تستكشف هيلين سورد في كتابها “كيف يكتب الأكاديميون الناجحون؟” كيف يجد هؤلاء “الضوء والهواء والزمان والمكان” المناسبين للكتابة، وذلك بالاعتماد على مقابلات مع 100 عالم يُنظر إليهم على أنهم كُتّاب مثاليون في مجالاتهم. وللتأكيد على أنه لا توجد طريقة مثالية واحدة للكتابة، فإن هذا الكتاب مصمم بأناقة لأولئك الذين يحبون التجربة والتفكير بعمق في ممارساتهم الكتابية، كما توصي فوزية حائري مازندراني.
“اكتب كُل يوم !…”
“اكتب أولاً ثم حرر لاحقاً…”
“دع عنك الثرثرة واكتب”
لابد وأن جميع من يحتكون بالأوساط الأكاديمية قد سمعوا هذه الكلمات من قبل، ونريد أن نأخذها على محمل الجد لأن الكتابة عنصر أساسي في الأوساط الأكاديمية نفسها. نود أن تتحول درجة الدكتوراه لدينا إلى كتب، والمحادثات التي نجريها مع أنفسنا أثناء الاستحمام إلى مقالات تخضع لمراجعة الأقران، لأن الكلمة المكتوبة تظل هي المنصة الأساسية التي يمكن أن تنبثق منها أفكار الأكاديمي؛ ومع ذلك، في كثير من الأحيان، تظل صفحة الاحتمالات فارغة.
تقديراً لضرورة أن على الأكاديميين أن يكتبوا بشكل جيد وباستمرار، كان هناك عدد كبير من الكتب المصممة لدعم العلماء في هذا المجال، ويأتي كتاب هيلين سورد “كيف يكتب الأكاديميون الناجحون؟” في هذا السياق. ومع ذلك، بدلاً من تقديم مخطط للنجاح على غرار كتب المساعدة الذاتية مثل العديد من نظرائها، توضح الكاتبة أنه لا توجد طريقة مثالية واحدة للكتابة. الحالة المثالية للكتابة هي ببساطة تلك التي تنجح معك. في حين أن هذا الشعور قد يبدو مثيرًا للغضب، فقد نجحت هيلين في تفكيك الفكرة القائلة بأن “النجاح” يمكن تحقيقه من خلال وصفات محددة، وأن هناك حلولًا شاملة لمعارك الكتابة. بدلاً من ذلك، تتساءل كيف يجد الأكاديميون “الضوء والهواء، والزمان والمكان” -على حد تعبير تشارلز بوكوفسكي- المناسبين للكتابة. تستكشف هذا من خلال إجراء أكثر من 100 مقابلة متعمقة مع أكاديميين يعتبرون كتابًا مثاليين في مجالهم. ويشمل ذلك الباحثين من الذكور والإناث القادمين من مجموعة مختلفة من التخصصات غير التقليدية والمؤسسات الدولية. من خلال استكشاف العادات السلوكية والحرفية والاجتماعية والعاطفية لهؤلاء الكتاب، توضح هيلين أن الإنتاجية مصطلح فضفاض يضم تحته العديد من الصور.
في حين يمكن لقراءة أدلة المساعدة الذاتية أو حضور ورش العمل حول الكتابة المثمرة أن تولد الحماس لديك وتدفعك لإخراج إمكاناتك الخارقة للكتابة الأكاديمية، تشير هيلين إلى أن النصيحة القياسية بالكتابة اليومية ليس من السهل الحفاظ عليها، ولكن هذا هو المفتاح الأول الذي يجعلك على الطريق الصحيح. من الجيد أن تكتب في نوبات، ومن الجيد أن تكتب وأنت في السرير، ومن الجيد أن تكتب في الثانية صباحًا وأنت تستمع إلى توم بيتي أو إلى أغنية حماسية تردد عليك “لن أتراجع”. وعلى الرغم من أن بعض الأكاديميين يستفيدون من العمل خلال ذلك الوقت الصامت المخيف قبل الفجر، فقد يفضل البعض الآخر العمل حتى منتصف الليل فقط – أو عدم السهر على الإطلاق، إنهم يكتبون فقط عندما يستطيعون ذلك. وقد يكون ذلك أثناء التظاهر بمشاهدة مباراة كرة قدم مع أطفالهم أو في غرفة انتظار طبيب الأسنان…إلخ.
هناك كتَّاب يستفيدون من الكتابة على طريقة “الوجبات الخفيفة”: أي يكتبون قطعا صغيرة من مستندات متعددة. يفضل البعض الآخر أن يتناول فكرة واحدة حتى يهضمها عن آخرها. يعمل بعض الأكاديميين بشكل أفضل في المكاتب الهادئة التي تشبه السجون السويدية، وقد يستفيد آخرون من خلوات الكتابة الفردية التي لا تحوي على شبكة wifi في كابينة خشبية في مكان ما؛ (وقد يفضل آخرون الكتابة الجماعية). على الرغم من أن امتلاك غرفة خاصة بك يبدو رائعًا، إلا أنه ليس دائمًا خيارًا واقعيًا – كأن تحدث مثل هذه المقاطعة: آسف يا فرجينيا، ولكن هل قمت بمراجعة أسعار الإيجار في لندن هذه الأيام؟- يتعين على معظم الكتاب تقبل وجود إزعاجات واحباطات أثناء الكتابة كما لو كانوا في سوق!
في عصر التكنولوجيا، تنتشر عوامل التشتيت في كل مكان، وتلاحظ هيلين الحاجة إلى تحديد نقاط الضعف الخاصة بك بالإضافة إلى إمكانية استخدام التطبيقات لمساعدتك في التغلب عليها. باعتباري شخصًا تحفزه المكافأة أكثر مما يخيفه العقاب، فأنا ممتنة إلى الأبد لتعريف هيلين بموقع ويب يكافئك بصورة قطة بمجرد كتابة عدد محدد مسبقًا من الكلمات. ومع ذلك، يُظهر كتابها أيضًا أن التشتتات قد لا تكون دائمًا كوارث. في حين أن فحص رسائل البريد الإلكتروني باستمرار يؤدي إلى نتائج عكسية بالنسبة لمعظم الناس، إلا أن البريد الإلكتروني المتقطع يمكن أن يوفر إحساس الإرضاء الفوري الذي قد يكون شكلاً مرحبًا به من التنويع أثناء جلسة الكتابة.
تقرر هيلين بأن العديد من نصائح الكتابة المقدسة كما لو كانت “إنجيل ممارسة الكتابة” قد لا تكون جذابة في الممارسة العملية؛ على سبيل المثال: “اكتب أولًا، وحرر لاحقًا” هي استراتيجية موصى بها بشكل متكرر، وذلك لتشجيع كتابها “كيف يكتب الأكاديميون الناجحون؟” على إسكات روح المحرر الداخلي، وكتابة المسودات الأولى التي تُقرأ كما لو كانت مترجمة من الأيسلندية من قبل غير ضليع باللغة؛ ومع ذلك، في حين أن تقنيات الكتابة الحرة مفيدة للبعض، فإن أولئك الذين ليس لديهم مشكلة في الوقوف طويلا مع تدقيق الأبجدية والإملاء قد يستفيدون أكثر من خلال المراجعة والتحرير بشكل متكرر من البداية؛ وسيكون هناك دائمًا أشخاص لديهم خطط كتابة دقيقة وآخرون يكتشفون ما يريدون قوله من خلال عملية الكتابة نفسها. ومن خلال تقديم مجموعة واسعة من الأساليب، تشجع هيلين على “التجربة”، فأحد الاقتراحات هو أن تسجل إيقاعات كتابتك على مدار فترة ما، مع الاهتمام بالسلوكيات اللاواعية أو المعتادة. قديكون من هذه السلوكيات: التحقق من حسابك على Facebook كل عشر دقائق، أو البحث عن الطعام في كل مرة تواجه فيها عقبة مفاهيمية، حتى عندما لا تكون جائعًا تعتقد هيلين أنه يمكن إعادة توجيه العادات غير المرغوب فيها في اتجاهات أكثر إيجابية، لكن هذا يتطلب أولاً التعرف على أهميتها.
يوفر كتاب “كيف يكتب الأكاديميون الناجحون؟” أيضًا نصائح لتشكيل مجموعات الكتابة، مع التأكيد على أهمية وجود نية واضحة وراء هدف المجموعة حيث قد تكون هناك اختلافات بين التجمعات التي تهدف إلى تقديم الملاحظات التي يدلي بها الأقران، وتلك المصممة لدفع عجلة الإنتاجية الفردية أو الجلسات التي بغرض التحفيز. ما تشترك فيه جميع مجموعات الكتابة الناجحة تقريبًا هو الشعور المشترك بالمتعة. والمتعة، بالنسبة لهيلين: هي مفتاح الكتابة الناجحة. إنها تحذر من النصيحة المتكررة للكُتاب بقتل “ما يحبون”، أي تلك النصيحة التي تقول بأن على الكُتاب أن يتخلصوا من الأجزاء التي يشعرون نحوها بانجذاب أكبر من غيرها، لأن هذه هي الأجزاء التي تعبر عن الإعجاب والرضا عن الذات ؛ تشكك هيلين في الحاجة إلى هذه القطيعة، وتشجع الكُتاب على السماح بوجود المشاعر الإيجابية أثناء ممارسة الكتابة.
من خلال تحليل الطرق المختلفة التي يصف بها الناس كتاباتهم، تجادل هيلين بأن التعبيرات المجازية تمارس تأثيرًا قويًا على نفسيتنا، وتشكل طريقة تفكيرنا و تصرفاتنا. ليست الاستعارات التي تقدمها ممتعة لقراءتها فحسب- مثل قولها “الكتابة باللغة الإنجليزية تضاهي صنع البيتزا بالنسبة للإيطاليين” – بل من السهل فهمها والتعرف عليها بشكل كبير. يشير الشعور السائد بالخوف فيما يتعلق بالكتابة إلى حاجة الأكاديميين لقبول أنه: في مرحلة ما، ستعود كتاباتهم إليهم كما لو أنه وقع لها حادثٌ ما أخرجها عن مسارها. من خلال تسليط الضوء على كيفية تعامل الآخرين مع النقد والرفض، توضح هيلين كيف يمكن أن تؤدي مشاعر الفشل الأولية إلى الإنتاجية وإجراءات ما بعد الرفض.
يتمثل أحد الموضوعات الرئيسية التي تبرز من المحادثات مع الأكاديميين الناجحين في أن القوة الدافعة وراء كتاباتهم لا تكمن فقط في الانضباط المفروض من الخارج، ولكن أيضًا الانضباط الذاتي الذي تدفعه الرغبة في الإنجاز. في حين أنه غالبًا ما يكون صحيحًا أن الأكاديميين اختاروا هذا المسار الوظيفي بدافع حبهم لمجالهم، إلا أن التركيز المفرط على الكتابة الأكاديمية كشغف وامتياز يخفي الركيزة الأكثر قتامة في الأوساط الأكاديمية ألا وهي: ظروف العمل النيوليبرالية. يجب أن يقدّر الأكاديميون حقًا امتياز البحث (غالبًا، وليس دائمًا) في الموضوعات التي يجدونها ذات مغزى، ولكن هذا لا ينبغي أن يأتي على حساب الاعتراف بوجود ضغوط مؤسسية حقيقية تجعل من الصعب العثور على “الضوء والهواء، والزمان والمكان” المناسبين لكتابة أعمق بكثير من مجرد ملاحظات عابرة. قد لا تكون هناك قطط حرفية تزحف على ظهورنا -كما توحي قصيدة بوكوفسكي- لكن تلك القطط المجازية تتجسد على هيئة أعباء تعليمية ثقيلة، وواجبات إدارية لا تنتهي، ومراجعين ناقدين، ومواعيد نهائية وشيكة.
بينما توفر هيلين تذكيرًا ضروريًا بمتعة الكتابة، فإن كتابها يثير بشكل غير مقصود الحاجة إلى التفكير في كيف يمكن أن يكون الحب نفسه داخل الأوساط الأكاديمية غطاءً خطيرًا، وذلك لأن الحب وحده نادرًا ما يكون كافيًا لنشر المقالات والكتب وتقديم مقترحات المنح. قد تكون هناك مناسبات يمكن أن يفسح فيها “قتل المرح” مجالًا لإمكانيات وطرق أخرى لبناء حياة أكاديمية. يحتاج النجاح الأكاديمي الحقيقي إلى تجاوز معيار النجاح الفردي. هناك حاجة إلى إدراك أنه: لإعادة صياغة أفكار سي.رايت ميلز مثلا، قد تعكس المشاكل الشخصية للكتابة جزئيًا القضايا العامة للبيئات الأكاديمية الاستغلالية.
أوصي بشدة بهذا الكتاب لأي شخص يرغب في تجربة ممارسات كتابته والتفكير فيها بعمق أكبر. إنه كتاب مؤلف بأناقة كبيرة (يجب أن نكون ممتنين له، لأنه بالتأكيد إذا كان الكتاب الذي يتحدث عن الكتابة مكتوبا بشكل سيء فلن يكون مشجعا للغاية). في أحد الفصول تشارك هيلين بشجاعة رحلتها في الكتابة؛ لقد قامت بذلك عن طريق تسجيل “البدايات الخاطئة” العديدة التي مرت بها أثناء كتابة أحد الفصول، مما يدل على أن كتابتها لم تكن إنتاجًا سهلًا ولكنها تتطلب تحريرًا دقيقًا.
تتوافق هذه الشفافية مع اقتراح هيلين بأن الأكاديميين الناجحين يجب أن يجعلوا نقاط ضعفهم مرئية: على سبيل المثال، من خلال إظهار “المسودات الأولى الغامضة” لطلابهم. يمكن أن يساعد هذا في إنشاء ثقافة أكاديمية يتم فيها إزالة الغموض عن المحادثات حول الكتابة، ومن ثم يُنظر إلى الأكاديميين الذين حازوا قصب السبق في الالتزام بقواعد التألق على أنهم معرضون تمامًا مثل بقيتنا لمجموعة كاملة من المشاعر التي تثيرها حياة الكتابة.
بيانات الكتاب:
- العنوان: ضوء وهواء، زمان ومكان: كيف يكتب الأكاديميون الناجحون؟
- تأليف: هيلين سورد
- الناشر: Harvard University Press
- تاريخ النشر: إبريل 2017
- عدد الصفحات: 280