تتبارى الديانات في إقامة أحفالها والاحتفاء بأعيادها، فلليهود أيامهم ومواسمهم، وللنصارى جمعتهم العظيمة، وأحد الشعانين، وعيد الفصح، وأما المسلمون فكل أيام الله هي أعياد بالطاعات والقربات، ولهم أيام مخصوصة بمزيد الفضل، ومنها يوم عرفة، وليلة الإسراء والمعراج، وليلة القدر التي هي أفضل الليالي، وأعظمها أجرا، وأكثرها منزلة، وقد سُميت بليلة القدر لمعان كثيرة ذكرها أهل العلم ومنها:
لماذا سُمّيت ليلة القدر؟
ثانيا: التضييق: والمراد بالتضييق إخفاء هذه الليلة، أو لأن الأرض تضيق بجحافل الملائكة النازلة للسلام على المؤمنين، وورد معنى التضييق في قوله تعالى” ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله[ الطلاق، 7 ]
ثالثا: التقدير: أي الفصل والحكم في أرزاق الناس وأجالهم ومقاديرهم في السنة القابلة، كما في قوله تعالى:﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ [ الدخان، 3-4 ]، ففيها يفصل فيها قضاء السنة من اللوح المحفوظ، ويظهر علم الله للملائكة المكلفين بإنفاذه.
وورد الصريح القرآني في ليلة القدر في سورتي الدخان والقدر، كما ورد إليها إيماء في آية الصيام في قوله تعالى:﴿ فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم﴾ [البقرة،178 ]، فقد جاء في الحديث عن عبادة بن الصامت أنه: سأل رسول الله ﷺ عن ليلة القدر فقال رسول الله ﷺ: ” في رمضان فالتمسوها في العشر الأواخر، فإنها في وتر: في إحدى وعشرين، أو ثلاث وعشرين، أو خمس وعشرين، أو سبع وعشرين، أو تسع وعشرين، أو في آخر ليلة، فمن قامها ابتغاءها إيمانا، واحتسابا، ثم وفقت له غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر “[أحمد، 22713]
بماذا تمتاز ليلة القدر؟
– تنزّلَ القرآن الكريم، إما كله من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ثم منجما على قلب النبي ﷺ، أو بداية النزول كما هو الصريح في نزوله في رمضان.
– البركة والثواب العظيم للقائمين والعاكفين والداعين، إذ العمل فيها خير من ألف شهر، فتغفر فيها الذنوب، ويكثر العتقاء لله تعالى، كما قال المصطفى:” مَن قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمَانًا واحْتِسَابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ [البخاري، 1901]
– شيوع السكينة والطمأنينة حتى طلوع شمسها، ففيها تتنزل الملائكة بالرحمة والسلام لأهل الإسلام والأمان لأهل الإيمان، ويأمن أهل الأرض فلا يُرمى فيها بنجم ولا شهاب، كما قال تعالى:﴿ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ*سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾[القدر، 4-5]
والحكمة من إخفائها وعدم تعيينها للمنافسة والمسابقة والاستكثار من الطاعة واللجأ في الدعاء والضراعة، كما أخفى الله تعالى أشياء كثيرة مثل الولي في عباده حتى لا نحتقر أحدا، وأخفى ساعة الإجابة في الجمعة لنعمر اليوم بالدعاء، وأخفى الرضا في الطاعات حتى نأتيها كلها، وأخفى السخط في المعصية حتى لا نتجرأ على كبيرها أو صغيرها، وربّ كلمة لا يلقي لها العبد بالا تهوي به في جهنم سبعين خريفا.
إلا أنه من رحمة الله أنه قرّب الموعد في العشر الأواخر، في الأوتار منه، كما في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رجالا من أصحاب النبي ﷺ، أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال رسول الله ﷺ: «أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر» [البخاري، 2015]
وفي أثر آخر أن النبي ﷺ أُعلم بها فخرج يخبر بها، فتلاحى رجلان في المسجد وارتفعت أصواتهما فرُفعت، مما يدل على خطورة الاجتراء على المساجد، والذي هو من أشراط الساعة، وإذا كان الأمر كذالك، فكيف الحال بالمتشاحنين والمتخاصمين، وقاطعي الأرحام، وسافكي الدماء.
وقد ذكر الحافظ في الفتح أربعين قولا فيها، ولكن الراجح أنها في العشر الأواخر من رمضان كما حديث عائشة قالت: كان رسول الله ﷺ يجاوز في العشر الأواخر من رمضان، ويقول: التمسوا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان”[البخاري، 2017 ]، وذهب بعضهم إلى أنها ليلة الثالث والعشرين لما ورد في حديث الجهني الوارد في سنن أبي داوود [ 1380]، وذهب كثير من السلف وأهل الكوفة إلى أنها ليلة السابع والعشرين، فعن زر بن حبيش عن أبي بن كعب، قال: قال أبي في ليلة القدر: «والله إني لأعلمها، وأكثر علمي هي الليلة التي أمرنا رسول الله ﷺ بقيامها هي ليلة سبع وعشرين» [مسلم، 762]، والراجح أنها تدور بين الليالي في السنوات المختلفة، وتلك حكمة الإخفاء.
كما ورد في السنة ما يعطي بعض الإيماء إلى بلوغها وإدراكها لمن فتح الله عليه، ووفقه لقيامها، ومن ذلك أن شمسها تطلع نقية ضعيفة الشعاع، ففي حديث أبي : «أخبرنا رسول الله ﷺ أنها تطلع يومئذ، لا شعاع لها [مسلم، 762] ،وفي حديث ابن عباس:”ليلة القدر ليلةٌ طَلْقة، لا حارَّة ولا باردة، تصبح الشمس يومها حمراءَ ضعيفة[ابن خزيمة، 2192] وربما مرجع ذلك لغلبة أنوار الملائكة عليها.
ووردت بعض الآثار عن بعض السلف بذكر علامات غير مقطوع بها، وربما هو من التوفيق بمعرفتها، وقد ذكروا بأنه يُستحب لمن عرفها بكتمان ذلك إذ الكرامة لا تذاع، وفضل الله عظيم، والأولياء لا ينقطعون.
قال ابن تيمية :” وقد يكشفها الله لبعض الناس في المنام أو اليقظة. فيرى أنوارها أو يرى من يقول له هذه ليلة القدر وقد يفتح على قلبه من المشاهدة ما يتبين به الأمر “[مجموع الفتاوى، 25/286]
وقال النووي: “فإنها تُرى وقد حقّقها من شاء الله تعالى من بني آدم كل سنة في رمضان، كما تظاهرت عليه هذه الأحاديث، وأخبار الصالحين بها، ورؤيتهم لها أكثر من أن تحصر به”[شرح مسلم 8/66].
والمستحب في هذه الليالي كثرة القيام والتهجد، إذ الوقت ضيق محصور، والثواب عظيم، ومن المعلوم أن قيام الليل مستحب، واجب في حق النبي ﷺ، وهو سنة الصالحين وأقله حضور الصلاتين، أو القيام قدر ما تحلب شاة، والقيام في رمضان والاستغفار بالأسحار مما ندب إليه الشرع، ويتأكد الأمر إذا علم المؤمن بهذا الثواب الذي لا يتكرر، وهو أجر ألف شهر، وما كان عطاء الله محظورا على أمة محمد الخاتمة، فهو كنز عظيم لا ينبغي لمؤمن التفريط فيه، كما كان أجر الصلاة بخمسين، والحسنة بعشر أمثالها، والصدقة بسبعمائة، والصبر لا أجر معدود له ولا محدود.
ولذلك كان بعض السلف يفرح بهذه الليلة، ويغتسل لها، وفي الأثر أن تميم الداري كانت حلة بألف درهم يطويها كل سنة، وكذاك ثابت البناني وحميد يغتسلان فرحا واستعدادا كما نقل بن الجوزي في الصفة.
والناس مع هذه الليلة أصناف، فمنهم السابقون المفردون الذاكرون المزدادون من الخير في رمضان، المتنافسون في البدل والجود والصدقات، ومنهم المقتصدون المقتصرون على الفرائض والقيام المعروف، وأخسرهم صفقة الغافلون المشتغلون بالوسائط والتافه من البرامج والأفلام والسهرات التي تخلب بعضهم بإعلاناتها وحصرييها وفوانيسها وفوازيرها ومسابقاتها الفانية، والأظلم منهم المعرضون المكذبون المحرمون عياذا بالله.
والمتواصى به من الدعاء ما علمه النبي ﷺ لأمنا عائشة، قالت: قلتُ: يا رسول الله، أرأيت إن عَلِمت أيُّ ليلةٍ القدر، ما أقول فيها؟ قال:”قولي: اللهم إنَّك عفوٌّ تحبُّ العفو، فاعف عنِّي” [الترمذي،3513 ].