إذا كانت الشريعة واحدة وقوانينها واحدة فلماذا يختلف الفقهاء وتتعدد آراؤهم في قضية واحدة؟ أو بعبارة أدق: لماذا تتعدد أحكام الفقهاء الخاصة بموضوع واحد؟ .
وللإجابة على هذا السؤال لا بد من التفريق بين حالتين: حالة يكون فيها الاختلاف قائماً على أسس منهجية سليمة وممارسة علمية مشروعة .
وحالة أخرى ينتج فيها الاختلاف عن الاجتهاد الكيفي المرتجل الذي لا يقوم على أساس سليم ، ولا ينبع من أصول علمية مستقيمة مع روح الشريعة ومصادرها ، فالاختلاف الأول نتيجة طبيعية لنشاط علمي سليم ، والفقهاء معذورون غير مؤاخذين ، أما الاختلاف الثاني فليس اجتهاداً ، ولا فقهاً ، بل هو عمل اعتباطي مقحم على روح الشريعة ومبادئها .
فعلم الفقه كغيره من العلوم والمعارف الإنسانية في هذا الجانب ، فكما أن لكل علم من العلوم قوانينه وقواعده الواقعية والطبيعية الخاصة به ، فكذلك الشريعة الإسلامية لها أحكامها وقوانينها .
وكما أن عالم الفيزياء ـ في مثالنا ـ يبذل جهده العلمي لاكتشاف قوانين الفيزياء حسب واقعها الطبيعي ، وعالم المنطق يبذل جهده لاكتشاف قوانين التفكير وفق واقعها العقلي ، وليس بامكان أحدهما أن يخلق من عند نفسه قوانين خاصة للمنطق والفيزياء ، فكذلك الفقيه (المجتهد) ليس بامكانه من الناحية العلمية الشرعية أن يوجد قوانين وأحكاماً ايجاداً اعتباطياً ، ثم يسبغ عليها صفة الشرعية والعلمية .
وكذلك أيضاً؛ فكما أن عالم الفيزياء والمنطق يخطئ أحياناً عند اكتشاف القوانين والقواعد العلمية ، وأن هذا الاكتشاف الخاطئ لا يمثل القانون الطبيعي للفيزياء والمنطق ، بل يمثل فهم العالم المكتشف الذي أخطأ في تشخيص القانون ، فكذلك الحال بالنسبة للفقيه عندما يمارس عملية استخراج الاحكام والقوانين الاسلامية من مصادرها الاصلية ـ الكتاب والسنة ـ فإنه قد يخطئ أحياناً في عملية الاكتشاف والاستنباط هذه ، ولكن خطأه هذا ليس خطأ عشوائياً ، أو ارتجالياً كيفياً ، بل لقصور في أدواته العلمية ، أو امكاناته الذاتية ، فيقصر به الاستعداد العلمي عن تشخيص القانون والحكم الشرعي كما هو قائم بذاته في عالم القانون والشريعة الالـهية .
ولذا كان الفقيه معذوراً عند الخطأ والقصور عن اكتشاف الحكم الصحيح متى كان هذا الفقيه مستوفياً الشروط ومستنفداً وسعه في عملية الاستنباط .
أما أسباب الاختلاف: بين المجتهدين سواء كان من مجتهدي المذاهب الاسلامية المختلفة أو مجتهدي المذهب الواحد ، فيعود بشكل أساسي إلى:
1 ـ الاختلاف اللغوي حول النص من القرآن والسنة ـ في بعض مواردهما ـ لاختلاف في الإعراب ، أو في المعنى أو في القراءة ، مما يقود إلى الاختلاف في الفهم واستنباط الاحكام ، كاختلافهم في إعراب آية الوضوء في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اذا قمتم الى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم الى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم الى الكعبين وان كنتم جنباً فاطهروا . . .} .(المائدة/6)
فالذي اعتبر (أرجلكم) معطوفة على (وجوهكم) أوجب غسلها ، والذي اعتبرها معطوفة على (برؤوسكم) أوجب مسحها .
وكاختلافهم في فهم معنى (القُرْء) في قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء . . .} .(البقرة/228)
فقد اختلف الفقهاء في المعنى اللغوي لكلمة (قُرْء) فبعضهم فسر القرء بأنه الطهر ، وبعضهم فهمه وفسره على أنه الحيض ، وكل واحد من أصحاب هذين الرأيين يعتمد على فهم وتأويل لغوي . لأن لفظ القرء يطلق في لغة العرب على كل من الحيض والطهر .
وبناء على هذا الاختلاف اللغوي اختلف المجتهدون في مدة عدة المطلقة هل هي ثلاثة أطهار ـ بعد الطلاق ـ ، أو ثلاثة أشهر كاملات لأن المقصود بالقرء: الحيض . والحيض هنا اسم رمزي لشهر المرأة ، باعتباره عادة شهرية تحدث لها في كل شهر مرة .
وكاختلافهم في قراءة قوله تعالى {حتى يطهرن} في الآية الكريمة {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن ، فاذا تَطَهَّرنَ فأتوهن من حيث أمركم الله ، إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين} .(البقرة/222)
فالذي قرأ {يطهرن} مشددة لم يجز جماع المرأة بعد انتهاء مدة الحيض إلاّ بعد التطهر (الغسل) ، والذي قرأها مخففة أجاز جماعها لمجرد حصول الطهر وهو انقطاع الدم .
أو كاختلافهم في أمر يفيد الوجوب أو الاستحباب ، أو أن النهي يدل على الحرمة أو الكراهة ، أو أن هذا اللفظ يفيد الحقيقة أو المجاز ، أو كاختلافهم في العلاقة بين النصوص كالاطلاق والتقييد ، والعموم والخصوص . . . الخ .
2 ـ الاختلاف حول المقصود (من الكتاب والسنة) ، فقد يختلف المجتهدون في فهمهم لدلالة النص وقصده كاختلافهم في فهم قوله تعالى: {الطلاق مرتان فامساك بمعروف أو تسريح بإحسان . .} .(البقرة/229) {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره فان طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا} .(البقرة/230)
فقد سبب الاختلاف في فهم قوله تعالى {الطلاق مرتان} نشوء آراء وأحكام فقهية بعضها يقرر تحريم الزوجة على زوجها اذا طلقها بقوله ثلاث مرات {أنت طالق} ، بناء على فهمه للآية {الطلاق مرتان} ، وفي الثالثة تكون قد بانت بينونة كبرى فلا يصح له الزواج منها حتى تعتد وتتزوج زوجاً غيره ، فان طلقها الاخير فلزوجها الاول أن يتزوجها بعد انقضاء عدتها .
في حين فهم فريق آخر من قوله تعالى {الطلاق مرتان} أنه لا بد من تحقيق الطلاق فعلاً ـ وليس لفظاً ـ لكي تحرم الزوجة على زوجها ، فالقرآن لم يقصد تكرار اللفظ بل قصد وقوع الطلاق المسموح بعده مراجعة الزوجة ـ وقوعاً فعلياً ـ (مرتان) فإن وقع الطلاق الثالث فلا يحل له الرجوع اليها .
وتوضيح ذلك: إذا طلق الزوج زوجته فله أن يرجع بها ، فإذا رجع بها وطلقها ثانية فله أن يرجع بها ، فإذا رجع بها ثم طلقها مرة ثالثة فليس له حق الرجوع وتحرم عليه ، إلاّ إذا انقضت عدتها وتزوجت غيره ثم طلقها هذا أو مات عنها وانتهت عدة الطلاق أو الوفاة ، فللزوج الأول أن يتزوجها .
3 ـ الاختلاف في أن هذا الحكم قد نسخ أو لم ينسخ ، كاختلافهم حول حكم (الزواج المؤقت) مثلاً .
4 ـ الاختلاف بسبب قبول بعض الروايات والأحاديث أو عدم قبولها ، فبعض الفقهاء تحصل لديه ـ بسبب من تحقيقه العلمي ـ عدم ثقة بالراوي وناقل الحديث ، فلا يصدق حديثه أو يرفض الحديث والرواية بسبب عدم اطمئنانه إلى المعاني والألفاظ الواردة فيه ، أو يراه متعارضاً مع مفهوم قرآني ، أو سنة ثابتة لديه ، فيرفضه ولا يقبله ، في حين يقبله مجتهد آخر ، وتتشكل لديه قناعة بسلامة الحديث والرواية فيعتمدها في الاستنباط والاستنتاج .
5 ـ الاختلاف في اعتبار حجية بعض المصادر وعدم حجيتها ، وكيفية الاستفادة منها ، كالقياس ، والاستحسان ، وأدلة العقل ، والمصالح المرسلة ، والاجماع . . .الخ .
فبعض المجتهدين يعتمد بعض هذه المصادر ويرجع اليها لتحصيل الأحكام ، وبعضهم يرفضها ، أو يرفض كيفية الاستفادة منها بالطريقة التي عمل بها مجتهد آخر . .
وهكذا نقف على أهم أسباب الخلاف بين مجتهدي المذاهب ، وأصحاب الرأي فيها ، لذلك كان من الضروري إخضاع الآراء الاجتهادية الخلافية بين المسلمين إلى النقد والتمحيص العلمي على أسس شرعية وموضوعية نزيهة .