نظمت كلية الدراسات الإسلامية بجامعة حمد بن خليفة مؤتمر “دور البصمة الوراثية في المجتمعات المعاصرة 2024″، يومي 2 و3 أكتوبر 2024 في مركز ذو المنارتين بالمدينة التعليمية تحت شعار “دراسة نفي أو إثبات النسب من وجهات نظر فقهية ومجتمعية وقانونية”، والذي ناقش قضية إثبات ونفي نسب الأبناء من وجهات نظر فقهية ومجتمعية وقانونية. وقد عالج المؤتمر قضايا رئيسية متعلقة بتنظيم التحقق من نسب المواليد الجدد وحماية حقوق الأطفال. واستعرضت الجلسات التسع مقارنات متعمقة لصلاحية واستخدام البصمة الوراثية في النظم القانونية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، كما سلطت الضوء على أفضل الممارسات بالمنطقة في هذا التخصص.

استقطب هذا المؤتمر لفيفًا من العلماء والباحثين في ميادين مختلفة، وفي مقدمتهم ضيف الشرف سعادة الشيخ الدكتور ثقيل بن ساير الشمري، نائب رئيس المجلس الأعلى للقضاء، والقاضي بمحكمة التمييز بدولة قطر، والذي ألقى الكلمة الرئيسية في المؤتمر، مؤكدًا فيها على أهمية جمع المعارف المتخصصة وإجراء مناقشات مستفيضة وثاقبة في هذا المجال.

التعليق على المؤتمر

وتعليقًا على المؤتمر، قال الدكتور رجب شانتورك، عميد كلية الدراسات الإسلامية في جامعة حمد بن خليفة: ركز في كلمته على مفهوم “التجديد المؤصل” في الفقه الإسلامي، مشيرًا إلى أن التعامل مع التقنيات الجديدة مثل البصمة الوراثية يجب أن يكون وفقًا لهذا المنهج:
“التجديد المؤصل هو الذي يربط بين التجديد والمرجعية الفقهية الإسلامية، حتى لا يؤدي التجديد إلى الابتداع والانحراف عن الأصول الشرعية.”

وأشار الدكتور رجب إلى أن استخدام البصمة الوراثية لإثبات النسب يجب أن يتم ضمن إطار فقهي متوازن، مؤكدًا أن هناك بعض التحديات التي تواجه الفقهاء في تقديم حلول شرعية متوافقة مع القضايا العلمية الحديثة، حيث قال:
“التجديد بدون تأصيل يؤدي إلى تحريف والبدعة، بينما الجمود على الفقه القديم يعيق التعامل مع المستجدات.”

الجلسة الافتتاحية للمؤتمر

تناول الدكتور ثقيل بن ساير الشمري، نائب رئيس محكمة التمييز في قطر، جوانب فقهية أخرى متعلقة بالبصمة الوراثية، مشددًا على أن الشريعة الإسلامية لا ترفض أي دليل علمي موثوق يمكن أن يسهم في إثبات الحقائق وتحقيق العدالة. وأكد أن البصمة الوراثية تمثل الآن أحد الأدلة القاطعة التي يمكن استخدامها في إثبات النسب، لكن يجب أن تكون وفقًا لضوابط شرعية صارمة:
“البصمة الوراثية أصبحت اليوم من الأدلة التي يقال عنها إنها قطعية الثبوت في مجالها، ولهذا يمكن للشريعة أن تأخذ بها في إطار إثبات النسب مع مراعاة الشروط والضوابط الشرعية.”

وتناول الدكتور الشمري مسألة مهمة تتعلق بإثبات النسب في حالات الاغتصاب والتغرير بالقاصرات، مشيرًا إلى ضرورة إعادة النظر في بعض الأحكام الفقهية القديمة التي لا تعترف بنسب الطفل الناتج عن هذه الحالات. وقال في هذا السياق:
“في حالات الاغتصاب أو التغرير بالقاصرات، البصمة الوراثية تثبت الأبوة البيولوجية، والشريعة الإسلامية تتشوف لإثبات النسب لضمان حقوق الطفل.”

من النقاط المهمة التي أثيرت في هذا المحور أيضًا كانت مسألة إلحاق الطفل بالزاني، حيث تم طرح تساؤلات حول ما إذا كان يمكن استخدام البصمة الوراثية لإثبات نسب الطفل إلى الأب البيولوجي في حالات الزنا. أشار بعض المشاركين إلى أن هناك فقهاء يرون إمكانية إلحاق الطفل بالزاني إذا أقر الأب بذلك واعترف بالطفل، وهو ما يمكن أن يشكل اجتهادًا فقهيًا جديدًا.

اللجوء للبصمة الوراثية في عقد زواج صحيح

تناول القاضي علي الأنصاري في مداخلته المتعلقة بالمحور الفقهي بعنوان: “دور البصمة الوراثية في نفي النسب وإثباته في المجتمعات المعاصرة” مسألة أن يلجأ الشخص للبصمة الوراثية في حال وجود عقد زواج صحيح، حيث اعتبر البصمة الوراثية قرينة قوية قائمة بنفسها، وقيست على القيافة وهي في رأي الأنصاري من باب قياس الأولى، وبناء عليه إذا كانت القيافة قد قبلت من العلماء في الزمن السابق فمن باب أولى أن تقبل البصمة الوراثية لأنها آكد وأدق.

اختار القاضي الأنصاري في إجابته على لجوء الشخص إلى البصمة الوراثية في حال وجود زواج شرعي صحيح، الجمع بين النص الصريح “الولد للفراش” الدال على وجود زواج شرعي، والبصمة الوراثية، حيث لا يظهر له وجه تعارض بين الأمرين، ويرى ما يلي:

  • إذا جاء الولد من فراش صحيح ولو في أقل مدة الحمل فإنه لا يجوز نفي نسبه لمجرد البصمة الوراثية لأن النظرة هنا ليست نظره بيولوجية بحتة ولكنها ترجع للنص الشرعي المحكم الذي قاله النبي وهو ما أقرته المجامع الفقهية حيث جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة التعاون الإسلامي في دورته العشرين عام (2012)، ونصه: “لا يجوز الاعتماد على البصمة الوراثية في نفي النسب ولا تقدم على اللعان.”
  • أما إذا جاء الولد من طريق النكاح الفاسد وهو النكاح الذي اختل فيه أحد أركانه أو أحد الشروط المجمع عليها فالرأي أن الولد يثبت له نسبه على نحو النكاح الصحيح.
  • وإذا جاء الولد عن طريق وطء الشبهة وهو الوطء غلطًا لمن يعتقد حلها له، ولا يوجب الحد، نحو من جامع زوجته البائن في العدة ظانًا أن هذا من حقه، وهذا لا يلجأ للبصمة الوراثية لإثبات نسب الولد إلا في حال دخل بها الثاني – الواطئ بشبهة – في طهر مسها فيه زوجها الأول وولدت لستة أشهر فأكثر، حيث لا يمكن البت في هذا الواقع إلا بمرجح خارجي.

حكم التحقق من أنساب المواليد بفحص البصمة الوراثية

تناول الدكتور أيمن صالح هذا الموضوع من خلال ورقته حكم التحقق من نسب المواليد بالطريقة الطبيعية للإنجاب، وقد نبه إلى وجود بعض الأصوات التي دعت إلى استخدام البصمة الوراثية للتحقق من نسب المواليد فور الولادة، ومنهم طالبة دكتوراه عائشة المرزوقي في رسالتها “إثبات النسب في ضوء المعطيات العلمية المعاصرة”. وقد تبنى هذا الاقتراح الشيخ هلالي في كتابه “البصمة الوراثية والعلائق الشرعية”، حيث نقل عنها بعض الأفكار دون الإشارة إليها.

ومع ذلك، جاء قرار مجمع الفقه الإسلامي في مكة عام 2002 ليؤكد أنه لا يجوز استخدام البصمة الوراثية للتحقق من صحة الأنساب الثابتة شرعًا، ووجوب منع الجهات المختصة من ذلك لكونه يصطدم بحماية أعراض الناس.

واختار الدكتور أيمن في قضية المواليد بالتلقيح الصناعي ورأى أن نسب التلقيح الصناعي وإثباته يختلف عن الولادة الطبيعية، لأنه يعتمد على تدخل طبيب، وقد تحدث أخطاء أو تلاعب في هذه العملية. لذلك، يرى البعض أن وضع تشريع يلزم المستشفيات بالتحقق من نسب المواليد في حالات التلقيح الصناعي هو أمر ضروري لضمان عدم حدوث أخطاء.

وباختصار، لا يجوز وضع تنظيم عام للتحقق تلقائيًا من أنساب المواليد الجدد المستقرة، لأن ذلك يصطدم بمبدأ منع التجسس والتحسس، كما أنه يؤدي إلى مفاسد كبيرة تفوق المصالح المحتملة. لكن يمكن النظر في تنظيم فحص البصمة الوراثية في حالات التلقيح الصناعي للحفاظ على دقة الأنساب وضمان عدم حدوث أخطاء أو تلاعب من قبل الأطباء.

الأساس القانوني للبصمة الوراثية في الأردن وقطر

اختار الدكتور وليد سليمان العلايا والدكتور عبد الله الحميدات في مداخلتهما مراجعة الأساس القانوني للبصمة الوراثية في الأردن وقطر، وذلك لأسباب متعددة. في قطر، نلاحظ تطورًا تشريعيًا هامًا، حيث أقر المشرع القطري قانونًا خاصًا بالبصمة الوراثية كما أشار نائب رئيس محكمة التمييز، وهو قانون رقم 5 لسنة 2013، وهذا يعد خطوة متقدمة تسجل للمشرع القطري. على عكس ذلك، يعتمد المشرع الأردني حتى الآن على المبادئ العامة في الإثبات في المسائل الجزائية، حيث يرتكز على مبدأ حرية الإثبات.

إن القانون الأردني يعتمد على القواعد العامة للإثبات، حيث يتمتع القاضي بحرية اختيار الأدلة التي تكوّن قناعته الوجدانية، طالما أن هذه الأدلة تم استخلاصها بصورة قانونية ومنطقية. بالمقابل، المشرع القطري قدم لنا تشريعًا خاصًا بالبصمة الوراثية مما ساعد في وضع قواعد واضحة للتعامل مع هذا النوع من الأدلة.

الضوابط القانونية لاستخدام البصمة الوراثية

يرى الباحثان العلايا والحميدات ضرورة مراعاة ضابطين أساسيين لاستخدام البصمة الوراثية كدليل قانوني:

  1. الموثوقية: يجب أن يتم تحليل البصمة في مختبرات معتمدة، وأن تكون النتائج موثوقة.
  2. قانونية الحصول على الدليل: يجب أن يتم الحصول على الدليل وفقًا للقانون، مع مراعاة حقوق المتهم وخصوصيته.

ويريان من خلال هذه الورقة أن حجية البصمة الوراثية نسبية وليست مطلقة، فهي تُعتبر قرينة قوية لكنها ليست دليلاً قاطعًا في جميع الحالات. فعلى سبيل المثال، يمكن أن توجد بصمة وراثية لشخص في مسرح الجريمة دون أن يكون هو الجاني، كما حدث في إحدى القضايا الأردنية.

هل نتيجة الفحص قابلة للشك أم لا؟

تناولت الأستاذة فرح الأسدي قضية إثبات النسب عبر فحص الحمض النووي وذلك من منظور علمي تخصصي وركزت على بيان حقيقة الحمض النووي ووظيفته، والوسائل السابقة لاعتماد فحص الحمض النووي لإثبات النسب، وكيفية فحص الحمض النووي ودقته في إثبات النسب، والعوامل التي قد تؤثر على جودة العينة وبالتالي دقة الفحص، انتهاء إلى معالجة مشكلة الدراسة “هل نتيجة الفحص قابلة للشك أم لا؟”.

رجحت الباحثة فرح خلال هذه الدراسة أن العوامل التي قد تؤثر على دقة فحص الحمض النووي قد تشمل ما يلي:

  • تلوث العينة.
  • وجود ترسبات كيميائية أثناء عملية الاستخراج.
  • تلف العينة أثناء التخزين.

وخلصت إلى أن نتيجة فحص الحمض النووي دقيقة للغاية، لكن هناك حالات استثنائية قد تؤدي إلى نتائج غير صحيحة أو سلبية خاطئة (false negatives). من هذه الحالات:

  • الخطأ المخبري غير المتعمد.
  • ظاهرة الخيمرية (Chimera)، حيث يحمل الشخص حمضين نوويين مختلفين بسبب امتصاص خلايا جنين آخر في رحم الأم.
  • زراعة الأعضاء أو نقل الدم قد تؤثر مؤقتًا على نتائج الفحص.
إحدى جلسات حوار مؤتمر البصمة الوراثية

أهمية البصمة الوراثية في حالات الشك

في مداخلة الدكتور صالح الزنكي بعنوان: “البصمة الوراثية في قضايا النسب: إثباتًا ونفيًا”، أبرز أهمية البصمة الوراثية في حالات الشكوك ويرى أنه عند وجود شكوك قوية، يصبح من الممكن اللجوء إلى البصمة الوراثية كوسيلة علمية موثوقة للتحقق من النسب. كما أن الشريعة تسعى لإثبات النسب لكنها في حالات الشك قد تقرر نفيه إذا ثبت ذلك بالبصمة الوراثية.

وأكد الزنكي بأن البصمة الوراثية أثبتت دقتها العلمية في قضايا النسب، وإنكارها يعادل إنكار حقيقة علمية ثابتة، وهو ما يتعارض مع الشرع الذي يعترف بالحقائق العلمية والكونية.

وحدد المبادئ المعمول بها في حالات النزاع على النسب، أنه نحتكم إلى مبدأ الولد للفراش، لكن إذا ظهرت شكوك قوية تبرر إجراء الفحص، يمكن اللجوء إلى البصمة الوراثية. الشريعة تتشوف لإثبات النسب، ولكنها أيضًا تُجيز نفيه في حالة ثبوت الشك.

القانون المدني التركي وقرابة النسب

تناول الأستاذ الدكتور مصطفى داداش القانون المدني التركي من خلال ورقته: “الأعمال العلمية في إثبات النسب ونفيه بالبصمة الوراثية في تركيا وتحليلاتها”، وحدد قرابة النسب بناءً على القانون المدني التركي يثبت بأحد الطرق:

  • النكاح: دليل الفراش.
  • الاعتراف والإقرار: والذي يُقبل في الشريعة الإسلامية أيضًا.
  • حكم القاضي: ويعتمد أحيانًا على نتائج تحليل البصمة الوراثية.
  • التبني: وهو واضح بمخالفته للشريعة الإسلامية.

نفي النسب بالبصمة الوراثية في تركيا

أثبت الدكتور داداش أن القانون التركي لا يعترف بنظام اللعان، وهو جزء من الشريعة الإسلامية، ولذلك قد لا يعرفه الكثير من الأتراك. إذا أنكر الزوج نسب الطفل، يمكن للمحكمة أن تطلب إجراء تحليل البصمة الوراثية، وإذا ثبتت صحة الادعاء، يتم نفي النسب.

ويمنح القانون التركي الزوج الحق في نفي نسب الطفل إذا كانت الزوجة قد لجأت إلى التلقيح الصناعي بدون علمه أو موافقته. ويحدد القانون فترة زمنية يمكن فيها للزوج نفي النسب بعد ولادة الطفل. إذا تجاوز الزوج هذه الفترة الزمنية، فإنه يفقد حقه في نفي النسب. وينطبق نفس الأمر على الطفل الذي يكتشف أن والده ليس والده البيولوجي.

الأصل أن نهتم بالضحية أكثر من الجاني

في مداخلة الدكتور القانوني المغربي المختار أعمرة بعنوان “البصمة الوراثية في حماية حقوق الطفل”، لاحظ أن أكثر المشاركين بورقات في المؤتمر تحدثوا عن دور البصمة الوراثية في حماية الأنساب من الجانب الشرعي، وأشارت معظم المداخلات بشكل خجول إلى المصلحة الفضلى للطفل، وهو موضوع بالغ الأهمية. لذلك تحفظ من الأمر حيث نادى إلى الأصل المتفق عليه وهو أن يهتم بالضحية أكثر مما يهتم بالجاني، لأن الجاني كان من المفترض أن نهتم به قبل أن يصبح جانياً.

ويرى أن البصمة الوراثية تقدم علمي وتكنولوجي توصل إليه الغرب من الناحية الطبية، ويجب توجيهها في حفظ وصيانة حقوق الطفل، لأن مصير الأنساب وحقوق الطفل يجب ألا يعتمد على قناعة شخص واحد، فالبشر ليسوا معصومين من الخطأ. قد يتأثر الشخص ببيئته وقد لا يكون مقتنعًا بناءً على خلفيته الاجتماعية.

وفيما يتعلق بالتشريع المغربي، فقد صدق المغرب على الاتفاقية الدولية لحماية حقوق الطفل، مما يعني أن الاتفاقية أعلى مرتبة في التشريعات المغربية. لكن المادة 153 من مدونة الأسرة تتعارض مع هذه الاتفاقية، حيث تعتبر الولد للفراش، وهذا يتطلب مراجعة.

وبناء على ذلك يوصي الدكتور أعمرة اعتماد البصمة الوراثية كوسيلة قطعية لنفي النسب، وتوفير معامل ومختبرات حديثة لضمان جودة النتائج، وإجراء بصمة وراثية من خلال مختبرات متعددة للحصول على نتائج موثوقة، وأن مسألة إثبات النسب ليست مجرد مسألة قانونية، بل هي مسألة إنسانية تتطلب النظر بعين الاعتبار إلى حقوق الطفل والإنسانية.

توافق القوانين القطرية مع فحص الحمض النووي

ثم تناولت الأستاذة فاطمة الحاج بورقة عنوانها: “اختبار الحمض النووي والأبوة في القضاء القطري” تحليل كيفية توافق القوانين القطرية، لا سيما قانون الأسرة وقانون الأحوال الشخصية، مع استخدام فحص الحمض النووي (DNA) في قضايا إثبات النسب. وأكدت أن قانون الأسرة رقم 22 لسنة 2006، وكذلك القانون رقم 39 لسنة 2013 الذي ينظم استخدام الحمض النووي في التحقيقات الجنائية، يلعبان دورًا حاسمًا في تحديد كيفية استخدام هذه الأدلة العلمية.

وعلى الرغم من أهمية الحمض النووي كأداة علمية، إلا أن المحاكم القطرية قد تختلف في قبول أو رفض هذا النوع من الأدلة بناءً على ظروف كل قضية. على سبيل المثال، في حالات إثبات النسب، قبلت المحاكم القطرية فحص الحمض النووي، خصوصًا في قضايا إثبات الأبوة كما حدث في قضايا عام 2010 وعام 2021. أما في حالات نفي النسب، فإن المحاكم تميل إلى الاعتماد على الأدلة الشرعية أولاً، مما يعكس حرص الشريعة الإسلامية على حماية حقوق الطفل.

وأثبتت فاطمة في نهاية مداخلتها أن النظام القضائي القطري يوازن بين الأدلة العلمية والشرعية في قضايا إثبات النسب، مع تأكيده على أهمية مصلحة الطفل. بينما يمكن قبول اختبارات الحمض النووي كأداة إثبات قوية في بعض الحالات، إلا أن الشريعة الإسلامية والقانون القطري يحافظان على الدور الرئيسي للأدلة الشرعية في حماية حقوق النسب. هذا التوازن يعكس ديناميكية النظام القانوني في قطر، الذي يظل متجذرًا في الفقه الإسلامي، رغم التقدم العلمي.

الخبرة الجينية في ضوء مقاصد الشريعة

في ورقة مشتركة بين الأستاذة الدكتورة السعدية مجيدي، والدكتور الحسن لحمامي بعنوان: “إشكالية تفعيل البصمة الوراثية في إثبات ونفي النسب دراسة مقارنة” تناول الباحثان عدة أمور منها بدءًا مقاصد الشريعة الإسلامية في التعامل مع الخبرة الجينية إلى تأثير القيم الأخلاقية والاجتماعية على استخدام هذه التقنية، وذلك من جوانب قانونية، اجتماعية، وسياسية، محاولًا تسليط الضوء على التحديات التي تواجه تطبيق الخبرة الجينية في المجتمعات المحافظة، وكيفية التوفيق بين الأطر القانونية الدولية والمحلية.

وقد خلصت الدراسة إلى عدة نتائج منها:

  1. الخبرة الجينية ومقاصد الشريعة الإسلامية: تهدف الشريعة الإسلامية إلى تحقيق المصلحة العامة وحماية حقوق الأفراد، بما في ذلك الحفاظ على النسل والهوية. تُعتبر الخبرة الجينية وسيلة حديثة يمكن أن تسهم في تحقيق هذه المقاصد، ولكنها تأتي مع تحديات أخلاقية يجب مراعاتها.
  2. السياق الدولي والالتزامات القانونية: يجب على الدول الالتزام بالمعاهدات والاتفاقيات الدولية المتعلقة بحماية حقوق الأفراد، وخاصة حقوق المرأة والطفل. هذه الالتزامات تُلزم الدول بالتعامل مع الخبرة الجينية في إطار يضمن حماية الحقوق والخصوصية.
  3. السياق الوطني والبعد الهوياتي: في السياق الوطني، تُعد الخبرة الجينية جزءًا من الإطار القانوني الوطني. فعلى سبيل المثال، المشرع المغربي وضع الخبرة الجينية كوسيلة إثبات في قضايا النسب ضمن مدونة الأسرة، وذلك وفقًا لما ورد في المادتين 153 و158، حيث أتاح للقاضي الاعتماد على هذه الخبرة كوسيلة إثبات، لكن مع مراعاة الضوابط الشرعية.
  4. الملاءمة الأخلاقية والقانونية: التحدي الرئيسي يكمن في تحقيق التوازن بين متطلبات العصر الحديث والتطورات التكنولوجية وبين القيم الأخلاقية والدينية التي تُشكل أساس النظام القانوني في المجتمعات الإسلامية.

إثبات النسب بالبصمة الوراثية من المنظور الاجتماعي

أما الدكتور عبد الكريم القلالي فقد تناولت ورقته موضوع جدل إثبات النسب بالبصمة الوراثية في المملكة المغربية، حيث عالج الموضوع من ثلاث زوايا: فقهية، قانونية، واجتماعية. وأكد على أن إثبات النسب بالبصمة الوراثية من المنظور الاجتماعي يطرح العديد من التحديات الاجتماعية، حيث يرتبط النسب بالهوية والانتماء العائلي. وأن النسب في المجتمعات الإسلامية، له أهمية كبيرة من الناحية الأخلاقية والدينية، وبالتالي فإن أي تغيير في وسائل إثباته قد يؤدي إلى تأثيرات كبيرة على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع.

من هذا المنطلق، يرى الدكتور القلالي أنه لا يمكن النظر إلى إثبات النسب بالبصمة الوراثية كمسألة تخص فردًا واحدًا فقط، بل هي مسألة تمتد لتشمل حقوقًا متعددة يجب أن تُراعى بعناية. وأن النقاش حول إثبات النسب بالبصمة الوراثية هو نقاش متجدد يستدعي المزيد من الاجتهادات الجماعية؛ لأن الموضوع ليس مسألة فقهية بحتة، بل يحتاج إلى مراعاة التطورات القانونية والاجتماعية أيضًا. وعلينا أن نتذكر أن الهدف في النهاية هو تحقيق العدالة وحماية حقوق الأفراد والمجتمع ككل.

التوصيات

شارك في المؤتمر أساتذة وخبراء من عدة دول ومؤسسات علمية، حيث قدموا أكثر من 30 بحثًا علميًا حول هذا الموضوع. تطرق المشاركون إلى الأسئلة المتعلقة بإثبات النسب عن طريق البصمة الوراثية، وخلصوا إلى مجموعة من التوصيات نلخصها فيما يلي:

  1. البصمة الوراثية كأداة علمية: تعد البصمة الوراثية من أهم الاكتشافات العلمية الحديثة التي يمكن استخدامها في مجالات متعددة، منها نفي النسب. وتُعد وسيلة فعالة في إثبات أو نفي النسب.
  2. الشريعة والبصمة الوراثية: توسعت الشريعة الإسلامية في وسائل إثبات النسب، وحرصت على حماية كرامة الإنسان والأسرة والمجتمع. لذا، يمكن تبني البصمة الوراثية كطريقة إضافية لإثبات النسب بعد استنفاد الطرق التقليدية والشرعية. أقر الفقهاء المعاصرون بإمكانية استخدام البصمة الوراثية، لكن بشروط وضوابط شرعية واجتماعية صارمة يجب الالتزام بها.
  3. استخدامات إضافية للبصمة الوراثية: يمكن الاستفادة من البصمة الوراثية لأغراض أخرى مثل التعرف على المواطنين أو ضحايا الكوارث والحروب، بالإضافة إلى الاستخدامات الجنائية وتقديم العون الطبي عند الضرورة. لكن يشترط عدم إفشاء المعلومات أو استخدامها بشكل غير أخلاقي.
  4. البصمة الوراثية والمسؤولية الجنائية: يمكن الاعتماد على البصمة الوراثية لإثبات المسؤولية الجنائية في حالات الاغتصاب. أما فيما يتعلق بإلحاق الولد الناتج عن الزنا، فقد رفض معظم الفقهاء هذا الأمر، إلا أن هناك آراء تؤيد إلزام الرجل المسؤول بدفع النفقة المالية.
  5. توصيات: أوصى المجتمعون بضرورة التنسيق العلمي بين الفقهاء وعلماء القانون لتقديم حلول فقهية متعلقة بمسألة النسب وتوحيد الجهود على مستوى الدولة الواحدة لحل النزاعات.