نلاحظ في الآونة الأخيرة كثرة الأخبار المتداولة في العالم العربي عن وقوع حالات انتحار، بصورة شبه يومية؛ تستلفت النظر، وتستدعي وقفة جادة لدراسة الأسباب والدوافع، وأخطار ذلك على حالة المجتمع عامة.
وبغض النظر عن مدى انتشار حالات الانتحار، وما إذا كانت تقترب من المفهوم العلمي لـ”الظاهرة” أم لا؛ فإننا يمكننا أن نقول إن هذا الأمر يمثل إحدى المستجدات على واقعنا العربي والإسلامي، ضمن ظواهر أو أمور أخرى مستجدة، لا تدل- في عمومها- على حالة صحة وعافية، بل على حالة من الوهن والضعف!
وقد لفت نظري أن الشيخ محمد الغزالي، رحمه الله، قد استخدم مصطلح “الانتحار” للتعبير عن سياق اجتماعي ما، ونقله- على غير الشائع والمفهوم من مصطلح “الانتحار”- من دائرة الفرد إلى دائرة المجتمع.. أي أن الانتحار- حسب الرؤية الغزالية- ليس هو إقدام المرء على إنهاء حياته فحسب، وإنما هناك أوضاع اجتماعية يكون معها المجتمع كمن يُقدِم على إنهاء حياته!
فيوضح الشيخ الغزالي أن الأمة التي تسلم قيادها لفرد، تكون قد أقدمت على إنهاء حياتها بنفسها؛ أي قررت الانتحار! فيقول: “عندما نتحدث عن الشورى، فإنما نعني جميع الشئون الدنيوية والحضارية العادية، ثم جميع الوسائل التي تتم بها الواجبات الدينية والأهداف الشرعية. وعندما ترى الأمة أنه لا تُفرَض ضريبة إلا بإذنها، ولا ينفق قرش إلا بإشرافها، ولا تُقَرّ مصلحة مرسلة إلا برضاها، ولا تعلن حرب إلا بموافقتها.. إلخ؛ فذلك حقها بداهة. إن ترك ذلك لتقدير فرد عبقري أو يدعي العبقرية– وأكثر الحكام من أولئك الأدعياء- هو ضرب من الانتحار!”
فهنا معنى مهم جدًّا، يلفت الشيخ أنظارنا إليه، وهو أن ثمة أوضاعًا يقع فيها المجتمع، هي أشبه بـ”الانتحار” الذي يقدم عليه الفرد.. وهذه نقلة نوعية للمفهوم من دائرته الفردية الشائعة، إلى دائرة أخرى قلما ننتبه إليها، رغم خطورتها..!
وهذا يدفعنا للتساؤل: كيف تنتحر المجتمعات؟
وهو تساؤل يعني ضمنًا أننا متفقون على سؤال آخر قبله، وهو: هل تنتحر المجتمعات؟ والجواب على هذا التساؤل الثاني: نعم؛ فالمجتمعات في تقلباتها وأطوارها تشبه الفرد في أطواره وتقلباته.. تمر بمرحلة ميلاد، ثم طفولة، ثم شباب وفتوة، ثم شيخوخة وكهولة.. وقد تمرض ثم تصحّ وتتعافى.. وقد تتحلَّى بالحيوية والنشاط ثم يعتريها الفتور والخمول.. بل وقد تنتحر، تمامًا كما ينتحر الفرد!
أما الجواب على السؤال الأول، فنقول: إن ثمة وسائلَ أو أوضاعًا تنتحر المجتمعات من خلالها؛ إما عن قصد أو عن غفلة.. والأكثر أن هذا يتم عن غفلة، وعند غياب الوعي، وعدم إدراك خطورة ما تقدم عليه… كما أن الفرد المنتحر يكون غالبًا واقعًا تحت تأثير ضغوط نفسية واجتماعية ثقيلة قد تفقده التوازن النفسي والعقلي، وقد لا يكون مدركًا معها خطورة ما ينتويه من انتحار!
التقليد الأعمى بمثابة أداة من أدوات الانتحار؛ فتقليد الآخرين تقليدًا يُفقد المجتمع هويته الذاتية، ويجعله مسخًا مشوَّهًا من الآخر، مجهول الهوية غير محدد الملامح!
وهذا الأمر لخطورته، فكريًّا واجتماعيًّا، معنويًّا وماديًّا؛ حذر منه النبي ﷺ؛ حيث قال: “لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ؛ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ؛ حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ. قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: فَمَنْ” (متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري).
وللأسف، نرى عددًا كبيرًا من شبابنا يقلدون غيرهم من الأمم، لا فيما يجوز ويُطلَب التقليد فيه؛ كالعمل والجد والابتكار والمبادرة والحيوية؛ وإنما في سفاسف الأمور ومَضارّها.. حتى وصل الأمر إلى التقليد في قصة الشعر والأزياء.. مما جعل الشباب يرى نموذجه الأعلى في غير بيئته الحضارية، وعند من لا يتفقون مع مفاهيمه وقيمه!
وإذا كان الشباب- وهم عماد المجتمع- بهذه الصورة من ضياع المعالم، وتشتت الرؤية، وذوبان الهوية.. فأي مصير ينتظر المجتمع؟ وأي وضع بائس يمكن أن يؤول إليه؟ وهل لذلك معنى إلا “الانتحار” وإنْ بصورة بطيئة وفي مدى زمني أطول، مغاير للمدى الزمني الذي يستغرقه الانتحار في حالة الأفراد!
والتفاوت الطبقي العميق بين مكونات نسيج المجتمع من صور انتحار المجتمعات، فكلما انقسم المجتمع – بفعل سياسات خاطئة، متعمَّدة في الغالب- بين طبقة مترفة منعَّمة، وأخرى معدمة كادحة تجد بالكاد قوت يومها وحاجاتها الضرورية؛ فإن هذا الوضع الاجتماعي غير السوي ينذر بأن المجتمع مقدم على انتحار اجتماعي وحضاري!
ذلك أن من دلائل وشروط عافية المجتمع، ومن حيثيات قدرته على التجدد والسباق الحضاري، تماسك نسيجه الاجتماعي وترابطه؛ وهذا لن يكون إلا بوجود تناسق وتناغم بين شرائحه اجتماعيًّا واقتصاديًّا..
لا أقول بانعدام الفوارق الطبقية، فهذا مخالف لسنة الله في الخلق؛ حيث جعل الناس درجات، فقال تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ * نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا * وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (الزخرف: 32).. ولكني أقول بضرورة مراعاة هذه الفوارق، وعدم توسيعها؛ وذلك باتخاذ إجراءات تساعد على تقليلها، وعلى مراعاة الشرائح الأضعاف وتلبية حاجاتها الأساسية.
ولهذا، شرع الإسلام الزكاة وحدد مصارفها، وقسَّم الفيء، وندب إلى الصدقة، وحث على فعل الخير، ودعا إلى التنافس في بذل العون والمساعدة للآخرين.. وقال تعالى في الحكمة من تشريع الفيء وتقسيمه: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ} (الحشر: 7). جاء في (تفسير النسفي): “كَيْ لا يَكُونَ الْفَيْءُ- الَّذِي حَقُّهُ أَنْ يُعْطَى الْفُقَرَاءَ؛ لِيَكُونَ لَهُمْ بُلْغَةً يَعِيشُونَ بِهَا- جَدًّا بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ؛ يَتَكَاثَرُونَ بِهِ”. أي حتى لا يكون المال محصورًا بين الأغنياء يستأثرون به من دون الناس، ويزيدهم (جَدًّا): أي غنى وعظمة.. فيترتب على هذا اتساعُ الفجوة الاجتماعية، وتركُ الباب مفتوحًا لأمراض التحاسد والتباغض والاختلاس، أن تشيع بين الفئات المحرومة؛ التي قد تُبرر لنفسها هذا السلوك غير المشروع..!
وقل مثل ذلك في باقي ما شرعه الإسلام من أحكام توجيهات تتصل بحركة المال بين طبقات المجتمع.
إذن، المجتمعات يصيبها ما يصيب الأفراد من شواهد الصحة وعوارض المرض، حتى “الانتحار”، الذي اعتدنا أن ننظر إليه في دائرته الفردية فحسب.. ومن ثم، علينا أن نأخذ في الاعتبار هذه الأسباب أو الأدوات التي تدفع بالمجتمع نحو هاوية “الانتحار”، وعلينا أن نعالجها قبل أن تستفحل وتصير “ظاهرة” تتأبَّى على العلاج والتقويم..!