لا يخلو شهر من شهور العام من ذكرى لعلماء ومفكرين ودعاة وأدباء رحلوا عن دنيانا الفانية، وتركوا بصمات باقية، وأثرًا لا يمكن تجاهله، وكتابًا مفتوحًا من العطاء يطالعه كل راغب في العلم والمعرفة.
وعلى سبيل الماثل، ففي شهر مارس، الذي ما زلنا نعيش بين أيامه، رحل عنا حكيم الشرق جمال الدين الأفغاني (9 مارس سنة 1897م)، والأستاذ عباس محمود العقاد (12 مارس 1964)، والدكتور نجيب الكيلاني (7 مارس 1995)، والشيخ محمد الغزالي (9 مارس 1996)، والدكتور طه جابر العلواني (4 مارس 2016)، والدكتور حسن الترابي (5 مارس 2016).. وغير ذلك كثير ممن يصعب حصرهم.
والناس يتفاوتون في تذكر هؤلاء الراحلين الكرام بقدر أثر كل واحد منهم في حياته، وبقدر الظروف التي تهيأت لهم على اختلافها.. فكلما كان العالم ذا أثر كبير في حياته، وذا إسهام جيد في مجاله؛ فإن تذكر الناس له من بعد رحيله سيكون أكبر، وحضوره في الأجيال التالية له سيكون أعمق.
ولا شك أن لهؤلاء الراحلين الأكارم حقًّا علينا؛ لا يتمثل فقط في تذكرهم والثناء عليهم، وإرسال دعوات الرحمة والمغفرة إلى أرواحهم الطيبة.. وإنما الأمر أكبر من ذلك.
إن الراحلين من العلماء والدعاة والأدباء كانت صلتهم بمجتمعاتهم من خلال العلم والمعرفة، ونشر الفهم والوعي، وإثراء العقول وتنويرها؛ ولم تكن مثلاً من خلال حركة المال والعمران المادي، وإنْ كان هذا المجال محمودًا ومقدَّرًا.. ولذا، فإن أول ما ينبغي علينا فعله تجاههم، أن نواصل المسيرة العلمية التي خَطَوها، ونكمل صفحات الفكر التي بدؤوها، وننشر رسالة العلم والمعرفة التي نذورا أنفسهم لها.
لا ينبغي أن نكتفي بالثناء على هؤلاء الراحلين؛ فذلك أمر وإن حقق شيئًا من “الصلة الروحية” بيننا وبينهم، وأدَّى جزءًا من التقدير المعنوي الواجب لهم؛ فإنه ليس كفيلاً بأن يحقق “الصلة العقلية” التي تربطنا بهم، ولا أن يكمل رحلة العلم والمعرفة التي قطعوا فيها أشواطًا عبر سنوات حياتهم.
ولهذا، فالدراسات العلمية تعرف- بل وتهتم- بالأبحاث التي تتناول جهود الراحلين: تعريفًا وتقييمًا.. كما تتناول الأفكارَ كما أبدعها أصحابها، وقد يكون ذلك في سياق مقارِن.. فيقال مثلاً: “أبو حامد الغزالي وجهوده في الفكر الإسلامي”، أو “نظرية المعرفة عند الغزالي”، أو “المنهج الفلسفي بين الغزالي وديكارت.
إن التواصل بين الأجيال أمر مهم في إنتاج المعرفة؛ بحيث تتكامل الجهود، وتتواصل خيوط المعرفة، وتبدأ الأجيال الناشئة رحلتها من حيث توقف الآخرون.. ولا شك أن تذكر العلماء والمفكرين الراحلين، خاصة في ذكرى رحيلهم، يعد جزءًا من هذا التواصل المطلوب بين الأجيال المنتجة للمعرفة.
وثمة أفكار عديدة لتحقيق هذا التواصل والوفاء، يمكن تطبيقها من خلال الأفراد والمؤسسات العلمية والبحثية.. مثل:
– تنظيم ندوات تعرِّف بجهودهم، وتناقش أفكارهم وأطروحاتهم، وتقيِّم تراثهم.
– إطلاق مسابقات بحثية عن سيرتهم ومسيرتهم، يشارك فيها شباب الباحثين.
– كتابة مقالات عنهم في الصحف والمجلات؛ للتعريف بهم على نطاق واسع.
– تَدارُس أفكار عنهم في النطاق الأكاديمي؛ فالدراسات الأكاديمية أشمل وأعمق.
– يمكن لمن منحهم الله بعض المال أن يشتروا كتب هؤلاء العلماء والمفكرين ويوزعوها مجانًا على طلبة العلم، الذين قد يحول المال بينهم وبين معرفة آثار من سبقوهم.. أو يقوم بذلك أُسَر هؤلاء العلماء والمفكرين ممن تيسَّرت ظروفهم لذلك
وفي هذه النقطة، أذكر أنني حين كنت طالبًا بالجامعة، كنت أذهب مع زملاء كثيرين لبيت الشيخ محمد الغزالي، رحمه الله، لنحصل على كتب له يوزعها أبناؤه بالمجان على طلبة العلم في ذكراه؛ وفاءً لأبيهم، ورغبة في نشر آثاره، ومساعدة لطلبة العلم.. وكم كان ذلك يسعدنا ويجعلنا نترقب بشوقٍ ذكراه كل عام..!
إن هذا الوفاء لهؤلاء الراحلين من المشتغلين بالفكر والوعي، تقتضيه جملةٌ من العوامل الأخلاقية والعلمية، لعل أهمها:
– قيمة الوفاء والعرفان لكل ذي فضل، لاسيما لمن أسهموا في نشر المعرفة وتثقيف العقول؛ فالعلم رحم بين أهله.
– أهمية التواصل المعرفي وضرورته؛ حتى تتكامل الجهود والأطروحات.
– أن العلماء قد يطرحون رؤى وأفكارًا غير مكتملة، تنتظر من يأتي بعدهم ليشيِّد البناء ويرفع القواعد.. ولولا هذا الوفاء والتواصل المعرفي، ما تحقق ذلك.
ولعل من المناسب هنا أن نشير إلى أن المنهج المرجو في دراسة هؤلاء الأعلام ينبغي أن تتوافر له عدة أسس؛ حتى يحقق الآمالَ المعلقة على هذه الدراسات.. ومن أهم هذه الأسس:
الإنصاف: فكل عالم أو مفكر له ما له وعليه ما عليه، ولا يخلو مشتغل بالعلم والمعرفة والإصلاح من عثرة.. والإنصاف هو الميزان الذي يجعلنا لا نبخس الحسنات حقها، ولا نضخِّم السيئات؛ بل نعطي لكل منهما قدره، منتفعين بما جدير بالنفع، منتقدين بأدب ما يستحق النقد.. لكن الإنصاف عزيز! وكم من شخصيات وارها النسيان بسبب عدم الإنصاف في النظر لمجمل سيرتها وعطائها؛ حتى حُرمنا من التعرف على جهودها والإفادة منها..!
التماس الأعذار: فلا يكون الغرض من دراسة الشخصية عدَّ الأخطاء وتكثيرها، وإنما نلتمس العذر ما وسعنا الالتماس، آخذين في الاعتبار ظروف نشأتهم وطبيعة مرحلتهم التي عاشوها.. مدركين أنهم في الغالب لم يتعمَّدوا الخطأ، وأن وقوعهم فيه كان عن اجتهادٍ يستحقون عليه أجرًا واحدًا.
متابعة الشخصية في مجمل أعمالها: لأن كثيرين من العلماء والمفكرين يمرون بمراحل فكرية مختلفة، وقد يكون ما انتهوا إليه غير ما ابتدؤوا منه.. فمن الخطأ أن ندرس شخصية ما متوقفين عند مرحلة من مراحل حياتها، دون متابعة المراحل كلها، خاصة فيما رست عليه سفينتها الفكرية.. والأمثلة في هذا كثيرة؛ مثل طه حسين وخالد محمد خالد وزكي نجيب محمود وعبد الرحمن بدوي، على اختلاف بينهم في صراحة ووضوح المراجعات التي قاموا بها لأفكارهم، وفي النقد الذاتي الذي أجروه على مسيرتهم الفكرية.
بهذا تتحقق لنا دراسة نافعة ماتعة لمن أثروا حياتنا الفكرية، ونحيي ذكرى الراحلين منهم، ونستفيد من سيرتهم ومسيرتهم، ونبني على جهودهم، ونتجنب عثراتهم.. وما أشد حاجتنا لذلك!