في ملعب الكرة تكون القوانين واضحة غاية الوضوح، والحَكم يراقب بدقة ومعه فريق من المساعدين وكاميرات ترصد بدقة.. كما أن عدد اللاعبين متساوٍ، ولا يختلف العدد باختلاف لون البشرة ولا بمدى حظ دولة اللاعبين من الرفاهية والتقدم.. وكلُّ شيء من شأنه يحقق العدالة بين الفرق المتنافسة، محسوم ومحسوب..
ما أجمله من ملعب، وما أجدره بالتسمية اللائقة به: المستطيل الأخضر! فاللون الأخضر رمز الحياة والنماء! وليت العالم كله امتدادٌ لهذه المساحة الخضراء النابضة بالحياة والحيوية، وبالعدالة!
قد يبدو هذا حديث في الرومانسية أو الأوهام؛ لأن عهدنا بالحياة أنها مساحة للصراع لا التنافس الشريف.. ولقوانين القوة المفضِية حتمًا للظلم، وليس لقوانين العدل والشفافية؛ كما في ملعب الكرة لحد كبير.
نعم، الحياة ليست رومانسية، وما ينبغي لها أن تكون كذلك.. فقد شاء الله سبحانه أن يقوم الكون على التدافع بين الحق والباطل.. الخير والشر.. العدالة والنبل والإنسانية، وما يضاد ذلك من صفات.. حتى تعمر الحياة، ويتميز المؤمن من الكافر، والصادق من الكاذب: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتْ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (البقرة: 251).
كما شاء سبحانه أن تكون الأيام دُولاً بين الناس؛ ينتصر الحق في جولة والباطل في أخرى، بقدر ما يأخذ أصحابهما من أسباب القوة والغلبة: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} (آل عمران: 140، 141).
إذاً، الرؤية الرومانسية للحياة أو للتاريخ أو للمستقبل، ليست صوابًا؛ وهي تمنع أصحابها من تكوين تصوّر صحيح عما ينبغي عليهم فعله تجاه أنفسهم وتجاه الآخرين!
إذا كان الأمر كذلك، فما الذي يجب علينا في هذا الأمر؟
أولاً: يجب أن نعي هذا الأمر جيدًا؛ فالحياة قائمة هذا الصراع أو التدافع، بما لهما من حيوية و”دينامية”، واحتكاك وتنازع.. وليست أبدًا سكونية “استاتيكية”، راكدة، رومانسية.. وإلا كانت باهتة لا لون لها ولا طعم.
ثانيًا: أن نُعد جيدًا وسائلنا في هذا الصراع أو التدافع، ولا نكون كمن ينزل ساحة الوغى بغير سيف يضرب به أو درع يتترس به!
ووسائلنا تجيء أولاً من قوتنا المعنوية المتمثلة فيما نمتلك من رسالة خاتمة، ووحي محفوظ، ومنهج منزَّل، وتجربة عريضة ثرية لقرون.. ثم تأتي القوة المادية التي تحمي هذه القوة المعنوية، وتوفر لها مظلة الأمان، وأداة الردع والصيانة..
القوة المعنوية أولاً.. وهي بغير القوة المادية لن تكون قادرة على الذود عن حياضها، ولا أن تمد مظلتها ليحتمي بها الضعفاء والمستغيثون!
وقد لفتنا القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في آية كريمة من آياته، حين تحدث عن إنزال “الكتاب” و”الحديد”، وجعل ذلك من مقومات الانتصار لله ولرسله؛ فقال سبحانه: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحديد: 25). واستخلص ابن تيمية من هذه الآية أن الدين لابد له من كتاب هادٍ، وحديدٍ ناصر!
ثالثًا: أن نعلم بأن الإسلام في مدافعته للآخرين لا يقر عدوانًا، ولا يشرِّع ظلمًا، ولا يرضى بضيم.. إنه نِزال الشرفاء، وخصومة النبلاء؛ وليس قتلاً همجيًّا، واعتداءً لا أخلاقيًّا، وسفكًا للدماء لإشباع غريزة القتل والتشفي!
لقد لخص القرآن الكريم هذا المعنى المهم في آيتين، سمَّاهما الشيخ محمد مصطفى المراغي، شيخ الأزهر الأسبق: (دستور القتال في الإسلام)، وهما قوله تعالى: {لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الممتحنة: 8، 9).
وقد شهد منصفو الغربيين أنفسهم بتميز الإسلام في هذا الجانب- أثناء فتوحاته التي امتدت شرقًا وغربًا- بخلاف ما عرفته الأمم الأخرى من محاولات توسعية واستعمارية مارست القتل بدم بارد؛ ولم تعرف للإنسان حرمة، ولم يَسلم من أذاها حتى الحجر والشجر!.. ويمكن مراجعة كتابات زيجريد هونكة وغوستاف لوبون وغيرهما.
رابعا : أن نمد جسور الحوار والتعارف والتعاون مع الآخرين غير المعتدين، كما أوضحت آيتا الممتحنة السابقتين، وألا نضع العالم كله في سلة واحدة.. بل علينا أن نميز موافق الآخرين، وندرك أن الألوان ليست محصورة في الأبيض والأسود، وأن بإمكاننا أن نكسب أصدقاء في هذا العالم، ونتجنب خصومات كثيرة.. وقائمة الأصدقاء هذه قد تشمل دولاً لا تبدؤنا بعدوان، وتناصر قضايانا؛ كما تشمل جماعات نذرت نفسها للدفاع عن هموم الإنسان وآلامه.. ولننظرْ للمكانة التي تحظى بها قضية فلسطين من غربيين كثيرين، وقد ضحَّى بعضهم بحياته من أجلها، مثل الأمريكية راشيل كوري؛ التي قتلها الاحتلال الإسرائيلي وهي تحاول منع الجرافات الإسرائيلية من هدم منازل فلسطينيين!
وهنا، علينا أن ندرك أن كثيرًا من الآخرين- وعلى مستوى الشعوب خاصة- لم تصلهم الصورة الصحيحة عنا، ولا الإطار العادل لقضايانا.. وأنهم متى وصلتهم هذه الصورة فإنهم يُبدون تعاطفًا معنا، وقد يدخل بعضهم في دين الله، كما هو الحال مع مفكرين غربيين كبار، وغيرهم؛ مثل رجاء جارودي، مراد هوفمان، محمد أسد، جيفري لانج؛ وغيرهم كثير.
وهذا يتطلب منا أن نحسن عرض قضايانا، ونحسن البلاغ عن الله تعالى ورسوله ﷺ، كما أمرا.. فكم من قضية عادلة كان نصيبها الخسران؛ لأن أصحابها لم يحسنوا عرضها ولا الدفاع عنها..!
يجب أن نطوّر لغة خطابنا، وأدواتنا في البلاغ؛ حتى نصل لعقول الآخرين بإقناع ووضوح، ونتواصل معهم أينما وُجدوا.. هذه أمانة الله عندنا، وحق الإسلام علينا..
تلك أهم النقاط التي يجب أن نتسلح بها ونحن نخوض غمار الحياة، ونبحث عن موطئ قدم في صراعاته وتدافعاته.. لأن العالم ليس ملعب كرة، من حيث العالة والشفافية.. إنه أعقد من ذلك بكثير!!