في ليلة عظيمة من ليالي شهر رمضان، أشرق نور القرآن ونزلت أولى آياته واستضاء الكون ودبت فيه روح الإيمان والحياة، {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} [الأنعام: 122]. جاء هذا الكتاب حاملا لأسباب السعادة، {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]؛ يهدي للتي هي أقوم في الاعتقادات وفي التعاملات وفي السلوك مع النفس ومع الكون من حولنا وفي اتخاذ أفضل القرارات. أنزل الله تعالى القرآن لكي يريح الإنسانية من التخبط، {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم: 1]، وأسوء حالات التخبط أن لا يدرك الإنسان إلى أين يتجه، وعلى من يستند، وبمن يستعين؟
مراتب تلاوة القرآن
هل تلاوتنا للقرآن الكريم متساوية؟؟
قالت الجن حين سمعته:{ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الجن: 1، 2] تشعر من خلال هذه الكلمات بالفرح والسعادة والتصميم على الإيمان،و لَمَّا قَرَأَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُورَةَ الرَّحْمَنِ عَلَى أَصْحَابِهِ حَتَّى فَرَغَ قَالَ : مَا لِي أَرَاكُمْ سُكُوتًا؟، لَلْجِنُّ كَانُوا أَحْسَنَ مِنْكُمْ رَدًّا ، مَا قَرَأْتُ عَلَيْهِمْ مِنْ مَرَّةٍ ، {فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} إِلاَّ قَالُوا : وَلاَ بِشَيْءٍ مِنْ نِعْمَتِكَ رَبَّنَا نُكَذِّبُ فَلَكَ الْحَمد”.[1]
استمعوا القرآن بقلوبهم قبل آذانهم {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا} لقد أنصتوا وأبصروا الحق وصاروا دعاة له {فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ}، لقد بينوا جزاء الاستجابة لأمر الله وحذروا من عقاب من يعرض عن الله تعالى، { قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } [الأحقاف: 29 – 32]. هذا نموذج للاستماع المثالي الذي تغيرت به حركة الحياة إلى الأفضل، وتجاوب مع ما استمع إليه من هداية ونقلها للآخرين.
ولنذهب إلى نموذج للتلاوة التي تشارك فيها اللسان والقلب وتجاوبت معها الكائنات، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يَقْرَأُ سُورَةَ الْكَهْفِ وَعِنْدَهُ فَرَسٌ مَرْبُوطٌ بِشَطَنَيْنِ [حبلين طويلين]، فَتَغَشَّتْهُ سَحَابَةٌ فَجَعَلَتْ تَدُورُ وَتَدْنُو، وَجَعَلَ فَرَسُهُ يَنْفِرُ مِنْهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: «تِلْكَ السَّكِينَةُ تَنَزَّلَتْ لِلْقُرْآنِ»[2] السكينة تنزلت وفي السكينة راحة للنفوس القلقة، وتثبيت للقلوب المضطربة، ومع السكينة جاءت الملائكة، ونزولها فيه الخير والرحمة والإحسان.
عن محمود بن لبيد، أن أسيد بن حضير، كان من أحسن الناس صوتا بالقرآن، فقرأ ليلة وفرسه مربوطة عنده، وابنه نائم إلى جنبه، فأدار الفرس في رباطه فقرأ، فأدار الفرس في رباطه، ثم أخذ ابنه وخشي أن يطأه الفرس فأصبح فذكر ذلك لرسول الله ﷺ، فقال رسول الله ﷺ: «اقرأ ابن أسيد» قال: فأدار الفرس في رباطه، فقال: «اقرأ أسيد» حتى ذكر ذلك ثلاثا، فقال: انصرف إلى رسول الله وخشيت أن يطأ الفرس ابني، قال: «فإن الملائكة لم يزالوا يسمعون صوتك» قال: «ولو قرأت أصبحت ظلة بين السماء والأرض يتراياها الناس فيها الملائكة»[3].
فإذا لم نصل لمستوى الجن في الاستماع والتأثر، ولتلاوة أسيد رضي الله عنه الذي تجاوبت معها الملائكة، هل نتوقف عن قراءة القرآن؟
إن القرآن نبع فياض كلما اقتربت منه نلت من الخير الذي أودعه الله فيه، وكلما اقتربت أكثر كلما ازددت انتفاعا وارتفاعا حتى تكون ممن يتلون القرآن حق تلاوته، والتعامل مع القرآن يحتاج إلى صفاء نفس وهذا الصفاء يحتاج إلى مجاهدة وصبر.
أغراض قراءة القرآن
ما هي أغراض قراءة القرآن؟
1- الحصول على الحسنات، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ: ألم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ”[4] وكلما تلا المسلم كتاب ربه كلما كثرت الحروف وازدادت الحسنات.
2- للحفظ من تأثير الشياطين.
3- للسكينة النفسية التي تعود على قارئ القرآن؛ إذ قراءته تطرد الحزن وتبعد الهم والغم، ويشعر قارئ القرآن بسكينة وراحة.
4- للاستشفاء، {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا } [الإسراء: 82] شفاء من الأمراض النفسية وما يترتب على وجودها من أمراض عضوية.
5- لمناجاة الخالق سبحانه وتعالى، وهل هناك أفضل من مناجاة الله تعالى بكلامه، قال النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ بِالقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ»[5]
6- لتسخو نفوسنا، «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَلْقَاهُ، فِي كُلِّ سَنَةٍ، فِي رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ [ينتهي]، فَيَعْرِضُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ، فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ»[6] تلاوة النبي ﷺ القرآن بين يدي جبريل واستماع أحدهما من الآخر، سبب في شدة سخائه ﷺ، فإذا عرفنا أن النبي ﷺ بطبعه سخي حتى أعطى رجلا غنما بين جبلين، فكيف يكون سخاؤه ﷺ في رمضان؟!!
7- نقرأ القرآن لنقتبس من نصائحه ووصاياه، وقد أدرك بعض النصارى ما في هذا الكتاب العظيم من نصائح قيمة فلم يكن في بيته إلا نسخة من القرآن، ولم ينصح ابنه الذي اغترب في مقتبل حياته للدراسة إلا بآيات من القرآن، لما في هذه النصائح من معان سامية وقيم راقية.
8- نقرأ القرآن لتستقيم ألسنتنا، وكان النصارى في مطلع القرن الماضي يلحقون أبنائهم بمكاتب تحفيظ القرآن لتستقيم ألسنتهم، وكان من هؤلاء الأستاذ نظمي لوقا صاحب عدة كتب منها: “محمد الرسالة والرسول”، والذي عبر فيه عن عظيم تقديره لنبينا محمد ﷺ ،رغم تصديره الكتاب بعبارة:” كاتب هذا الكتاب مسيحي المولد والمعتقد”.
9- نقرأ القرآن لنعرف مجموع القوانين التي يدار بها الكون، فلله تعالى سنن ثابتة {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا } [الأحزاب: 62] ومعرفة هذه القوانين يوفر لنا فهما أفضل لما يجري حولنا ويعرفنا طرق النجاة من المآزق.
10- حتى نستمع للرسائل الإلهية ،قال الحسن: إن من قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم فكانوا يقرؤونها بالليل وينفذونها بالنهار”[7]. والقرآن خطاب الله تعالى للبشرية أيا كان مستواها من الانحطاط والانحراف عن هدايات الله تعالى أو رقيها وسيرها على الصراط المستقيم.
11- نقرأ القرآن لنرى بنور القرآن، {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ}. البصيرة للقلب كالبصر للعين؛ العين تدرك الألوان والمسافات والمساحات،والبصيرة تدرك المعاني وتميز بين الأشخاص.
في الصراع بين الحق والباطل نحتاج إلى البصيرة، والقرآن يكوّن البصيرة ويغذيها، في الصراع بين الحق والباطل نجد قوله تعالى: {ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ } [الأنفال: 18] ،والكيد أقوى من القوى المادية، فمكيدة بسيطة تكفي لإشعال الحرائق وإيقاد نيران العداوة والبغضاء، وأن تجعل الناس يقتل بعضهم بعضا ويأكل بعضهم بعضا ويلعن بعضهم بعضا، اعلموا أن الله تعالى يضعف كيد الكافرين مهما كان محكما في نظركم.
ونجد قوله تعالى {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } [آل عمران: 120] الصبر ليس استسلاما ولا ركونا، بل هو عمل مستمر واستعداد لتلقي الضربات، والاستفادة من الأخطاء، الصبر استعداد للنضج وتحمل للمراحل التي تسبقه.
ونجد قوله تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } [محمد: 7]، وأخبرنا سبحانه وتعالى عن أثمان ستدفع في الصراع بين الحق والباطل {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} [النساء: 104]، إذا تألمتم لما يصيبكم من خسائر في الأموال والأنفس فإنهم يتألمون كذلك، وخسارة الأموال والأنفس حاصلة بسبب الدنيا وبسبب نزاعاتها التافهة، وبين أيدينا وعد إلهي يدفعنا للعمل وحسن الظن بالله تعالى {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } [الروم: 47].
[1] المستدرك للحاكم صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ.
[2] صحيح مسلم
[3] المعجم الكبير للطبراني
[4] سنن الترمذي
[5] صحيح البخاري
[6] الصحيحين واللفظ لمسلم
[7] إحياء علوم الدين