الحسد ظاهرة إنسانية قديمة ومعقدة تؤثر على العلاقات الاجتماعية والنفسية للأفراد. في هذا المقال، سنتناول كيفية التخلص من الحسد بطرق شرعية ونفسية تساعد على طهارة القلب وتحقيق السلام الداخلي. وإن نعم الله تعالى على الخلق لا تعد ولا تحصى، وقد قسمها سبحانه وتعالى على عباده وفق الحكمة والرحمة، ولأن الدنيا دار ابتلاء واختبار كان التفاوت في الأرزاق المادية والمعنوية، استقبل البعض هذا التفاوت بالرضا واليقين وحسن الظن بالله تعالى والطمع فيما عنده من خير ورزق والسعي الطموح لنيل ما يرجوه الإنسان والاستعانة بالله تعالى في سبيل الوصول للأهداف، وكل جملة مما سبق عبادة عظيمة يؤجر الإنسان عليها.
مفهوم الحسد وأسبابه
واستقبل آخرون تقسيم الله تعالى للأرزاق بالسخط على قضاء الله عز وجل وحسد الذين أعطاهم الله تعالى من خزائنه التي لا تنفد أبدا والتي لا تضيق بسؤال سائل ولا بطلب طالب، وبدلا من السعي لنيل ما يرجون من رزق الله تعالى تمنوا زوال النعم عن إخوانهم؛ بعضهم وقف عند حالة التمني وبعضهم يفكر ليل نهار في حرمان الناس من نعم الله سبحانه أو الحيلولة بينهم وبين الانتفاع بهذه النعم.
الحسد كظاهرة إنسانية
والحسد ظاهرة إنسانية قديمة صاحبت بداية الإنسان فقد حسده إبليس على مكانته المميزة بين المخلوقات[1] ، ثم حسد أبناء آدم بعضهم بعضا على النعم، وللأسف العميق تجد ظاهرة الحسد منتشرة بين الأقارب أو زملاء الدراسة والعمل؛ ذلك أن التنافس بينهم شديد وكل منهم يحدّث نفسه: ليس أفضل منك في شيء، فلماذا تفوق عليك وحصل على هذه المكانة وهذا القدر من المال؟؟!
لن يتذكر أبدا ما بذله الناجحون من جهد حرمهم من الجلسات الاجتماعية الممتعة في ظلال الأسرة والأصدقاء، كل ذلك ينمحي من الذاكرة وتبقى فقط لحظات الترحيب والسيرة العطرة التي تسبق صاحبها مما يشعل نار الحقد والبغضاء، ومن الأمانة أن أسجل ما وجدته عبر رحلتي في الحياة من وجود نفوس نقية تتمنى الخير لمن يشاركها نفس العمل بل ينافسها على الرزق ، يتعاون بعضهم مع بعض ويفرح بعضهم لنجاح بعض بل يعتبره نجاح له.
فإذا كان الحسد حقيقة قائمة ونارا تلتهم صاحبها قبل أن تضر المحسود فكيف نتخلص منه؟؟ هذه رسائل أوجهها للحاسد قبل المحسود:
آثار الحسد وكيفية التخلص منه
ولبيان آثار الحسد على الإنسان حاسدا كان أو محسودا وكيفية التخلص من الحسد ومما ينتج عنه، هناك رسائل موجهة لكل من الحاسد والمحسود.
رسائل موجهة للحاسد
أتصور أنه لازال بك بقية من خير أو بقية من عقل تحملك على التفكر في حالة الحاسد في الدنيا ومصيره في الآخرة ، وإليك هذه النقاط التي تعين على فهم هذه الحالة :
مضمون الحسد
هو الاعتراض على تقسيم الله تعالى للأرزاق، وهذا الاعتراض يضر بإيمانك بالله تعالى المبني على التسليم له عز وجل في حكمته عطاءا ومنعا.
طلب الخير بدلا من تمني الشر
بدلا من تمني زوال النعم عن الغير اطلب من الله تعالى فربك كريم وخزائنه لا تنفد ، قال الله تعالى في الحديث القدسي:” يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْر[2]
تجدد أرزاق الله
السماء تتسع لكل النجوم ولازالت هناك أماكن كثيرة خالية تحتاج للناجحين، ولازالت أرزاق الله تعالى تتجدد للخلق بالإضافة إلى ما نعرف من أرزاق.
الألم النفسي
الحسد يسبب الألم النفسي ويمنع من الاستمتاع بالنعم. عندما ترى الخير ينزل على المسلمين وربنا تعالى كريم في عطائه، ستبقى أرزاق الله تعالى تتنزل على الخلق صباحا ومساء، وسيبقى الحسدة يتحسرون ويأكل بعضهم بعضا كلما رأوا نعمة.
النيات الخبيثة
إن تمنى الحاسد أن يعجز من يعمل الخير بسبب مرض أو إفلاس أو مصيبة تشغله بنفسه عن الإحسان للآخرين أو كل ذلك مجتمعا، كم نية خبيثة في قلب هذا الحاسد؟ وكم يعاقب على كل نية وعزم وعمل في سبيل تحقيق مراده؟ فنوايا الحاسد تؤدي إلى عقاب الله عليه.
ضياع الحسنات
عندما ينفعل الحاسد مع حسده ويستجيب لنفسه الأمارة بالسوء فيتصرف وفق رغبته في زوال نعمة المحسود ، تتراكم عليه السيئات ويجعل المحسود مستحقا لحسناته، وتخيل إنسانا تعب في الحصول على هذه الحسنات ثم تؤخذ منه أمام عينيه وتنتهي الحسنات شيئا فشيئا فخصومه كثيرون، ثم يأتي خصوم آخرون لم يستوفوا حقوقهم فيوضع على الحاسد من سيئاتهم فأي خسارة أعظم من هذه ، وهناك خسارة أخرى وهي ما جاء في قوله ﷺ :”إن الحسدَ يُطفئ نورَ الحَسَنات[3]
الحسد قرين الحرمان
الحسد يمنع الإنسان من فعل الخيرات والمحبة الكاملة في الله، قَالَ: ” دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ: الحَسَدُ وَالبَغْضَاءُ، هِيَ الحَالِقَةُ، لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ[4]»
والمراد بحلق الدين أنها تمنع الإنسان من فعل الخيرات، والحضورِ في الصلوات، والمحبة الكاملة في الله تعالى؛ لأن مَن امتلأ صدره بالحسد والبغضاء لا يكون له محبةٌ كاملة في الله، وذوقٌ من الطاعات.[5]
ترك سبيل المؤمنين
الحاسد لا يتبع طريق المحبين بل يسلك طريق المجرمين، والمؤمنون هم الذين يحبون للناس ما يحبون لأنفسهم (لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ)[6] وسبيل المجرمين ﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا﴾ [آل عمران: 120]
عقوبة أخروية للحسد
الحسد يؤثر على الإنسان بعد الموت ويؤدي إلى عقاب في الآخرة. لأن الآثار السيئة للحسد على الحاسد تصاحبه عند خروج روحه و في قبره وعند الميزان ويوم يعاقب الله تعالى الناس على ذنوبهم.
حالة الحاسد عند العلماء
قال الحسن: يا ابن آدم لم تحسد أخاك فإن كان الذي أعطاه لكرامته عليه فلم تحسد من أكرمه الله، وإن كان غير ذلك فلم تحسد من مصيره إِلَى النَّارِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْحَاسِدُ لَا يَنَالُ مِنَ الْمَجَالِسِ إِلَّا مَذَمَّةً وَذُلًّا ، وَلَا يَنَالُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا لَعْنَةً وَبُغْضًا ، وَلَا يَنَالُ مِنَ الْخَلْقِ إِلَّا جَزَعًا وَغَمًّا ، وَلَا يَنَالُ عند النزع إلا شدة وهولاً ، وَلَا يَنَالُ عِنْدَ الْمَوْقِفِ إِلَّا فَضِيحَةً وَنَكَالًا[7]
طرق التخلص من الحسد
التطهير صعب لكنه يستحق بذل كل الجهود، فطهارة القلب من الحسد سبب لدخول الجنة ، قال النبي ﷺ لصحابته ثلاث مرات:” يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ” وفي كل مرة يطلع نفس الرجل، لازم عبد الله بن عمرو بن العاص الرجل ثلاث ليال ، ولاحظ عليه أنه لا يقوم الليل بل يصلي الفجر فقط ولا يقول إلا خير، سأله عن العمل الذي استحق به أن يُبشر بالجنة ، فكان من بين ما قال: لَا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللهُ إِيَّاهُ[8].
رسائل موجهة للمحسود
وهذه رسائل من يشعر بأنه في مرمى عيون الناس:
مشاركة الآخرين في نعم الله تعالى
هذه المشاركة لا تعني المناصفة بل كلما أنعم الله تعالى علينا بنعمة ما، ذاق الآخرون معنا نصيبهم من هذه النعمة ؛ إن كانت علما انتفعوا به وإن كانت قوة وجاه كنت لهم عونا وإن كانت مالا كانت الهدية والصدقة ، ولنتذكر قوله تعالى ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ [النساء: 8] ويلحق بالأقارب الدوائر القريبة منا من خدم وزملاء ومرؤسين.
وقد التفت إلى هذا المعنى القاضي عياض عندما شرحه لقوله ﷺ : ” إِذَا صَنَعَ لأَحْدِكُمْ خَادِمُهُ طَعَامَهُ ثُمَّ جَاءَهُ بِهِ، وَقَدْ وَلِىَ حَرَّهُ وَدُخَانَهُ، فَلْيُقْعِدْهُ مَعَهُ، فَلْيَأْكُلْ. فَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ مَشْفُوهًا قَلِيلاً، فَلْيَضَعْ فِي يَدِهِ مِنْهُ أُكْلَةً أَوْ أُكْلَتَيْنِ “. قَالَ دَاوُدُ: يَعْنِى لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ.» عندما قال:”في إطعامه منه ومؤاكلته إياه ذهاب غائلة الاستئثار عليه بالطعام؛ لئلا يكيده فيما يصنعه ولا يغشه ولا يخونه فيه، إذا علم أنه يأكل منه ويرد شهوته ببعضه.”[9]
التواضع وشكر الله
أحيانا نلقي كلمات يحسبها السامع نوعا من التعالي ، وربما يعزز هذه المشاعر السلبية أننا حين نتحدث عما عندنا من نعم أو ما قمنا به من إنجازات، لا نذكر فضل الله تعالى علينا ولا نشكره سبحانه على نعمه، وكأن هذه المكانة أخذناها بقدرتنا وذكاءنا مما يحرك الحسد في النفوس.
التوكل على الله
يجب الاعتماد على الله في كل الأمور وعدم القلق من تأثير الحسد، قال الله تعالى: ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [التوبة: 51]
تحصين النفس من الحسد
استخدام الأدعية والرقى الشرعية لحماية النفس من الحسد ومن شر كل حاسد، فعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ « كَانَ يَأْمُرُهَا أَنْ تَسْتَرْقِيَ مِنَ الْعَيْنِ[10]
طرق التحصين بالرقية الشرعية للحسد5>
أ- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ” أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، اشْتَكَيْتَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، قَالَ: بِاسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ، مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ، مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ أَوْ عَيْنِ حَاسِدٍ اللهُ يَشْفِيكَ، بِاسْمِ اللهِ أَرْقِيكَ”[11]
ب- كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُعَوِّذُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ، وَيَقُولُ: (إِنَّ أَبَاكُمَا كَانَ يُعَوِّذُ بِهَا إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ، مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ، وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ)[12].
اعتبر النبي ﷺ النظرة الحاسدة نوعا من القتل وقدم الدواء لمن أصيب بعين فقال “لِمَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ أَوْ صَاحِبَهُ؟؟ أَلَا يَدْعُو بِالْبَرَكَةِ، اغْتَسِلْ لَهُ”. فَاغْتَسَلَ لَهُ عَامِرٌ[الحاسد]، فَرَاحَ سَهْلٌ[المحسود]، وَلَيْسَ بِهِ بَأْسٌ[13].
الخاتمة
التخلص من الحسد يتطلب طهارة القلب وتحصين النفس بالأدعية والأعمال الصالحة. فطهارة القلب تمنح الإنسان دخول الجنة، والتخلص من الحسد يجعل الحياة أكثر سعادة وسلامًا. بالتالي، يجب على كل فرد العمل على تنقية نفسه من مشاعر الحسد والتنافس السلبي، والسعي لنيل رضا الله بالتوكل عليه والاستعانة به في كل الأمور.