تعتبر ليلة القدر من أعظم الليالي في الإسلام، فقد اختارها الله تعالى لنزول كتابه العزيز، وهو القرآن الكريم، وجعلها ليلة ذات فضل عظيم. في هذا المقال سنتناول تفسير قوله تعالى عن هذه الليلة المباركة، وأسباب نزول القرآن فيها، وغاياته من ذلك.
آية الليلة المباركة وفضلها
قال تعالى : ﴿حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [الدخان: 1-6]
تفسير الآيات
قوله تعالى: (وَالْكِتابِ الْمُبِينِ)، فقد أقسم الله سبحانه بالقرآن العظيم الذي هو الكتاب الموضّح لكلّ ما يحتاجه الإنسان من أمور الدّين والدّنيا، على أنه أنزل القرآن في ليلة كثيرة الخيرات التي هي ليلة القدر وذلك في قوله: (إِنَّا أَنزَلْتَهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ).
وهذه الليلة هي ليلة القدر كما جاء مبينا في آية أخرى: {إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر 1/ 97]، من ليالي شهر رمضان الذي نزل فيه القرآن، كما قال تعالى:
{شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ} [البقرة 185/ 2]، أي أنه بدئ بإنزاله في ليلة القدر من ليالي رمضان، واستمرّ نزوله منجّما ثلاثا وعشرين سنة، أو أنزل القرآن كلّه في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى سماء الدّنيا.
(إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ) أي إنّا كنّا بهذا القرآن منذرين الناس من العذاب الأليم في الآخرة إذا اقترفوا الشّرك والمعاصي، ومعلّمين النّاس ما ينفعهم ويضرّهم شرعا لتقوم حجّة الله على عباده. [التفسير المنير الزحيلي.].
قال ابن عاشور: والليلة التي ابتدئ نزول القرآن فيها هي ليلة القدر قال تعالى: إنا أنزلناه في ليلة القدر [القدر: 1] . والأصح أنها في العشر الأواخر من رمضان وأنها في ليلة الوتر. وثبت أن الله جعل لنظيرتها من كل سنة فضلا عظيما لكثرة ثواب العبادة فيها في كل رمضان كرامة لذكرى نزول القرآن وابتداء رسالة أفضل الرسل ﷺ إلى الناس كافة.
سبب بدء نزول القرآن في ليلة القدر
ثم بين المولى سبحانه سبب بدء نزول القرآن في ليلة القدر لما قال تعالى:
{فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} أي في ليلة القدر يفصّل ويبيّن الأمر المحكم، فيكتب فيها ما يكون في السّنة من الآجال والأرزاق، من خير وشرّ، وحياة وموت، وغير ذلك، أو ما يكون من أمور محكمة لا تبديل فيها ولا تغيير، بتشريع الأحكام الصالحة لهداية البشر في الدنيا، والسعادة في الآخرة.
فالحكيم: معناه ذو الحكمة. وإنما أنزل القرآن في هذه الليلة خصوصا، لأن إنزال القرآن أشرف الأمور الحكمية، وهذه الليلة يفرق فيها كل أمر ذي حكمة.
غاية إنزال القرآن في ليلة القدر
والغاية من إنزال القرآن ما قال سبحانه:
{أَمْراً مِنْ عِنْدِنا، إِنّا كُنّا مُرْسِلِينَ، رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}
أنزل الله القرآن من لدنه متضمنا وحيه وشرعه، وقد فعلنا ذلك الإنذار، وأرسلنا الرسول وجميع الأنبياء إلى الناس لتلاوة آيات الله البيّنات، رحمة ورأفة منا بهم، لبيان ما ينفعهم وما يضرّهم، ولئلا يكون للناس حجّة بعد إرسال الرّسل، فرسالة الرّسل هي الرّحمة المهداة الدّائمة إلى البشر، وتتمثل الآن بالثّابت القطعي النّزول منها، وهو القرآن ورسالة النّبي ﷺ. قال أبو حيان في تفسير {إِنّا كُنّا مُرْسِلِينَ}.
ولما ذكر إنزال القرآن ذكر المرسل، أي مرسلين الأنبياء بالكتب للعباد، فالجملة المؤكّدة مستأنفة، وقيل: يجوز أن يكون بدلا من: {إِنّا كُنّا مُنْذِرِينَ}.
وإنما فعل الله ذلك، لأنه السّميع لأقوال البشر، العليم بأحوالهم وبما يصلحهم، فأرسل الرّحمة إليهم رعاية لحاجتهم.
فضائل عظيمة دلّت عليها الآيات
فقد عظّم الله تعالى القرآن في هذه الآيات بأمور هي:
1 – أقسم به، والله لا يقسم إلا بشيء عظيم، ولله أن يقسم بما يشاء على ما يشاء في أي وقت يشاء.
2 – أقسم به على أنه أنزل في ليلة مباركة هي ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر. قال قتادة وابن زيد: أنزل الله القرآن كله في ليلة القدر من أم الكتاب إلى بيت العزّة في سماء الدنيا، ثم أنزله الله على نبيّه ﷺ في الليالي والأيام في ثلاث وعشرين سنة.
وذكر الطبري عن قتادة أنه قال: نزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، والتوراة لستّ ليال منه، والزّبور لاثنتي عشرة مضت، والإنجيل لثمان عشرة منه، والفرقان لأربع وعشرين مضت.
3 – وصف الله القرآن بكونه كتابا مبينا.
4 – وصف الله ليلة إنزال القرآن بأنه يفرق فيها كل أمر حكيم، قال ابن عباس وغيره: يحكم الله أمر الدنيا إلى قابل في ليلة القدر ما كان من حياة أو موت أو رزق. وقال ابن عمر: إلا الشّقاء والسّعادة، فإنهما لا يتغيّران.
5 – الغاية من القرآن إنذار البشر وتخويفهم العذاب ليصلح حالهم في الدنيا.
6 – إن إنزال القرآن كان بأمر الله ومن عنده.
7 – كان إنزاله رحمة من الله بعباده.
8 – كان إنزاله محققا لمصالح الناس وحاجاتهم، لأن الله هو السّميع العليم.