سؤال مع بساطته مهم جدا: كيف تقرأ القرآن؟ إذ القراءة الصحيحة للقرآن الكريم هي سبيلنا للوقوف على هدايات القرآن ومن ثم اتباعه والفوز بما أعده الله تعالى للمهتدين في الدنيا والآخرة.
أنواع القرّاء وتفاوت النوايا
ستجد من يعتني بالتلاوة الملتزمة بأحكام التجويد، ومن يهتم بالإكثار من الختمات للحصول على مزيد من الدرجات، ومن يحب أن يكون كالحال المرتحل عبر الآيات والسور؛ فإذا كان من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله رجل قلبه معلق بالمساجد فهناك من تعلقت قلوبهم بالقرآن كلما رأوا موقفا قفزت إلى عقولهم آية قرآنية؛ تصف الموقف وتفسره وتقدم الحل للخروج من الأزمة ، وذلك لشدة حضور القرآن في قلوبهم وكثرة استحضاره بطريقة تجعله ميزانا حاضرا لكل شخص وموقف.
كيف تقرأ القرآن تلاوةً حقيقية تؤهلك لتكون من أهل الله وخاصته؟
1. اقرأ القرآن على أنه روح
وهذا ما وصف الله تعالى به كتابه ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا ﴾ [الشورى: 52] وإذا تأملنا فيما تحدثه الروح إذا دخلت في بدن وجدنا أن هذا البدن يتحول من السكون إلى الحركة ومن الصمم إلى السمع ومن العمى إلى البصر ، هذه الروح تحيي القلوب بعد أن تصاب بالغفلة أو الموت، وروح القرآن تصنع ذلك وأكثر فتنقل الإنسان من الضلال إلى الهداية.
لكي ننتفع بما في القرآن من روح لابد من لحظة صفاء قلبي وروحي و لحظات الصفاء في حياتنا قليلة
ومن أمثلة اتصال روح القرآن بالبشر وتجليات ذلك على الإنسان، ما روي عن صعصعة بن معاوية -عمِّ الفرزدق-: أنه أتى النبي ﷺ فقرأ عليه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)}، قال: حسبي! لا أبالي ألَّا أسمع غيرها[1] كلمات معدودات رآها صعصعة رضي الله عنه كفيلة بأن تضبط ميزان حياته وتوجهه لكل خير.
ولنا أن نفكر كيف تسير حياتنا إذا علمنا أن أقل ما نقوم به في دنيانا من خير أو شر سنرى آثاره على قلوبنا وأرواحنا وأجسادنا وذرياتنا وبيوتنا، كيف يحاسب الإنسان نفسه قبل أن يرتكب ما يؤذيه في حياته كلها؟
كيف يزيد من الخير لكي يجد البركات تغمر حياته؟
وكم من كلمة من كلمات البشر كانت لحظة سماعها نقطة تحول في حياة من يسمعها فكيف بكلام الله عز وجل.
ولكي ننتفع بما في القرآن من روح لابد من لحظة صفاء قلبي وروحي و لحظات الصفاء في حياتنا قليلة ينبغي أن نحرص على استحضارها وندرب أنفسنا على صفاء الذهن والروح حتى نستجمع قوانا كلها ونحن نقرأ القرآن الكريم ونفتح أبواب قلوبنا وأرواحنا لكي تتشرب من نبع القرآن وخيره.
العبودية تجعلنا منتبهين لكل حرف في القرآن فهو خطاب الرب جل جلاله لعبيده
وهذه اللحظات تحتاج إلى مجاهدة فهي طريقك إلى خزائن رحمة الله، وكلما صفينا أنفسنا من كدر الكبر والأنانية وسائر الأخلاق السيئة كنا أقرب للانتفاع بأنوار القرآن ، واعلم أن الشيطان لن يتركك لكي تظفر بهذه اللحظات المباركة وتتقوى على الطاعة فادع الله تعالى وأكثر من الدعاء عسى أن يلين قلبك وجلدك لذكر الله تعالى ، ولا يسول لك الشيطان أن الطريق لاستشعار روح القرآن طويل فكل وقت تقضيه مع القرآن يعطيك الله تعالى الخير، واعتبر نفسك في مغالبة مع الشيطان قد يغلبك مرات فلا تستسلم لهذه الهزيمة بل غالبه بمزيد من التلاوة ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: 69]
2. اقرأ القرآن على أنه غذاء للروح
فكما يحتاج الجسد لمكونات الهرم الغذائي تحتاج الروح لأغذية متعددة على رأسها تلاوة الذكر الحكيم ، وكلما نقصت النسب التي نحصل عليها من غذاء البدن كلما تضررت أجسادنا وحياتنا ، وكلما نقصت حصصنا من الذكر كلما أصبنا بالقلق والضيق في الأفق والنفس.
3. اقرأ القرآن من باب العبودية
وهو أشرف الأبواب التي ندخل منها على القرآن، العبودية تجعلنا منتبهين لكل حرف في القرآن، فهو خطاب الرب جل جلاله لعبيده، والعبد إذا وقف بين يدي سيده يقف وكله آذان صاغية حتى لا يفوته أمر من الأوامر أو نهي من النواهي أو توجيه من التوجيهات ففي كل ذلك الخير والبركة والنفع للعبد، ثم إن العبد بعد أن يسمع لسيده ومولاه ينطلق من فوره لكي ينفذ ما سمعه وهذا التنفيذ يجعل أرواحنا تشرق وعقولنا تدرك وأنفسنا تحلق في فضاء رحب من الخير والحق والجمال وكلما أطعنا الله تعالى سعينا إلى نيل قسط أكبر من الخير الذي لا يحيط به إلا الله عز وجل فنزداد إقبالا على الله وعلى كتابه.
4. اقرأ القرآن على أنه منبع المعرفة الأسمى
وأشرف المعارف ما كان متعلقا بالله تعالى وآيات القرآن الكريم تحفل بالحديث عن الله عز وجل وما له من صفات الكمال والجلال والجمال ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾
والتعرف على الكون وما يقوم به من مهمة العبادة لله ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴾ [الإسراء: 44] يجعلنا ننسجم مع هذا الكون حين نسبح معه ونؤدي دورنا في الحياة كعبيد لله تعالى وليس عبيد للدنيا وزخرفها.
5. اقرأ القرآن كمشهد لصراع الخير والشر
القرآن يصور الصراع بين الحق والباطل، ومعاناة المؤمنين وصبرهم، وتأثير الابتلاءات، وما يحدث خلال هذه المعارك من صبر جميل يستلهم فيه قوله تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 153]
وفي مرحلة الصبر يسعى المؤمنون لإعداد أنفسهم ماديا ومعنويا بالعلم والإيمان واستكشاف العدو والاستفادة من دروس الابتلاء بالمصائب كما نرى تجليات تأييد الله تعالى لعباده المؤمنين حين يرى منهم الصدق وبذل الجهد ونرى وعوده سبحانه وتعالى للمؤمنين ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ﴾ [النور: 55]
﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ﴾ [الرعد: 17]
وخلال تتبعنا لسير الحق في وسط العواصف الهوجاء التي يثيرها الباطل، ندرك أن المعركة في بدايتها ونهايته موجهة للعقل والقلب، فأهل الباطل يريدون أن يصل المؤمنون إلى مرحلة الوهن وأن يكونوا كالغثاء، وذلك من خلال فتح أبواب الشبهات والشهوات وتوجيه تيار جارف يتجدد ويقوى كل يوم لاقتلاع الإيمان من القلوب، ولكن لأن الحق قوي يقف أهله بكل شموخ وإباء منطلقين من قوله تعالى ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ [التوبة: 32] ﴿وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ﴾ [هود: 121-122]
ومتذكرين قوله تعالى ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ﴾ [إبراهيم: 27]
كل ذلك يعطينا صلابة نفسية نواجه بها أزمات الحياة بنفس قوية بربها تدرك آثار اليأس والجزع على دين العبد ودنياه.
جدد نيتك أن تكون علاقتك بالقرآن علاقة دائمة، تغذي روحك، وتنير دربك، وتمنحك بصيرة وسكينة في كل حين
6. استحضر الغايات الكبرى من تلاوة القرآن
حتى نصل إلى القراءة التي تعود على أنفسنا وعقولنا وقلوبنا وحركتنا في الحياة بأعظم الفوائد علينا أن:
1- نقرأ القرآن لنفهم طبيعة الدنيا، وأن متاعها كما وصفه الله عز وجل قليل، ومعنى ذلك إن فاتنا شيء من هذا المتاع فلا نحزن عليه لأنه قليل وهناك ما هو خير منه ﴿وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ [النساء: 77] ومع تعلق المسلم بالآخرة والعمل لها يأتيه قوله تعالى ﴿وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ [القصص: 77]
2– نقرأ القرآن لنفهم سنن الله في الأنفس والمجتمعات وهي سنن ثابتة لا تتغير بتغير الزمان والمكان ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾ [الأحزاب: 62] ومن هذه القوانين:
أ- ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11] فتغيير النفوس بترك الكسل إلى العمل، واليأس إلى حسن الظن بالله تعالى، والجهل إلى العلم هو مفتاح الغد الأفضل الذي يتمناه الجميع.
ب- ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم: 41] فالمعاصي التي يحدثها الأفراد تؤثر على المجتمعات وعلى البيئة البرية والبحرية.
ج- عمل السوء ينقلب على صاحبه ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ ﴾ [يونس: 23] والعرب تقول من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا.
د- ولاية الله تعالى للصالحين من عباده ﴿وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ﴾ [الأعراف: 196] إن الإنسان يجد ويكد ويواصل عمل الليل بالنهار لكي يؤمن لأبنائه مستقبلا يستغنون فيه عن الناس ويجدون مكانا ووجاهة في المجتمع ، قد يسلك في سبيل ذلك طرقا مشروعة وقد يضيع نفسه بانتهاك حرمات الله وأكل المال الحرام، الله عز وجل يطمأن الجميع إلى ولايته المتضمنة للتوفيق والمعونة والإمداد .
نحن نقرأ القرآن حتى نستعيد فطرتنا التي فطرنا الله تعالى عليها ونقاوم المحاولات المستميتة لطمس هذه الفطرة وتغييرها لذلك جدد نيتك من الآن أن تكون علاقتك بالقرآن موصولة طوال العام فنحن بحاجة مستمرة لهداياته وإمداده لأرواحنا بالسكينة والبصيرة.