يدور الحديث كلما اقتربت ليلة النصف من شعبان حول مشروعية إحيائها وتسرد الأحاديث التي جاءت فيها وتنقل أحكام العلماء عليها، ولسنا بصدد أن نتتناول هذه القضية، وإنما بصدد كونها منحة ربانية لأصحاب القلوب السليمة الخالية من الكراهية والحريصة على تصفية النزاعات الدنيوية والقادرة على الصفح ولا يقدر عليه إلا ذو حظ عظيم من الإيمان.
يبحث الناس عن المغفرة والرحمة في رمضان وأبوابهما مفتوحة ولهما مواسم، منها ليلة النصف من شعبان قَالَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ : إِنَّ اللَّهَ لَيَطَّلِعُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ، إِلاَّ لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ” . وقَالَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَطْلُعُ اللهُ عَلَى عِبَادِهِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَيُمْهِلُ الْكَافِرِينَ، وَيَدَعُ أَهْلَ الْحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ حَتَّى يَدَعُوهُ» فالمحروم من نيل المغفرة ليلة النصف من شعبان المشرك والمشاحن والحقود، فأصحاب القلوب العكرة بالشحناء والبغضاء والحقد محرومون من الخير لا تنفعهم أعمالهم الصالح.
ولأن الدنيا دار فتن وتنافس أحيانا يكون التنافس شريفا وكثيرا ما يتجرد من الأخلاق والقيم، يحدث الخلاف بين الناس وقد يتطور ليصبح خصومة ينتج عنها عداوة تراق فيها الدماء أو تحصل القطيعة ويحرم الخصوم من حقوقهم، لذا كانت التوجيهات النبوية التي تقطع الطريق على أسباب النزاع، قَالَ النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ، وَلاَ تَحَسَّسُوا، وَلاَ تَجَسَّسُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا»، ولكن الرغبة في الدنيا قائمة وتطلع الإنسان لا حدود له وحرصه على أن ينال ما في أيدي الآخرين بالحق أو بالباطل موجود.
واختلاف الأنظار والقدرة على التقدير والأهواء التي تهلك الإنسان كل هذه دوافع ترسخ من الخصومة والغضب وتدعو إلى القطيعة، ولا يترك النبي ﷺ المتخاصمين لهذه الشرور تهلكهما بل يشجع على إعادة ما انقطع من الود ووصف من يقوم بهذه المحاولة بأنه خير الخصمين.
قَالَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ، يَلْتَقِيَانِ: فَيَصُدُّ هَذَا وَيَصُدُّ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ “.
وفي كل نزاع هناك ظالم ومظلوم ومجتمع، والإسلام حريص على أن يحد من آثار الظلم فيتوجه إلى الظالم بقوله تعالى {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ } [إبراهيم: 42]، فإمهال الله تعالى لك أيها الظالم لا يعني أن ستنجو بأفعالك، بل هي مسجلة معلومة، وستحاسب عليها، لذا بادر بإصلاح أخطائك، قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ»، قدم الاعتذار المناسب والترضية التي تريح القلب وتستل الحقد وأعد الحقوق إلى أصحابها، فإن هذا بإمكانك الآن فإذا فاتت هذه الفرصة فستكون الترضية بالحسنات والسيئات.
ويرغّب الله تعالى في العفو والصفح {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [التغابن: 14].
يسعى الظالم لإصلاح خطأه ويقابله المظلوم بالعفو، ويكمل المجتمع ما يعجز عنه الأفراد، فيتدخل في الخصومات لكي يصل إلى نقطة اتفاق، تصان معها الطاقات التي تهدر في سبيل الانتقام والكيد للخصوم، ويدعو النبي ﷺ المجتمع أن يقوم بدوره في الإصلاح لينال أعلى الدرجات عند الله تعالى
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالصَّدَقَةِ؟ ” قَالُوا: بَلَى قَالَ: ” إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ قَالَ: وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ “
الخصومات قنابل موقوتة تنفجر في المتخاصمين، ويتناثر ضررها لينال المجتمع وأسوء ما فيها، أنها تتوارث بين الأجيال، لذا كان لزاما على من كتب الله تعالى لهم القبول بين الناس، ومن يقدر الناس آراءهم ويرضون بحكمهم، أن يبذلوا وقتهم وجهدهم في سبيل الإصلاح بين الناس، وهذا العمل مع مشقته إلا أنه له أجرا عند الله تعالى وأثرا عند الناس.
تفسد الخصومات دين البعض وتضعهم في أسوء مكان حيث تدفعهم إلى التربص بالخصم وتتبع عوراته واختلاق الكذب عليه؛ لكي تتشوه صورته ومن ثم يتقبل الناس ما يلاقيه بعد ذلك من ظلم وعدوان، وهذا من أعظم الجرائم عند الله، قَالَ النَّبّي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ أَرْبَى الرِّبَا الِاسْتِطَالَةَ فِي عِرْضِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ». وإذا كان الربا دركات فمن أسوأ مستوياته الاستطالة في عرض امرئ مسلم باحتقاره والتكبر عليه وقذفه وسبه.
ومن الآثار السيئة للخصومات أنها تجعل أسوء الخصمين من شرار الناس، قَالَ ﷺ: ” أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشِرَارِكُمْ؟ الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ، الْمُفْسِدُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ، الْبَاغُونَ لِلْبُرَآءِ الْعَنَتَ”.
الأحقاد تطارد الإيمان داخل القلب ولابد أن يطرد أحدهما الآخر قال ﷺ: “وَلَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ الْإِيمَانُ وَالْحَسَدُ”.
الأحقاد تضيع الحسنات وتجعلها هباء منثورا، قال النبي ﷺ:” إياكُم والحَسَدَ، فإنَّ الحَسَدَ يأكُلُ الحَسَناتِ كما تأكُلُ النَارُ الحَطَبَ – أو قال: العُشب”.
وهناك فارق بين الحسد واستنكار غياب العدالة في التوزيع، ولا ينبغي أن نخلط بينهما، فالأول مرض قلبي يفسد الدين والدنيا، والثاني نوع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والله تعالى عليم بما في القلوب هل تقوم باستنكار غياب العدالة كنوع من النصيحة لله ورسوله وللمؤمنين، أم أن ذلك حقد يلبس ثياب الواعظ لكي يتقبله الناس.
بعد أن رأينا الآثار السيئة للأحقاد على الدين والدنيا لابد أن نقارن بينها وبين الآثار الحسنة لسلامة الصدر وأولها: أن أصحاب الصدور السليمة هم خير الناس يُسأل النبي ﷺ: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ، صَدُوقِ اللِّسَانِ» ، قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ، نَعْرِفُهُ، فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ: «هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ، لَا إِثْمَ فِيهِ، وَلَا بَغْيَ، وَلَا غِلَّ، وَلَا حَسَدَ».
وتحقق العبادات الغاية منها عند هذا الصنف الشريف من البشر، فتنظف ما يمكن أن يقع في صدره من كراهية لشخص بسبب الدنيا، وكما تتطهر الأبدان بماء الوضوء تتطهر القلوب بالصلاة وتتصافى مما علق بها من كدر وهكذا كل العبادات تعمل كمنظفات للقلوب.
وأصحاب القلوب الطاهرة مبشرون من النبي ﷺ بالجنة فقد قال النبي ﷺ لأصحابه يطلع عليكم رجل من أهل الجنة فلما فتشوا عن حاله هل يصوم النهار ويقوم الليل ويتصدق بكل ما يملك وجدوه كما قال:” لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا، وَلَا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللهُ إِيَّاه.
إذا تنافس الناس على الدنيا وأزهقوا الأرواح في سبيل الحصول عليها فإن النبي ﷺ يبين المجال الحقيقي للتنافس فيقول: ” لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ، وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالًا، فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ، وَآنَاءَ النَّهَارِ “
ويقول: ” لاَ حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الحَقِّ، وَآخَرُ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً، فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا “
وإذا كان أهل الحقد يتمنون وقوع المصائب بالناس إن عجزوا عن إلحاق الأذى بهم فإن المؤمنين يتمنون نزول الخير بالناس إن عجزوا عن إيصاله لهم ويفرحون إذا أصاب عبد من عباد الله تعالى رزق في مال أو ولد أو غير ذلك من أنواع الرزق
إن مسألة الأحقاد ليست من المسائل التي يتركها الإنسان حتى تفسد عليه حياته وتحرمه من ثواب أعماله وتفوت عليه فرصة المغفرة في ليلة النصف من شعبان، بل ينبغي أن تعالج بتعهد القلب باستمرار وبالنظر إلى ما عند الله تعالى من خير، وبأخذ خطوة للصلح، وبتجاوز المراحل المؤلمة في عمرنا حتى لا تلاحقنا الآلام والمتاعب في الدنيا والآخرة.