في حل أو ترحال، الوقت أغلى ما نملك على هذه البسيطة، وما دقات قلب الإنسان إلا دقائق وثوان، وما عمره إلا كتاب، إن انطوت صفحة لا تعود لصاحبها أبدا.
{وَالْعَصْرِ} (سورة العصر: 1) يقسم المولى عز وجل بالعصر، وهو الوقت الذي يتهيَّأ فيه الناس للانتهاء من أعمالهم والتوجه إلى سكنهم وراحتهم (1)، وهو الدهر أو الزمان الذي يمر به الناس لما فيه من العبر وتقلب الأحوال، وإقسام الله به دليل على شرف وأهمية عامل الوقت في حياة الإنسان. (2)
{إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (سورة العصر: 2)، وهل توجد خسارة أعظم من ضياع الوقت؟
ولكي يخرج الإنسان من هذه الخسارة استثنى ربنا أهل الإيمان الذين استثمروا أوقاتهم في أعمال الخير كلها: { إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}. (3)
سفر للتأمل في آيات الله
وعلى ذكر العصر، فهو من أفضل أوقات المسافر، والوقت الأنسب للزيارات، فالمسافر المسلم يحمل معه إيمانه قبل أمتعته، فكلما زار مَعلَمًا بديعًا من صنع المولى عز وجل، لهج لسانه بالتسبيح والذكر.
في إحدى رحلاتي إلى إندونيسيا، جلست على شاطئ هادئ أرقب البحر حين بدأ المطر ينهمر في مشهد بديع، وتذكرت اسم الله المصوّر و البديع، وكيف أن الجمال في الطبيعة ليس وليد المصادفة، بل إبداع متقن من خالق عظيم.
ما زلت أذكر بعض المناظر في جزيرة بالي الإندونيسية، ومنظر الغروب من شاطئها، وانعكاس أشعة الشمس على مدرّجات الأرز الخضراء في (أوبود)، ومشهد الأمواج وهي تعانق الصخور البركانية في (جزر نوسا). هذه المشاهد تحفّز عقل المؤمن للتفكر في عظمة الله والتأمل في آياته في هذا الكون.
وعلى المسافر في مثل هذه اللحظات الرائعة أن يملأ وقته بذكر الله، والإكثار من: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ فبهذه الكلمات اليسيرة والثقيلة في الميزان نستشعر فضل المولى عز وجل وعظمته.
مناجم إلهام
كان الرحالة المسلمون يجوبون الأرض طلبًا للعلم منذ قرون ثم يدونون مشاهداتهم، فورثوا أجيالا بعدهم كنوزًا من المعرفة. ونحن اليوم في أمس الحاجة إلى أن نحذو حذوهم ونستفيد من هذا الإرث في أسفارنا، فنحوّل ساعات الانتظار الطويلة في المطارات أو الرحلات إلى فصول من التعلم.
وقد عبر بعضهم عن أثر السفر بقوله: “السفر يكسب العقل فهمًا، ويورث القلب صبرًا، ويمنح المرء من كل علم طرفًا”.
اعتدت خلال أسفاري أن تضم حقيبتي كتابًا ورقيا أو أضيف على هاتفي كتبا إلكترونية متخصصة في التاريخ أو الحضارة، إضافة إلى قائمة من المحاضرات الصوتية وحلقات “بودكاست” مفيدة، وفي بعض الأحيان أتفرغ لتدوين بعض الخواطر والأفكار المتولدة أثناء السفر.
تعلُّم مهارات جديدة
السفر مع الأصدقاء له نكهة خاصة، فهو يجمع بين متعة الاكتشاف وروح الفريق. أذكر أول رحلة لأداء العمرة وأنا طالب، مع مجموعة من الأصدقاء، حين سافرنا برًّا من الدوحة إلى مكة المكرمة. وكما تعلمون، الطريق طويلٌ، إلا أننا لم نشعر بالملل؛ فقد أعدَّ مشرف الرحلة جدولًا اشتمل على دروس قصيرة عن أحكام العمرة وآداب السفر، وتذكير ببعض دروس السيرة النبوية لمناسبتها طبيعة وهدف الرحلة. كذلك تعلّمنا بعض مهارات الحياة عن إدارة الوقت والتخطيط الشخصي.
لقد تحولت الرحلة إلى فصل دراسي متنقّل، مضى وقتها سريعًا دون أن نشعر به، واستثمرنا هذا الوقت بفوائد جديدة وتعلم مهارات نافعة.
استثمار السفر مع الأسرة
إن الرحلة العائلية فرصة ذهبية لتعزيز الروابط بين أفراد الأسرة بعيدًا عن صخب وروتين الحياة اليومية. فعندما يجتمع الجميع في رحلة واحدة، تتاح مساحات للحوار والمشاركة لا تتوفر في الأيام العادية.
ومن أفضل الوسائل لاستثمار أوقات السفر مع الأسرة:
- إقامة جلسات حوار مفتوحة يتبادل فيها الجميع القصص والذكريات.
- إشراك الجميع في ألعاب ذهنية أو مسابقات خفيفة تناسب كل الأعمار.
- إشراك أفراد الأسرة في تخطيط الأنشطة اليومية معًا، بحيث يشارك كل فرد في اختيار وجهة أو نشاط.
- تحويل المواقف اليومية في السفر إلى دروس حياتية، كحالات تأخر الرحلة، أو مشكلة في الحجز، أو التعامل مع شخص من ثقافة مختلفة.
فهذه المواقف يمكن أن تتحول إلى فرصة ذهبية لتعليم الأبناء الصبر وضبط النفس، أو مهارات حل المشكلات، أو فن التواصل مع الآخرين. وهكذا تتحول الرحلة العائلية إلى مدرسة متنقّلة، تدمج بين التعليم والمتعة، وتتوثّقُ الروابطُ بخلق ذكريات جديدة ستظل حية في الذاكرة للأبد.
لكل وسيلة برنامج
لكل وسيلة سفر مذاقها الخاص؛ فالسفرُ جوًّا يمنحك عزلة نسبية عن ضوضاء العالم، وفرصة لمراجعة الذات أو الانغماس في قراءة كتاب.
والسفر البري، خاصة عبر القطارات أو الحافلات، له مذاق خاص، إذ تمر على القرى والمزارع وتطالعك البنايات الجميلة والوجوه العابرة. أما السفر بحرًا فيعلّمك الصبر ويزرع فيك السكينة.
والمسافر إلى إندونيسيا سيجمع بين كل هذه الوسائل: من الطيران بين الجزر، إلى الإبحار بالقوارب، إلى سلوك الطرق الجبلية التي تمر بين الغابات الممطرة.
التحديات وكيفية التغلب عليها
هناك تحديات تواجه المسافر أثناء الرحلة، منها:
- إغراء الشاشات التي تسرق الساعات.
- الإرهاق الجسدي الذي يدفعك للنوم أغلب الوقت.
- الارتباك في التخطيط، مما يجعل الوقت يضيع في أمور ثانوية.
لكن الحل يبدأ بعقد النية مبكرًا وضبط الخطة عبر:
- إعداد قائمة بالكتب أو بالمواد الصوتية.
- تقسيم الرحلة إلى فترات نشاط وراحة.
- تجهيز دفتر أو تطبيق لتدوين الملاحظات.

الحصاد الحقيقي
يظن كثير من الناس أن الرحلة تنتهي بمجرد العودة للديار، لكن الحقيقة أن رحلة السفر لا تنتهي عند عودتك، بل تبدأ مرحلة جديدة ضمن رحلة الحياة الكبرى، تُعنى بجني الثمار وحصاد فوائد الرحلة، ويكون ذلك عبر:
- مراجعة الملاحظات المدونة وأرشفة الصور وتحويلها إلى مقالات وكتب أو محتوى سمعي ومرئي.
- تطبيق الأفكار المستفادة في حياتك العملية أو الاجتماعية.
- مشاركة التجربة مع الآخرين، لأن الخبرات التي لا تُروى تموت.
فبعد رحلة إندونيسيا، على سبيل المثال، شاركت طلابي درسًا قصيرًا عن جمال العمارة الإسلامية في المساجد الإندونيسية، وتمازج الحضارات فيها المتمثل في خليط الطابع المحلي مع التأثيرات التاريخية القادمة من العالم الإسلامي.
خاتمة
إن أزمنة السفر جزء لا يتجزأ من أوقاتنا وأعمارنا الثمينة، بل هي تدريب على استثمار أوقات الحياة كلها، وفرصة لاكتشاف أن ما نحمله في داخلنا أهم مما نحمله في حقائبنا. فلتكن رحلاتنا محطات للذكر والتعلم، حتى نعود محملين بقيم ومعارف ومهارات جديدة، لا بالصور والذكريات فقط، فإما أن نعمر أوقاتنا بالأعمال المفيدة والخيرة، أو يضيع الوقت فنصبح من الخاسرين.