من البحث عن التحسينات بشكل مستمر. إن تحسن مستوى مخاطبة الناس والتأثير فيهم مطلب عام في الحقيقة، فوضوح التعبير شرط للنجاح في الأعمال الحياتية. والدعوة إلى الله ليست وظيفة يقوم بها فئة متخصصة، بل هي وظيفة عامة ومشتركة لكل مسلم. ولابد أن يكون ضمن مناهج الجامعات مادة للخطابة والحوار والتفاوض أسوة بالعديد من الدول المتقدمة.
ثانيا : صفات الشخصية :
في الحالة المثالية يأخذ الناس من المتحدث ما يريدون من خلال ما يسمعون، ويحددون موقفهم من كلامه لا منه. لكن التعامل لا يتم على هذا الأساس من الموضوعية الكاملة دائماً. وباعتبار اللغة ناقل غير كفء للمعاني،فإن الجمهور يعوض النقص في المعاني عبر تلمس وضعية المتكلم والإشارات التي يمكن أن يبعث بها.
وأهم هذه الأمور التي تؤثر في فهم الجمهور:
1- سرعة البديهة :هي سرعة إدراك ما يتطلبه العارض الطارئ من رد فعل مناسب، كاعتراض مستمع أو انقطاع التيار أو توقف مكبرات الصوت، مما يحتاج تصرفاً ذكياً من المتحدث، وقد يكون السكوت أو التجاهل هو الحل الأمثل إذا لم يعثر الخطيب أو المحاضر على الكلمات التي تسعفه على نحو جيد وصحيح.
2- من السمات المؤثرة الحماس لما يقول وتعاطفه مع الأفكار التي يطرحها والقضية التي يعمل على إقناع الناس بها. إن برودة العاطفة تتجلى مهما حاول الخطيب إخفاءها، أما صدق العاطفة فيأتي من اعتقاد المتحدث بأهمية ما يدعو إليه وخطورة عدم التجاوب معه. مع الانتباه ألا تجاوز الحماسة حدودها إلى المبالغة وتجاوز الحقيقة.
3- حسن المظهر عامل من عوامل تأثير المتحدث في عقول سامعيه ونفوسهم. إن نظافة وأناقة وتناسق الثياب تعزز ثقة الإنسان بنفسه. وأكثر الناس يقتنعون بالفكرة إذا اقتنعوا بمن يوردها. فالمضمون العظيم قد يرفض إذا قدم بشكل مزر. وحضارة اليوم حضارة صورة وشكل وتنظيم، ويجب مراعاة هذه الوضعية وأخذها بعين الاعتبار.
4- يحب الناس الوضوح، ويحبون معرفة الخلفية الثقافية والأسرية والمعيشية للذين يوجهونهم ويعلمونهم. وهذا يقتضي الشفافية مع إبقاء أمور ضمن الخصوصيات التي لا يطلع عليها أحد، لكن دون مبالغة في التكتم. ويمكن للداعية أن يتحدث عن بعض تجاربه الشخصية وبعض نجاحاته وإخفاقاته وبعض ظنونه وأوهامه، وليمارس النقد الذاتي.
5- يحتاج المتحدث الناجح إلى أن يكون قريباً ممن يحدثهم مقبولاً لديهم. وإلا فإن بلاغة ألفاظه وجودة إلقائه قد لا تزيده منهم إلا بعداً.
وأهم ما يحقق ذلك انسجام ما يقول مع المعروف من مواقفه. ومن المفيد استخدام الضمائر الدالة على المتكلم عوضاً عن الضمائر الدالة على المخاطبين، فيقول (نحن مقصرون) عوضاً عن (أنتم مقصرون) مع مراعاة أصول اللياقة والمجاملة، واستخدام التلميح أسوة بالرسول ﷺ (ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا . . . ).
ومن المهم ألا يتناول قضايا ومشاكل بالاستقصاء التام والدقيق، في خطبة ليست حلقة دراسية.
ومما يباعد المتحدث عن سامعيه الكبر، ومن المفيد التحبب للأشخاص بمناداتهم بأسمائهم، وإلقاء السلام عليهم.
6- جهارة الصوت ورخامته من نعم الله، وعلى المتحدث أن يعرف كيف يستفيد منها في استمالة مستمعيه والتأثير فيهم.
وذلك لأن :
أ- الكلمات ناقل رئيسي للدلالات والمعاني، لكنها ليست العامل الحاسم. وتشير الدراسات إلى أن نغمة الصوت والمظهر الخارجي للشخص تساهم في 90% من الانطباع المتكون، وأن نغمة الصوت وقوته وحدته سرعته لها تأُثير يصل إلى 35% من تفسير الآخرين لما نقول.
ب- التأكد دائماً من ملاءمة الصوت للسامعين، فالصوت المرتفع مزعج ومؤذ، والصوت المنخفض يحرم البعيدين عن المحاضر سماعه والاستفادة منه.
وهناك حاجة لتغيير وتبديل طبقة الصوت من أجل دفع السأم والملل، وحسب المكان فالمكان المفتوح يحتاج صوتاً أكثر ارتفاعاً من المغلق.
جـ- والمهم هو الموازنة بين السرعة البطء في الكلام. فالسرعة الزائدة تجعل الناس لا يستوعبون الرسالة، والبطء يجعلهم يملون ويشردون.
وفي حين أن المتحدث في الفضائيات يحتاج للسرعة والجنوح للجمل القصيرة.
د- من المهم الاهتمام بمواطن الوقف أثناء الكلام لمساعدة المستمع على الفهم. والوقفات القصيرة بين الكلمات تحدث تأثيراً بالغاً إذا أحسن اختيار أماكن الوقف.
ثالثا : التعبير غير اللفظي
مهما كانت درجة البلاغة فهي لا تضمن قبول الأفكار، وتبقى بحاجة لتدعيم ومساندة من خلال الوضعية العامة للمتحدث وهيئته وجلسته، والسامع على حق في ذلك، لأن الكثير من المصداقية يستمد من انسجام وضعيتنا العامة مع ما نقوله ونبشر به أو نحذر منه.
وفي هذا الموضوع ملاحظات :
1- دراسات رصدت دور المعطيات غير اللفظية في قبول الكلام والاقتناع به منها دراسة الأستاذ (ألبرت مهرابيان) حول الاتصال المرئي.
وهو يرى أن الرسالة يمكن أن تدرك بثلاث طرق:
أ- مرئي باللغة الجسدية تأثيرها 55%.
ب- صوتي من خلال النغمة ونبرات الصوت ويبلغ تأثيرها 38%.
جـ- شفهي وهي دلالة اللفظ على المعنى ويبلغ تأثيرها 12%.
أي أن 93% من التأثير يعود للغة الجسدية ونغمة الصوت، والبعض يرى أن قياس التأثير بهذا الشكل فيه مبالغة إلى حد كبير.
2- حين يرتاح الناس لوضعية شخص يبدؤون البحث عن الإيجابيات فيشخصيته. وحين يعجبون به يتلمسوه فيه العناصر التي منحته الجاذبية، وحين يحدث شيء من هذا ذاك تكتسب كلماته دلالات أكثر لمعاناً وأشد كثافة. وبداية الطريق ترك انطباع إيجابي لدى المستمعين.
3- من المهم الاعتدال في الحركة أثناء الخطبة والمحاضرة والحوار. فقلة الحركة قد تعبر عن التمكن من الموضوع وعن الرزانة، لكن قد يدخل فيها شيء من الكبر والعجب. وكان القدماء يعيبون على الخطيب الحركة. أما حالياً فتعد بعض الحركة المعتدلة (دون الإفراط الذي يجعل الخطيب كالمهرج) مقبولة كي لا يبقى المتحدث كالمومياء دون روح. وهذا يعود تقديره إلى الاجتهاد الشخصي.
4- بوصف اللغة ناقلاً غير جيد فمما يحسن أداءها قرن الإشارة ببعض مفرداتها وجملها. مع المحافظة على القاعدة العامة، وهي عدم الإكثار من الإشارة حتى لا يتشتت ذهن السامع وينصرف انتباهه. ولتكن الإشارة براحة الكف لا بالأصابع.
5- – للنظر أهمية كبيرة في توضيح المعاني وإيصال الرسائل إلى السامعين. فالعين مرآة الروح، وهي هامة للتفاعل بين المتسامرين والمتخاصمين. فنحن عندما نرتاح لشخص ننظر إليه مدة تصل إلى 70% من وقت الخطاب، وعند الإعراض تقل هذه المدة عن 40%. ومن المهم للمتحدث ألا يتحيز بنظره نحو جهة من المجلس أو يديم نظره إلى شخص أو مجموعة من المتفاعلين معه.
6- للوصول إلى أفضل تواصل وتفاعل مع من نتحدث إليهم فنحن بحاجة إلى انسجام انفعالاتنا وعواطفنا مع الكلمات التي نلقيها. فالناس يهتمون بمعرفة موقف المتكلم مما يقول ومدى قناعته به. ففي الحديث (أن رسول الله ﷺ (كان إذا خطب احمرت عينه، وعلا صوته، واشتد عضبه حتى كأنه منذر جيش . . . .).
ويخضع انفعال المتحدث لأمرين هامين هما الموقف والموضوع. فالعاطفة مهمة في الخطب الجماهيرية. أما عند الحديث عن قضية فقهية أو علمية، أو شرح مشكلة حضارية فإن الأسلوب الأكثر ملاءمة هو الهدوء وتحييد العواطف والبعد عن المحسنات اللفظية. فرفع الصوت والانفعال الزائد أمور غير محبذة اليوم، في حين أن الابتسامة والاستبشار والبشاشة مطلوبة.
رابعا : ثقافة المتحدث
إن العامل الأساسي في نجاح المتحدث وتأثيره ما يملكه من معلومات ومعارف عميقة ودقيقة وشاملة حول الموضوع الذي يتحدث فيه، لأن ثورة الاتصالات جعلت الناسي يتجاوزون الكلمات الرنانة إذا لم ترتكز على معطيات علمية موثوقة.
وفي ظل الانفجار المعلوماتي حدث أمران هامان:
أ- توفر كمية هائلة من المعلومات في كل مجال وكل اتجاه وعلى كل مستوى.
ب- ارتقاء معارف الناس بفنون القول وأشكال الخطاب من خلال الاطلاع والمقارنة.
والمتحدث الجيد بحاجة لزيادة معارفه على صعيدين: مستوى الخلفية الثقافية، ومستوى الإلمام بالموضوع الذي يطرقه، وهذا يحتاج جهداً ومثابرة وتنقلاً ما بين ربوع المعرفة المختلفة.
وهو بحاجة لتعميق معرفته في ثلاثة حقول:
الثقافة الشرعية، والثقافة العامة، والثقافة المتخصصة.
وعلى مستوى الإلمام بالموضوعات هناك ملاحظات :
1- أن يعرف المتحدث على نحو دقيق عن أي شيء يريد أن يتحدث. ولا ينتقل من موضوع إلى موضوع مسبباً الارتباك لسامعيه.
2- ما يمكن أن يكون موضوعاً لخطبة الجمعة يفوق الحصر. لذلك من المهم معرفة اختيار الموضوع الأكثر ملاءمة والأكثر أهمية وقت الحديث.