فارق كبير بين تساؤل إسماعيل أدهم عام 1937م ” في كتابه “لماذا أنا ملحد؟” وبين تساؤل إسماعيل عرفة بعد أكثر من ثمانية عقود في كتابه “لماذا نحن هنا؟”، أعلن “أدهم” أنه آمن بالعلم وحده، وأن الإلحاد هو الإيمان بأن سبب الكون يتضمنه الكون ذاته، وأنه لا ثمة شيء وراء هذا العالم، أما “عرفة” فأعلن أن الإيمان أعلى مقامات العقل، وأن الشك أول درجات اليقين.
جاء كتاب “لماذا نحن هنا:تساؤلات الشباب حول الوجود والشر والعلم والتطور”[1] لـ”إسماعيل عرفة” ليجيب عن أسئلة وجودية تشغل أذهان كثير من الشباب، أسئلة تبحث عن يقين تعتصم به من قلقها، فأثواب الإيمان قد تبلى، وتحتاج إلى تجدد، والإيمان يزيد وينقص، وطبيعة الأسئلة الوجودية تتنوع، فإذا كان القدماء بحثوا عن الخالق وأدلة وجوده، فإن اللحظة الراهنة تطرح أسئلة أخرى تتعلق بالشر والعدل الإلهي.
الدعاة مطالبون مطالب بتجفيف الإلحاد بالإجابات المقنعة التي تسكت الشك وتحيي اليقين، ولا يكفي أن يعدد الداعية الآيات على الشباب؛ بل لابد أن يتسلح بمعرفة علمية وقدرات حجاجية، ومعرفة فلسفية بالدين وليس بأحكامه الشرعية فقط، لأن السؤال ليس عن الدليل الشرعي، بل هو سؤال عن الغايات الكبرى للدين في الحياة، وعن الإله، والمصير، والعدل.
كان العلماء المسلمون القدماء يدركون أثر الشكوك، ويتعاملون معها بمنهجية الاستدلال والنظر، وفي هذا يقول الإمام النووي” :”فالخواطر على قسمين: فأما التي ليست بمستقر ولا اجتلبتها شبهة طرأت، فهي التي تدفع بالإعراض عنها، وعلى مثلها يُطلق الوسوسة، وأما الخواطر المستقرة التي أوجبتها الشبهة فإنها لا تُدفع إلا بالاستدلال والنظر في إبطالها”، ويُستفاد من الكلام أن تلك الشبهات لو تركت بلا إخماد لمنطقها وإبطال لحججها ستقود إلى الإلحاد حتما، ومن ثم فالمواجهة الصحيحة هي مسؤولية دعوية وضرورة شرعية، لذا يقول الجاحظ:”اعرف مواضع الشك؛ لتعرف بها مواضع اليقين”.
لماذا نحن هنا؟
الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يطرح سؤال “لماذا؟” ويظل هذا السؤال هو المحدد للوجود الإنساني، فالإنسان كائن متجاوز لإطار المادة، فالقلق الوجودي هو ما يميزه عن غيره من المخلوقات، ومن ثم “يصبح الإنسان العاقل هو من لديه شكوك”، ويُعد سؤال الغاية من الوجود من أهم الأسئلة التي تثور في ذهن الإنسان خاصة في مرحلة الشباب..
النزعة الإلحادية الحالية تعتمد على فيروياء الكم، ولكنها لا تخلو من غرض أيديولوجي، أي أنها لم تثبت من خلال الوسائل العلمية، فالملاحدة يؤمنون بأن الكون أزلي دائم بلا بداية[2]، وهذا القول لا سند له علميا، ومنذ العام 1966م وهناك أبحاث علمية تؤكد وجود نقطة بداية للكون، رغم الاختلاف في تحديدها، فظهر ما يسمى بنظرية “الإنفجار العظيم”Big Bang[3]، وفي العام 2012 خرج بحث بعنوان “هل للكون بداية”[4] ، فهناك محاولة للهروب من الحديث عن وجود بداية للكون لأن تحديدها سيطرح بالضرورة سؤال الخالق سبحانه وتعالى.
والواقع أن هناك بديهات لا يمكن إنكارها، وهي حقائق يسلم الإنسان والعقل بها، ويرى بعض العلماء أن الإنسان خُلق وفي داخله قدر ما من المعرفة المسبقة، فهي فطرة مركوزة داخله، وهذه البديهيات لا يمكن الاستدلال عليها ببرهان تجريبي، وهي مدركات عقلية تأسيسية، وفي هذا يقول ابن حزم:”ما كان مُدركا بأول العقل والحس، فليس عليه استدلال أصلا”، ومن تلك البديهات قانون السببية، وهو “أنه لا شيء يحدث بلا علة، أو بلا سبب محدد”، وهو قانون تأسيسي لأي معرفة إنسانية، لذا “فمن رفع الأسباب فقد رفع العقل”[5].
ومن النظريات المفسرة لنشأة الكون “نظرية الأوتار” التي تدعي وجود أوتار غير مرئية تربط الكون، وهذه الأوتار لا يمكن ملاحظتها أو قياسها، ونظرا لحالة السيولة وغير الوضوح التي تحملها تلك الفرضية، قال عنها الفيزيائي الأمريكي الحائز على جائزة نوبل “ديفيد جروس”:”نحن لا نعلم عماذا نتحدث”، بل إن أحد الفيزيائيين الذي كان متحمسا للنظرية يلخص مشكلة النظرية بقوله: “نظرية الأوتار لا تستطيع تقديم أية تفسيرات محددة لمعرفتنا الحالية بالكون..كما أنه لا يمكن تقييمها، فهي لا تمتلك أية مصداقية كنظرية فيزيائية”.
ومن ثم فتلك النظريات محكوم عليها بعدم القدرة على الاختبار، فهي تمثل قمة اللاعقلانية، واعتبرها آخرون أنها “فكرة ميتافيزيقية”، والحقيقة أن طرح تلك النظريات والدعوة للإيمان بها هي محاولة لإيجاد مسار بديل عن الإيمان بالله كخالق للكون، فعند فحصها يتكشف عدم علميتها، ويتضح أن منطلقاتها كانت فلسفية وأيديولوجية، وربما كان فيلسوف الفيزياء كوينتين سميث أكثر وضوحا في التعبير عن عبثيتها بقوله “التصور الأكثر معقولية هو أننا قد جئنا من لا شيء وبلا شيء، من أجل لا شيء”.
وفي ظل هذا التضارب في الفرضيات العلمية والنظريات المفسرة لنشأة الكون، وعدم وجود أية أدلة على إثبات صحة فرضيتها، يقدم الدين رواية كاملة عن نشأة الكون، وبداية الخلق، وبداية وجود الإنسان على الأرض، وهي رواية متماسكة، وتحتاج إلى إيمان الإنسان بالغيب، ويؤكد الفيزيائي الأمريكي ديفيد بوم أن “هناك متغيرات لم تصل قدراتنا وآلاتنا القياسية إلى رصدها بسبب ضعف وسائلنا العلمية”، والحقيقة أن قوانين الفيزياء تفسر الظواهر ولا تنشئها، كما أن كافة القوانين الكونية نشأت مع الكون ولم تكن سابقة عليه، ولعل هذا ما يقرره أحد أساتذة الأحياء الأمريكيين وهو “إدوارد كيسيل” بقوله “وهكذا توصلت العلوم-دون قصد- إلى أن لهذا الكون بداية، وهي بذلك تثبت وجود الله”، ولعل أروع ما قيل في هذا الشأن هو قول الإمام الشاطبي:”إن الله جعل للعقول في إدراكها حدا تنتهي إليه لا تتعداه، ولم يجعل لها سبيلا إلى الإدراك في كل مطلوب، ولو كانت كذلك لاستوت مع الباري تعالى في إدراك جميع ما كان وما يكون وما لا يكون“.
سؤال الشر
الشر هو السؤال المربك، وهو إحدى بوابات الولوج إلى الإلحاد إذا لم يجد إجابات شافية تقود إلى يقين راسخ، وهو سؤال لا يخص المسلمين فقط ولكن كل أهل الاديان، وهو سؤال قديم تم تطويره على مر الأزمان، ومع كل أزمة ومأساة وظلم يتجدد السؤال.
وقد احتار الكثير في تفسير مشكلة الشر، وموقف الخالق سبحانه من تركه للشر في الكون، وكان أقصى ما توصل إليه البعض أن الإله كلي الخير القدرة، ولكنه خلق الكون ثم تركه، وهؤلاء روجوا لفكرة “الإله الناقص الصفات”.
والحقيقة أن تلك المشكلة لم تكن قضية مركزية من قضايا علم الكلام في الفكر الإسلامي، ولعل ذلك يرجع إلى أن الفسلفة الدينية تؤمن بحرية الإرادة الإنسانية، وما يرتبط بها من مسؤولية، والشر إحدى نواتج تلك الإرادة الحرة، قال تعالى:”وهديناه النجدين“[6]، وبالتالي فوجود الشر دليل على حرية إرادة الإنسان ومسؤوليته، ولا يمكن إزالة ذلك الشر الإنساني إلا من خلال الإنسان نفسه، تحقيقا لحرية الإدراة الإنسانية، ومفهوم الاختيار يستلزم قدرة الإنسان على فعل الخير والشر.
أما الفسلفة المادية فتقوم على مركزية الإنسان في الكون وكونه المرجعية النهائية، وتؤسس لذلك بعدة مقولات، منها: أن “الإنسان مقياس كل شيء” و”من العقل يجب أن ننطلق” وهي مركزية تبتعد بالإنسان عن مركزية الوحي، وتأسيسا على ذلك يصبح سؤال الشر معضلة، لأن تحديد الشر ذاته يختلف من إنسان لآخر ومن زمان لآخر، وهناك عبارة صُيغت بمهارة في رواية “الأخوة كارامازوف” تقول: ” إذا كان الإله غير موجود فكل شيء مباح”، فوجود الإله هو الذي يحدد المعيار للخير والشر.
ولكن لماذا لا يتدخل الرب لإنقاذ المستضعفين والمعذبين؟
فهم قانون السببية ضروري لإدراك تلك الإشكالية، فقانون السببية، يؤكد أن الظلم ناتج من الإنسان، والإنسان ذو إرادة حرة، وهو مسؤول مسؤولية تامة عن أفعاله، وإذا تدخل الرب لألغى إرادة الإنسان وانتفت بذلك مسؤولية الإنسان ولم يعد هناك مجال للحديث عن حساب وجزاء، الأمر الثاني أن تدخل الرب لن يكون في حادثة واحدة أو مكان واحد أو زمان واحد، ولكن سيكون تدخل دائم، أي تدخل للقضاء التام على الشر، وهو ما يعني أننا وصلنا إلى محطة النهاية في التجربة الإنسانية، في حين أن الدنيا هي دار ابتلاء وليست محطة انتهاء، يقول الجاحظ:” ولو كان الشر صرفا لهلك الخلق، أو كان خيرا محضا لسقطت المحنة، وتقطعت أسباب الفكرة، ومع عدم الفكرة يكون عدم الحكمة، ومتى ذهب التخيير ذهب التمييز”، أما المعجزات التي حدثت وأنقذت المستضعفين في الأمم السابقة، فجلها حدث بعد سنوات طويلة من المدافعة بين الخير والشر[7]، والظلم والعدل والإيمان والكفر، كما أن تلك المعجزات وقعت لإثبات صدق النبوة والرسالة وليس لإنهاء الشر بتدخل سماوي يلغي إرادة الإنسان.
[1] الكتاب صادر عن وقف لائل عام 1438هـ في 259 صفحة، وينقسم إلى ثلاثة فصول: لماذا نحن هنا؟ وهو يتعلق بسؤال الوجود والخلق، وسؤال الشر، و”الإسلام والعلموية”.
[2] هؤلاء سماهم الفلاسفة المسلمون بـ”الدهريين”، وخاضوا جدلات واسع معهم، بل إن الإمام أبي حامد الغزالي خصص ثلث كتابه “تهافت الفلاسفة” للرد عليهم، وكذلك ابن تيمية في “منهاج السنة” و”بيان تلبيس الجهمية” و”مسألة حدوث العالم”.
[3] تزعم النظرية أن انفجارا حدث قبل نحو 13.7 مليار سنة، وفي ظروف معينة تصل الحرارة فيها إلى (10) تريليون درجة مئوية، وفي وقت لا يتجاوز أجزء متناهية الصغر من الثانية. ورغم عدم وجود أية أدلة على إثبات صحة تلك النظرية أو بالأحرى تلك الفرضية إلا أن صارت هي السردية المعتمدة لنشوء الكون وبدايته
[4] الكتاب من تأليف “أدري مثاني وألكسندر فلنكن”
[5] مقولة لابن رشد في كتابه “تهافت التهافت”
[6] سورة البلد: الآية 10
[7] ربما لخص هذه الرؤية باقتدار الشاعر صلاح عبد الصبور في إحدى مسرحياته بالقول: أؤمن بأن غاية الوجود هى تغلب الخير على الشر من خلال صراع طويل مرير، لكى يعود إلى برائته، التى ليست غفلاً عمياء، بل هى براءة اجتياز التجربة والخروج منها كما يخرج الذهب من النار وقد اكتسب شكلاً ونقاء، إن مسئولية الإنسان هى أن يشكل الكون وينقيه فى نفس الوقت، وليس سعيه الطويل إلا محاولة لغلغلة العقل فى المادة، وخلق كل منسجم متوازن يقدمه بين يدى الله فى آخر الطريق، كشهادة استحقاق على حياته على الأرض”.