تمـر المجتمعـات البشرية بلحظات تاريخية فارقة، وهي تواجه جائحة كورونا ذات الخصائص الثلاث التي تجعل منهـا موضوعا قابلا للدرس العلم – اجتماعي تقتحم فيــه أعماق علم الاجتماع أو تلامس حـدوده المتداخلـة مــع تخصصـات أخــرى، كنمـط الانتشـار المتـدرج مــن المحليـة إلى العالمية، وعمق التأثــير الــذي طــال الأنساق جميعهـا في بنيتهـا الماديـة والوظيفيـة، وتأثيرها في رؤية العالم والتصورات الخاصــة بالحياة والوجود والمصـير الإنسـاني.
وإذا كانت العلوم قــد نشــأت بفعل الأحداث الجسام، وتطورت عن ثورات علمية تلت اســتعصاء فهــم الحــالات الشــاذة وتفسيرها وفق التصورات الراسخة؛ فــإن هــذا حال علــم الاجتماع وهو يواجــه تحديات ناشئة عــن التحولات العميقة في بنيــة المجتمع وأشكال التجمعات وأنماط الحياة والتفاعلات ، ويســتنهض العلماء لجعلها فرصة يعيدون فيهــا النظر بمســلمات مراحل تاريخية سابقة أو بمجتمعات مغايـرة، ومــا أحوجنـا إلى ذلــك والحدث عالمي طاغٍ هــذه المرة، لاســيما في هــذا الجزء مــن العالم الــذي آن لــه فرض حضوره على الساحة العلمية في إطار العلوم الاجتماعية.
سأعرض في هــذه الورقــة المشهد الذي يبدو عليـه العالم في حدود مــا اطلعت عليــه وأحــاول فهمه حتــى اللحظة، وأطرح كل ما يخطر في الذهن مــن تساؤلات، وأضعها أمام علم الاجتماع وعدته النظرية والمنهجية وأصحابه، رغــم مــا في الأجواء مــن الحيرة واللايقين بحقيقة ما يحدث ومآلاته، وقــد يصلح لما بعد كورونا، أو ربما يفقد أهميته، وذلك رهن بما ستتكشف عن تلك الأزمة من تطورات. وظني أن تحولا في اتجاهات واهتمامات وأسئلة علم الاجتماع لا بد أن يحدث بفعل جائحة كورونا، وما أحدثته ما صدمات وتحولات اجتماعية.
يتوســط المجتمــع- الموضوع الرئيـسي لعلم الاجتماع- عالمين كبيرين؛ ومــا فيــه مــن الطبيعي الصلـب ومــا فيــه مــن مجــرات وذرات، والذهنــي اللــين ومافيه من تصــورات وأفــكار ومعتقــدات، فإنــه يتلقــى الصدمات الناشــئة في أحدهــما، ويجعله مسرحا للكــوارث الطبيعيــة والثــورات الفكريــة، وقــد تسللت إليه من عالم الطبيعة فيروسات تدخل أفراده وتحدث فيه أثارا مدمــرة، وهــو ذو طبيعــة شرسة في الانتقــال والانتشــار مــن خــلال أهــم مــا يجعــل المجتمــع مجتمعا (الاجتــماع البــشري)، فرضــت معهــا تدابــير «التباعــد الاجتماعــي»، فضربــت البنــاء المجتمعــي في الصميــم، وهــو يصــارع للخــلاص مــن الــداء، مســتعينا بعالم الأفكار ومــا فيــه مــن تصــورات ورؤى ومعتقــدات، بــدأت بدورهــا بالململــة وقــد تحــدث معهــا صدمــة قادمــة ستتكشــف ملامحهــا في قــادم الأيــام، رغــم يقينــي أن ذلــك رهــن الإرادة المتوثبــة للعمــل والتغيــير، وبســبب موقــع العــالم الاجتماعــي الوســيط، جعــل للعلــم الــذي يدرســه أجنحــة تمتــد إلى العــوالم الصلبــة واللينــة، وتخصصاتــه الفرعية من علــم الاجتــماع الفضاء (1) وعلم الاجتماع الطبــي إلى علــم الاجتماع الديني وعلم الاجتماع النفسي، ذلك أنه يجعل أي اجتماع بشري يربو عن الاثنين مثار اهتمامه وعنايته.
1 – الفرد والأسرة والمجتمع: التباعد الاجتماعي والعزلة
اختفت فجأة جميع أشكال التجمعات البشرية خارج إطار الأسرة، وتلاشى المجتمع لصالح الانكفاء على الذات، والنكوص إلى الوحدة الأصغر في مكوناته، وفي حالة فريدة من تكبيل الجسد، زادت الريبة من كافة أشكال التقارب، خالط ذلك شعور بالخطر والخوف من انتقال العدوى والمرض، كل ذلك في مجتمعات لطالما قامت على نمط ثقافي يعزز الثقة والتقارب، ولئن طالت تدابير التباعد والعزلة، فإنه يُخشى أن تجعل التجمعات البشرية اليومية إرثًا من الماضي، ولأننا كائنات اجتماعية بطبعها ظهرت أشكال جديدة من محاولات التكيّف كالإطلالات الصادحة بالغناء أو التكبيرات من شرفات المنازل؛ وغير ذلك كثير مما حفلت به مواقع التواصل الاجتماعي.
ولعل اللجوء إلى علم النفس الاجتماعي يكون مدخلاً لفهم علاقة الفرد بالمجتمع باعتبارهما وجهين لعملة واحدة في أوقات الجوائح، التي يصبح فيها الفرد قادرا حقا على صنع واقعه بما يملك من أدوات الوعي الكافية لذلك ومايشكله الإحساس بالمسؤولية تجاه الآخرين من ضغوطات نفسية ، وفي حالة نادرة من العزلة أصابت أكثر من ثلث سكان العالم (2)، لا بد أن تجري خلالها إعادة تشكيل للذات والجسد كمفاهيم ذات أبعاد اجتماعية،كما أنها تثير أفكارًا حول الخلاص الفردي والثقة بالآخرين، والموت، والخوف من تهديد غير مرئي، وكذلك تدابير التباعد الاجتماعي التي شلّت الحركة الاجتماعية في المجالات العامة، وأطاحت بالمسافات الاجتماعية- الحميمية والشخصية والاجتماعية والعامة- وقلبت مقاييسها، ويلزمنا كذلك فهم نزوع الناس إلى التندر وحبك النكات للتعبير عما يجري من مفارقات مثيرة، وهذا يحيلنا إلى تخصص فرعي آخر بالضرورة.
وفي علم اجتماع اللغة، تُطرح اللغة كظاهرة اجتماعية تتأثر وظائفها التفاعلية وفق التحولات الاجتماعية، وأثناء الجائحة نلحظ بروز تعبيرات ومفاهيم جديدة في المجتمعات عند التعامل اليومي مع الجائحة وفهمها والتكيّف مع تدابيرها المفروضة على المستوى الجمعي، وبدراستنا للتعقيدات اللغوية والتواصلية للجائحة، من خلال المفاهيم مثل «التباعد الاجتماعي » و «الوباء » و «التعقيم » و «الحجر الصحي » و «العزل المنزلي » و «أعراض المرض » و «الحياة الطبيعية » وغيرها، نستطيع فهم التمايزات الاجتماعية، ومستوى الوعي الصحي، وآليات التعامل مع المرض، واستراتيجيات التكيّف، وطرق التعامل معها، كما تكشف لنا عن تفشي الخرافات والأفكار الزائفة حول المرض، آخذين بعين الاعتبار أن اللغة وهي تمارس دورها في التعبير عن المشاعر الجماعية ما عادت وجاهية، إذ مالت الكفة بشكل صارخ لصالح أشكال الفعل التواصلي الرقمي، وما يتطلبه ذلك من عناية أكبر بالتعابير المستخدمة، وهي تفصح عن معاني انفصلت عن علاماتها الدلالية.
وفي علم اجتماع الحياة اليومية ودراسة التفاعات اليومية بالاستعانة بالعدة النظرية والمنهجية الاثنوميثودولوجية، قد يكشف هذا العلم عن معاني سعي الناس إلى ابتكار حياة طبيعية جديدة قابلة للعيش، بعدما شهدوا انهيارًا في بنية الحياة السابقة، وما حصل من تبدل سريع في العادات اليومية والأعراف الاجتماعية ذات الثبات النسبي، كالعلاقة بين الجيران، واحترام كبار السن، وحفظ المسافات الاجتماعية، والكرم والضيافة، وغيرها. وما يأخذه المريض من تدابير يومية لحفظ نفسه وأهله من المرض خوفًا من وصمة اجتماعية تتربص به، ما جعل بعضهم يخفون حقيقة مرضهم.
وقد يعين أصحاب منظور «البناء الاجتماعي للواقع » في دراسة إمكان التحكم بشكل العلاقات الاجتماعية وتنظيمها وفق التصورات الجديدة، وربما يشهد علم اجتماع الجسد- وهو يمشي على استحياء لمعاينة تأثر أجسادنا بالعوامل والمؤثرات الاجتماعية- دفعة قوية وهو يتعامل مع بيانات جديدة في زمن الأوبئة والحجر والتباعد الاجتماعي الجسدي.
أما في علم اجتماع الأسرة، وهي تعيش مجدها الذهبي وموقعها الهام وتقوم بوظيفتها المركزية في حفظ بناء المجتمع وأبناءه، نتذكر كيف كانت الأسرة العربية تواجه تحديات عظيمة داخلية وخارجية لتغيير ملامحها وتأليب مكوناتها بعضها على بعض، وقد غدت مع الجائحة ملاذا للجميع من نساء وأطفال ورجال وشيوخ، فهل حقًا ما زالت أسرنا بخير؟
وكيف كان أداؤها أثناء الحجر الصحي؟ وهل واجهت ما واجهته أسر في مواقع أخرى من العالم من أزمات ناتجة عن الاحتكاك المباشر بين أفرادها (3) من خلافات وطلاق؟ وكيف ساهمت في مد بقية أنساق المجتمع حين استوعبت وظائفها في العمل والتعليم وغيره؟ كيف تبدلت الوظائف والأدوار داخل الأسرة وبقية الأنساق الاجتماعية ضمن الأطر الرسمية وغير الرسمية في مواجهة الجائحة؟
أظن أن البنائية الوظيفية ستشهد عودة قوية، إذا ما ثبت نجاح التضامن الاجتماعي داخل الأسر والمجتمعات، دون أن يعني ذلك أفول التصورات الصراعية، فالوجود الاجتماعي لا يحتمل أحد لونين ، وقد نضطر إلى مواجهة صراعاتنا هذه المرة بمنظور وظيفي، أو العكس! وقد نحتاج إلى أكثر من منظور لدراسة وفهم ما يجري داخل البيوت والأسر في هذه الأثناء وقد غدت ساحة للجزء الأكبر من الفعل الاجتماعي، وتحولت من مجال خاص إلى مجال عام يطل منه الملايين على العالم وهم يمارسون أدوارهم ووظائفهم عن بعد! (4)
يبدو أن أنشطة التعلم والعمل عن بعد ستستمر بعد كورونا ولو بشكل جزئي وانتقائي ريثما يتم اعتمادها أساسًا لجميع ما يمكن منها (5)، وعلى علماء الاجتماع الانتباه إلى التحولات التي ستطرأ على تصميم البيوت لتكون قابلة لاستيعاب وظائفها الجديدة، وهل ذلك ممكن في عالمنا العربي الذي ترك لمهندسي البناء هندسة حياة وأنشطة كثير من الأسر التي تشتري شققًا جاهزة وفقًا لميزانياتها لا لحاجاتها ووظائفها، وذلك في انقلاب على سيرة أجدادهم الذين كانوا يصممون مساكنهم وفقًا لبيئاتهم وأنشطتهم الداخلية والخارجية، ربما نشهد إعادة نظر بتوزيع الفراغات الداخلية والمساحات الخارجية وفقًا للحياة الطبيعية الجديدة القادمة التي يجب علينا البدء بتصميمها .
2– ازدهار المجتمعات الرقمية
لسنا حديثي عهد بالرقمنة إذ تسللت إلى مجتمعاتنا نهاية تسعينيات القرن الماضي، وازدهرت بظهور مواقع التواصل الاجتماعي مطلع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، وتتصدر حاليًا المشهد العام بكليته باحتضانها كافة أشكال الأنشطة الحياتية اليومية الهامة، وحفظت لنا نزعتنا نحو التقارب، وغريزتنا نحو الاجتماع والتواصل وهي تشهد مع جائحة كورونا أكبر عمليات التواصل حجماً وكثافة منذ ظهورها، وكأن ما كنا نستعد له منذ عقود جاء وقته الآن.
وهنا يمكن لعلم الاجتماع الرقمي كموضوع ناشئ لم يجد له مكانًا في جامعاتنا العربية بعد؛ أن يفرض وجوده بطرح التساؤلات حول التفاعلات الاجتماعية الرقمية، والشبكات الاجتماعية الجديدة الناشئة حول التعليم عن بعد، والعمل عن بعد، والتسوق الرقمي، والاجتماعات العائلية عبر الإنترنت، وتخفيف آثار العزلة والتباعد، ومدى جاهزية الدول والمجتمعات للتحول الرقمي المفاجئ. قد تحتاج مقاربات يورغن هبرماس في المجال العام وأخلاقيات التواصل إلى تفحص جديد وقد اختفت المجالات العامة لا بضغط الأنظمة السياسية، ولكن بسياسات التباعد والحجر الصحي. هل ما زالت وسائل الإعلام تعيد تعريف ماهية العالم الذي نعيش به؟ أم أن لجان بورديار رأيًا آخر في «عالم الواقع المفرط » وقد فرض نفسه تحت تهديد الخطر الوجودي؟
تخوض البشرية في وقتنا الحالي تجارب غنية ستفرز تحولات سريعة تحتاج في الوضع الطبيعي إلى عشرات السنين، ويبدو أن هذه التجارب الغنية ستؤسس لواقع جديد تغدو فيه الرقمنة خيارًا مفضلاً في التعليم والعمل، ذلك يحتاج إلى دراسات علمية لاستطلاع ما يجري في القطاعات كافة، وتقييمه، وتوجيهه نحو خيارات أفضل، تأخذ بعين الاعتبار رغبة المجتمعات من جهة، وإنجازات رأسمالية متراكمة للعالم «الحديث » الذي عرفناه من جهة أخرى، إذ تشير التوقعات أن كورونا قد تحدث الصدمة التي احتاجها كثيرون لإيقاع التغيير الذي طالما قاتل كثيرون من أجله في مجالات الاجتماع والبيئة والأعمال وغيرها، بحثّ الخطى سريعًا نحو التقنيات الجديدة اليوم كالطباعة الثلاثية، والذكاء الاصطناعي، والروبوتات وفرض أشكال مختلفة تمامًا من العولمة، وجعل الحديث عن ثورة صناعية رابعة أمرًا شديد الجاذبية. (7)
ولأننا اعتدنا التموضع خارج دائرة الفعل، قد تصبح كورونا وما تحدثه من تحولات مفاجئة غولاً يطيح بكثير من فئات المجتمع، لنجد أنفسنا أمام قضايا من شكل الفقر الرقمي، والأمية الرقمية، والفجوة الرقمية، واستعصاء إمكانية التحول الرقمي لكثير من الأعمال البسيطة، فيقع أصحابها ضحية الفقر والتهميش، أو أن تصبح الرقمنة خيارات مفروضة على جميع الفئات الاجتماعية لتسهيل مراقبتها وتوجيهها.
3- المجتمع الكوني: بين المحلية والعالمية
في حالة فريدة من الاجتماع الإنساني وتنازعه بين المحلي والعالمي، نجد ألاّ شيء أكثر محلية الآن من مجتمعات جمعت شتات أبنائنا واحتضنتهم داخل حدودها وعادت تنبش في وسائلها المحلية القديمة للعيش والبقاء، ولا شيء أكثر عالمية الآن من اجتماع شعوب الأرض على همّ واحد ومصير مشترك، فغدت تبحث في أكثر الوسائل حداثة للتواصل والعمل والاستمرار، وظهرت مشاهد تجمع تناقضات العيش البسيط إلى تقنيات العصر الحديث!
تقع موضوعات مثل: الهويات والانتماءات والثقافيات الفرعية والنسبية الثقافية والعولمة والمحلية وغيرها؛ في صلب اهتمام علم الاجتماع الثقافي، الذي سيكون إطارًا لدراسة دوائر الانتماء التي كلما اتسعت أنبأت عن المشتركات الإنسانية، وكلما ضاقت برزت التمايزات الثقافية لبني البشر، ربما تعي شعوب الأرض أن ما خلقته تناحرات دوائر انتمائهم كانت بفعل خطأ في الصور الانطباعية التي يرسخها الإعلام لتنمو على أكتافها ثروات تجارة الدم والسلاح، وليست هذه الأفكار كورونية المنشأ، وقد طرحها الفارابي قبلا في «آراء أهل المدنية الفاضلة» وتحدث عن حالة كونية من الاكتفاء تعيشها المعمورة في أوسع ما يكون من دائرة لانتماء البشر على هذا الكوكب!
وفي علم الاجتماع السياسي، يثير الانتباه غياب قيادة عالمية توجه الأزمة الحالية، في وقت تداول ما يشير إلى صراعات على حلبة الموت والمرض، خفية وظاهرة، بين أطراف متنافسة حول من وكيف سيحكم العالم في القرن 21 ، من يحسمها لا بد أن يكون ذا قدرة على امتلاك الجيل الخامس من الإنترنت، والتحكم بالحواسيب الكوانتية، والذكاء الاصطناعي، والأدوية البيولوجية، والسيطرة على الفضاء، والتواصل عبر الأقمار الصناعية، والسيارات ذاتية القيادة وغير ذلك. في مشهد قد يهدم أسس الصراعات الدولية السابقة، وتختفي معه معالم تصنيف الدول القديم، وتسود قيم سياسية اجتماعية جديدة برهن شكل النظام القادم!
وفي أجواء كورونا تتبادر إلى عالم الاجتماع السياسي تساؤلات حول وجود علاقة بين أشكال أنظمة الحكم وطرق التصدي للجوائح، وآليات الإفصاح عن المعلومات ومشاركتها مع المنظات الدولية والإعلام، وقد بدا لنا أن أنظمة استبدادية كانت أكثر قدرة على ضبط انتشار الفيروس بفرضها لقواعد وقوانين ضبط اجتماعي شديدة الصرامة، وأن المجتمعات الديمقراطية المفتوحة رغم كونها أكثر تقدمًا وحرية وثقة وإفصاحًا عن المعلومات، إلا أنها كانت مسرحًا للوباء والتخبط والفشل في أكثر من جانب، وكما بدا أن المجتمعات تتفاوت في توجهها نحو الإجراءات الرسمية التي اتخذتها الحكومات للتعامل مع فيروس كورونا، وأنه ربما تمايزت الحكومات في ردة فعلها تجاه الجائحة شدة وتراخيًا وفقًا لتقديرات يجدر كشفها، فهل استغلت الحكومات مواقفها لتحقيق مآرب أخرى؟ وهل تعلم الحكومات عن أمور خفية لا تدري عنها الشعوب؟ هل تقصّدت الحكومات إثارة الرعب والخوف في الشعوب؟ هل الإجراءات الرسمية زادت من مناسيب الثقة بالحكومات؟ هل سيقضي كورونا
على أحلام الشعوب وتطلّعاتهم التي كانت تشغلهم قبل حدوثها؟ وهل يخلق ضعف المعلومات بيئة خصبة للإشاعات والأخبار الكاذبة ومن ثم الذعر والخوف والقلق؟ وماذا حدث في المجتمعات التي كانت تعاني الحروب والمجاعات والصراعات المتنوعة في أوقات الجوائح وانتشار الأوبئة والأمراض؟ كلها أسئلة برسم الإجابة العلمية المنتظرة في حقل علوم المجتمع والإنسان.
أما جغرافية الانتشار وسبب خلو دول مثل كوريا الشمالية، طاجكستان، تركمنستان، اليمن، جزر مارشال، ناورو، ميكرونيزيا، بالاو، ساموا، توفالو، تونغا، جزر سليمان، جنوب السودان، سيراليون، جزر القمر، بوروندي، ملاوي، بوتسوانا، ليسوتو، ساوتومي وبرينسيبي من كورونا؛(8) فإنها تثير تساؤلات حول ارتباط ذلك بخروج تلك الدول من دائرة الفعل والتنقل والعولمة والحداثة، فهل كان لعزلتها الجغرافية والثقافية دور في ذلك؟ وقد نكشف حقيقة فرضية أن فيروس كورونا يستهدف المجتمعات الغنية والمتقدمة.
وأقترح بدء النظر بموضوع جديد بمسمى علم الاجتماع الكوني، يتناول الظاهرة الاجتماعية بأبعادها الإنسانية الأوسع، وأرى ذلك ممكنًا في وقت أصبحت وسائل الإعلام والتواصل الرقمية الحديثة تنقل لنا ملايين الصور وتوثق لنا آلاف الأحداث حول العالم، فضلاً عن وجود منهجيات رقمية جديدة قادرة على التعامل مع البيانات الضخمة التي تتدفق حول العالم من خلال الشبكات الاجتماعية، وسيساعد ذلك على إغناء الدراسات الاجتماعية المقارنة، وبناء التصورات النظرية المستندة على أوسع مدى للرؤية والتأمل، وقد يفسح ذلك المجال لبناء تصورات نظرية أوسع وأشمل عند توسيع دائرة الاستقراء والتأمل.
4- التغير الاجتماعي: تبدّل التصورات وأنماط العيش
في حالة من تراجع قيم الحرية لصالح قيم أخرى، فإنه لا شيء متحرر الآن أكثر من التصورات والأفكار والطرق التي كنا نرى بها العالم من قبل، ولا يخفى أننا نعيش تغيرًّا متسارعًا ومفاجئًا وغير مخطط له فُرضَ تحت ضغوط الحماية والخوف. فهل انقلب العالم أم انقلبت أفكارنا عنه أم انقلب على ذاته؟ هل نحن في حلم؟ أم أننا عدنا إلى وعينا؟
شاهد الناس مجتمعات الرفاهية، الحديثة، المتقدمة، الصناعية بحالة انكشاف غير مسبوقة لسوءاتها؛ نظام صحي منهار، وسياسات متلكّئة في تقديم خدمات الرعاية واتخاذ الإجراءات الصارمة لحماية السكان، وغربيون يرفضون العودة إلى بلادهم، ودول ضعيفة تؤوي أوروبيين، وحرق علم الاتحاد الأوروبي في إيطاليا، والتدافع على المناديل الورقية في المراكز التجارية، ورئيس أمريكا يقرأ على نفسه التعويذات، ومدن أوروبية ولأول مرة ترفع صوت
الأذان، والكثير مما لا يمكن حصره، كل ذلك في أنظمة ديمقراطية/ علمانية كانت تشكل حلاً جميلاً لكثير من أبنائنا.
وتعرضت كثير من مسلّماتنا وطرق عيشنا التي تشكلت خلال فترة طويلة من التناحر المفروض بقانون «أن المغلوب مولع أبدًا بتقليد الغالب » ، وحالة «عصبية التراث » إلى هزة نحَت بكثيرين لرصد المفارقات بين ما تصورناه وما شهدناه ووضعها في إطار الطرفة المتداولة، وبآخرين لإقناع أنفسهم أنهم ربما يعيشون حلماً ما.
يحلو للمتأملين في حقول الفكر ودوائر المعارف وقد منحتهم كورونا الوقت الكافي لذلك التفكير بمصير مفاهيم كانت طاغية قبيل أيام كالرأسمالية، والخصخصة، وسوق العمل، والعولمة، والحداثة، والتجارة العالمية، والشركات العابرة للقارات، والعلمانية، والنيوليبرالية، وغيرها وهي تتعرض لضربات متتالية، تحدث معها تغيرات لا يستهان بها في الرؤى والتصورات، وتفرض تحديات عظيمة على علم الاجتماع نأمل معها إعادة النظر بطرق الاشتغال به طوال العقود السابقة في عالمنا العربي!
إذا حدث ذلك ستتبدل أوراق «غابة الرموز » عند فكتور تيرنر وتظهر معاني جديدة لكل الأطر التصورية التي فُرضت بالقوة الصلبة أو الناعمة، كي سيتعيّن النظر في «فهم الآخرين لنا» ، في فهم ذواتنا التي ربما خبرت نفسها لأول مرة بعيدًا عن الصور النمطية السائدة، وقد تجرأت وسائل إعلام غربية على نقل صور الأبطال من بني جلدتنا وهم يقاتلون الفيروس ويضحون بأنفسهم لأجل هذه الغاية النبيلة.
وقد تغدو نظريات التحضر والتصنيع كلامًا استعلائيًا استعماريًا فارغًا ليس له صلة بالواقع، أما نظرية دوركايم في تصنيف المجتمعات البعيدة أساسًا عن واقع عربي متأرجح بين التقليدي والمتطور، ربما تصبح مثارًا للسخرية وهي تنظر للزيادة السكانية كعامل أساسي في تحول المجتمعات من البسيطة إلى المعقدة، في وقت تستهدف الدول تقليل عدد سكانها للتخلص من أعباء رعايتهم، لاسيما كبار السن، فضلاً عن مشاهد العودة لأنشطة حياتية مرتبطة بالمجتمعات التقليدية البسيطة ونحن في عصر الرقمنة، كالعودة إلى الزراعة، والاكتفاء الذاتي، وصناعة الخبز البيتي ومؤونة البيت، وغيرها، وأظن أن كورونا سيشكل نقطة بارزة في السيرَ الذاتية لكثير من المفاهيم والموضوعات والأحداث عند النظر إليها من زاوية الخيال السوسيولوجي كآلية للفهم والنظر العلم-اجتماعي.
سيكون مستغرَبًا استمرار حضور نظرية الأطوار الفكرية الثلاثة لأوجست كونت، كأطر تفسيرية لواقع نشهد فيه ونراقب عودة للفكر الديني في أبرز أروقة مؤسسات الدول الغربية السياسية والاجتماعية، ولا أقل من الجزم بعدم صلاحية نظريته لمجتمعات أخرى لا يشكل الدين فيها سلطة تحجُر على العقل والعلم، وحين نتابع ما يقوله الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفراي (9) ، يتبادر إلى الذهن سؤال حول انتعاش أفكار ابن خلدون ونظريته الدائرية في سقوط ونهوض الحضارات، فهل حقًا ستنكفئ أوروبا إلى عهد «البداوة » وتدخل نادي أعضاء العالم الثالث؟ وهل نستفيد آنئذ من أفكار بيتر بيرغر وتوماس لوكمان في البناء الاجتماعي للواقع وآليات بناء مجتمع جديد وفقًا لتصورات جديدة؟ وإذا كان ممكنًا تغيير المجتمعات الإنسانية لأنماط حياتها وتصوراتها بشكل مفاجئ وشامل وخلال فترة زمنية قصيرة!
وإذ حدثت تبدلات في مختلف أنماط العيش والأدوار الوظيفية داخل الأنساق الاجتماعية التقليدية، يعود من الضروري تدخل العدة النظرية والمنهجية للباحثين في علم الاجتماع الاقتصادي، وعلم الاجتماع التربوي لدراسة وتقييم الأشكال الجديدة من العمل والتعليم والتسوق، وما نشأ عنها من تبدل في العلاقات والبنى التي تحكم سيرها، وما ظهر من مشاكل اجتماعية واستراتيجيات التكيّف وغيرها ما يمكن رصده في هذه المجالات، وظني أن أشكال التعليم والعمل ستزدهر بشكل كبير بعد كورونا، وتجعل منها الحكومات خيارها المفضل، وقد تجد فيها المجتمعات فائدة كبيرة كذلك من جهة تخفيف مصاريف النقل والرسوم الدراسية، رغم خطورة السير بهذا الاتجاه دون دراسات حقيقية تراعى فيها مصالح المعلمين والعاملين الذين سيتعرضون لخسائر كبيرة في وظائفهم التي يمكن القيام بها بعدد أقل، أو باستبدالهم بروبوتات مبرمجة للقيام بأعمال بشرية في كثير من القطاعات.
ما يلفت الانتباه في حالة الإجماع على أن العالم بعد كورونا لن يكون كما قبله، هو غياب من يتحدث عن التخطيط والمشاركة في صياغة شكل العالم الجديد، وكأننا في هذه البقعة من العالم سنبقى كما كنا قبل كورونا خارج إطار العالم، وخارج إطار الفعل المستقل سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، وأرجو أ لاّ يكون ذلك صحيحًا.
5 – ما بعد المابعديات!
تهمنا كمتخصصين في علم الاجتماع النماذج الفكرية التي تطورت عبر تاريخ الفكر الغربي خلال العقدين الماضيبن، لما لها من علاقة مع النظريات التي شكلتها ومناهج البحث التي تطوّرت عنها، ويلفت نظر المتأمل تراكم النماذج المابعدية في وصف مراحل التطور الفكري الغربي، وانتشاره على امتداد العالم، فما تفتأ تعلن كل مرحلة عن ذاتها، حتى تلحقها أخرى ما بعدية، فظهرت ما بعد الوضعية تعلن خطأ الوضعية، وما بعد الحداثة تعلن فشل الحداثة، وما بعد الحقيقة تعلن ضياع الحقيقة، وما بعد الأخلاق تتحسس فقدان الأخلاق، وما بعد الإنسانية خشية على الإنسانية، وما بعد الرقمية تحسبًا لما هو قادم، وما بعد العلمانية إعادة للنظر في عنصر هام بالمجتمعات لا يمكن إغفاله.
كل هذه المابعديات في الفكر الإنساني تجعل الإنسان المتابع والمتأمل يطرح على نفسه سؤالا بسيطًا ومعقدًا في الآن ذاته: ماذا بعد؟ هل سيكون لجائحة كورونا دورٌ في حسم شكل المرحلة الفكرية القادمة، ونحن نشهد تأثيرها في العديد من الرؤى والتصورات السائدة؟ صحيح أن النموذج المابعد حداثي هو الأكثر ازدهارًا في هذه المرحلة، ولكن هل سيطور ذاته، ويعلن موت الإنسان وعودة الإله إلى مركز الوجود؟ هل سنشهد انعطافة غربية باتجاه الدين، يستطيع رصد ملامحها من يتابع المشهد في الفكر الغربي عن كثب؟ متى وكيف سيحسم أهم جدل بين العلم والدين؟ هل يمكن للمجتمعات أن تحقق سعادتها المنشودة دون ذلك الحسم؟
قد تبدو تخصصات فرعية مثل علم الاجتماع الديني أو علم اجتماع الإسلام أو علم اجتماع المعرفة معينة للنظر في تساؤلات ملحّة حول مآل المقولات المابعدية، ومآل مقولات «ما بعد العلمانية » وهي تقرر أن الدين عنصر جوهري في المجتمعات، وتبحث في الدور الذي يمكن للدين أن يقوم به في تلك المرحلة؟ وهل تمتلك الرموز الدينية بأشخاصها ومؤسساتها العدة المعرفية المطلوبة لصياغة ذلك؟
6– الأخلاق أولاً وأخيرًا: أولويات القيم
كانت الحرية قيمة القيم، لا تعلو عليها أخرى في المجتمعات الديمقراطية وغير الديمقراطية على حد سواء، الأولى ممارسةً، والثانية تطلعًا، وتحت وقع الجائحة أعيد النظر بــ «أولويات القيم » وتصدرت قيم المسؤولية وحفظ النفس والتضامن المشهد الاجتماعي عبر الإعلام ومداخلات الناس على حساباتهم الرقمية، وتصريحات المسؤولين، وأصبح التباعد الاجتماعي، خلقًا اجتماعيًا وسلوكًا لتحقيق قيمة المسؤولية الفردية تجاه المجتمع والآخرين، وبات الالتزام بالحجر الصحي تدبيرًا مؤشرًا على الالتزام والحرص، لا بل اعتُبر مسؤولية تجاه الوطن.
كما غدت مسؤولية رأس المال، ومسؤولية الدولة، ومسؤوليات المجتمع، مهمة في حفظ النفس والمجتمع والوجود الإنساني، تليها قيمة التضامن الاجتماعي بعد تزاحم المصائب القديمة إلى المتعلقة بأزمة كورونا على الأفراد والأسر، ويبدو كذلك أن قيم الفضيلة ستزدهر تحت وطأة العزل والحماية وتجنب انتقال العدوى، وأصبحت الفواحش والعلاقات غير الشرعية في زمن الكورونا محل ريبة وخوف، بعد أن كانت نسبة الولادات غير الشرعية (خارج إطار الزواج) في كثير من دول أوروبا تتجاوز النصف قبل كورونا. (10)
ويلحظ المراقب تحرر قيمة البطولة من صورة الجندي المحارب للأعداء، بعد أن تعلقت أماني الشعوب والحكومات بأبطال آخرين مرابطين في غرف المرضى والمختبرات والرعاية الصحية، والخدمات الموازية، وبرزت قيمة العلم والمعرفة، والتفاني والإخلاص لكل الماكثين في مواقعهم الضرورية لاستدامة الحياة وتوفير متطلباتها الرئيسية.
والأخلاق والقيم والأعراف والعادات والتقاليد موضوعات أساسية في علم الاجتماع كونها تشكل أحد أهم مكونات الثقافة، ومن خلالها يمكن لعلم الاجتماع أن يتعامل مع تساؤلات تستكشف طبيعة القيم التي تسود وقت الأزمات الكبيرة، وكيف تعيد المجتمعات ترتيب أولوياتها المعيارية، وما المصادر التي تستند إليها في إعادة الترتيب، هل كانت بنوازع ذاتية أم بدوافع خارجية؟ وكيف يمكن تحول عدوى الفيروس إلى عدوى أخلاقية تنشر قيم الخير والتضامن والمسؤولية تجاه بعضنا بعضًا؟ كما يمكن النظر في القيم القابعة خلف وظائف الأنساق المختلفة والقيم القابعة خلف مصالح طبقية رأس مالية وقت الجوائح، ويبدو أن ما بعد أزمة كورونا سيشهد فتح ملفات حقوقية وأخلاقية فيما مورس من قبَل كافة الدول من سياسات تتعلق بملفات حقوق الإنسان والتحيز والتمييز تجاه كبار السن والفئات الأقل حظًا عمومًا.
7 – مجتمع المخاطر: رؤية كورونية
اهتم علم الاجتماع بما يحيق بالمجتمع من مخاطر منذ نهايات القرن العشرين، وصدر لعالم الاجتماع الألماني أولريش بيك Ulrich Beck كتاب «مجتمع المخاطر » في 1986 ، عالج فيه آثار الحداثة على الإنسان والبيئة، ألحقه بآخر حول «مجتمع المخاطر العالمي » ليرصد فيه آثار العولمة في نشر مخاطر الحداثة في البيئة والاقتصاد والأمن والإنسان وأسماها المخاطر الطيارة، العابرة للحدود والتي يمكن أن تحيق بالعالم أجمع، في صورة تستدعي إلى الذهن سلسلة السوائل والحداثة السائلة لعالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان، و «عالم منفلت » للأمريكي أنتوني جيدنز، وتشكّل حول مجتمع المخاطرة جدل كبير ساهم فيه عدد من علماء الاجتماع جعل (11) معه ممكنًا ولادة تخصص فرعي جديد علم اجتماع المخاطر أو علم اجتماع الكوارث، واعتبرت المساهمات الناقدة للحداثة الغربية إطارًا نظريًا غنيًا لهذه التخصصات وما يطرح فيها من موضوعات.
يحق للمرء الاندهاش من ازدهار تلك المجالات العلمية في مجتمعات لطالما اعتُبرَت الأفضل، وتجاهلها في مجتمعات تحيق بها المخاطر من كل جانب؛ الحروب والفقر والجهل والأمية والاستبداد، بما يؤكد أحد أبعاد الأزمة العميقة التي تعيشها العلوم الاجتماعية العربية، ولعل كورونا وهي تعيد ترتيب أولوياتنا في الحياة، يكون لها الأثر ذاته في الخطط الدراسية في
الجامعات وخطط الأبحاث في مراكز الدراسات العربية، ونبدأ بدراسة التجارب البشرية والتاريخية، وسياسات مواجهتها للمخاطر، والتعامل معها، ويكون لنا إسهام حقيقي في صياغة التوجهات النظرية العلمية في هذا المجال، ذلك أننا في هذه البقعة من العالم نملك موقعًا يتيح لتشكيل رؤية مختلفة عن تلك التي يراها آخرون في مواقع أخرى تجاه المخاطر البيئية والأمن والسلم العالمي، والعولمة الثقافية، والتمييز والعنصرية، والاقتصاد الرأسمالي، وآخرها وليس آخرًا المخاطر البيولوجية والتقنية.
ونحن إذ نسعى لفهم واقعنا الاجتماعي، لا يجوز لنا أن نقتصر في ذلك على الرؤى والنظريات الغربية، ولعل كورونا يجعلنا نعيد النظر في ما لدينا من عدة مفاهيمية ونظرية وأفكار وازنة قدمها كُثر، فننهض بها ونبني عليها ونطورها بالاستفادة من المنجز الحضاري الغربي لتساهم في بناء علوم اجتماعية حقة متعالية على أي مركزية تحاول بسط سيطرتها على الفكر الإنساني واحتكاره.
وفي إطار التفكير بالمناهج العلمية الممكن استخدامها في هذه الظروف، وبعد التأكيد على أهمية وضرورة إتقان المناهج الرقمية في العلوم الاجتماعية واستخدامها في أبحاثها العلمية؛ فإنني أنبه إلى أن المجتمعات البشرية تعيش حالة مختبرية مدهشة، فلم يكن يخطر في ذهن أوسع علماء الاجتماع خيالاً أن يحدث ما يحدث الآن للأفراد والأسر والمجتمعات والمؤسسات والدول وحكوماتها والعالم أجمع، وكأنها دخلت في أوسع مختبر لنجرّب كيف تتصرف المجتمعات عندما تغلق المجالات العامة، وكيف تعمل تحت ضغط الصدمة والفجاءة، وكيف تتكيف سريعًا مع الظروف الجديدة، وعلى الباحثين استغلال هذه التجربة بسعيهم إلى جمع البيانات وتوثيق الأحداث والحالات وكل ما يمكن رصده في الموضوعات والمجالات التي أشرنا إليها في هذه المقالة، ويمكن للباحثين ومؤسسات البحث العلمي والجامعات العربية تشكيل بنوك للبيانات القابلة للبحث والدرس في حاضر الأيام ومستقبلها في مختلف التخصصات العلمية.
حاولت في هذه الصفحات القليلة جمع شتات بعض التأملات والأفكار التي ربما تراود كثيرا من المختصين في علم الاجتماع، وهم يرقبون حدثًا استثنائيًا، فيه من اللاقومية ما يجعلنا معنين، وأمام فرصة للمشاركة في التغيير ولو على نطاقات محدودة، ومن اللايقين ما يجعلنا متحوطين من الجزم في أي قضية، فجُعل طرحها على شكل تساؤلات، وقد عرضت بعض ما يمكن تقديمه ضمن اختصاصات علم الاجتماع وعدته النظرية والمنهجية، وما يلزمنا في العالم العربي من مواكبة للمنهجيات الحديثة، وتطوير موضوعات جديدة، والمساهمة في صياغة الشكل القادم لحياتنا.
الهوامش :5>
Löw, M.and others, The sociology of space: Materiality, social structures, and action. Springer, 2016 (1) .
كما شدّدت لجنة الأمم المتحدة الاجتماعية والاقتصادية لغربي آسيا على أنّ ظاهرة العنف المنزلي والتحديات الاجتماعية التي تواجهها النساء والفتيات في المنطقة العربية قد ازدادت سوءا نتيجة فيروس كورونا
(5) Alex Hern, Covid-19 could cause permanent shift towards home working, the guardian, 13 Mar 2020
(8) Owen Amos, Coronavirus: Where will be the last place to catch Covid-19? BBC News, 3 April 2020
(9) آدم جابر، فيلسوف فرنسي: أوروبا أضحت العالم الثالث الجديد وأزمة “كورونا” تأتي ضمن انهيار الحضارة اليهودية-المسيحية، القدس العربي، 22 – مارس – 2020 .
(10) Martin Armstrong, Where babies are born outside of marriage statista, Jun 11, 2019
(11) أورد أوليرش بيك، عدد من الأعمال حول مجتمع المخاطرة العالمية يمكن مطالعتها في نسخة من كتابه المترجم إلى العربية
أولريش بيك، مجتمع المخاطر العالمي: بحثًا عن الأمان المفقود، القاهرة- المركز القومي للترجمة، الطبعة الأولى 2013 ، ص7