انعقدت فعاليات مؤتمر السيرة النبوية للعام الحالي يومي 25 و26 من شهر سبتمبر 2024م، والذي أشرف على تنظيمه مركز محمد بن حمد آل ثاني لإسهامات المسلمين في الحضارة، بكلية الدراسات الإسلامية في جامعة حمد بن خليفة، تحت شعار “أهمية دلائل النبوة في العصر الحديث”.
استقطب هذا المؤتمر لفيفًا من العلماء وطلبة العلم من جميع أنحاء العالم للمشاركة في نقاشات حول دلائل نبوة رسولنا الكريم محمد (ﷺ) كركيزة رئيسية في الدراسات الإسلامية المعاصرة. وقد ناقش المؤتمر الأبعاد التاريخية والمعاصرة لعلم دلائل النبوة، واستكشف التداخل بين الفكر العلمي الحديث وعلم الدلائل، وكيفية تطبيق الدلائل النبوية لتعزيز أساليب الحياة الإسلامية الحديثة، إلى جانب العديد من القضايا الأخرى ذات الصلة. كما سلط المؤتمر الضوء على كيفية تطبيق تعاليم السيرة النبوية في التصدي ومعالجة التحديات المعاصرة التي تواجه المجتمعات المسلمة في دولة قطر وعلى مستوى العالم.
الجلسة الافتتاحية لمؤتمر السيرة النبوية 2024: تقديم دور النبوة في العصر الحديث
قدمت الدكتورة عائشة يوسف المناعي، مديرة مركز محمد بن حمد آل ثاني لإسهامات المسلمين في الحضارة ورئيسة المؤتمر، كلمة افتتاحية ترحب فيها بالحضور الكرام، مؤكدةً على أهمية هذا الحدث من حيث موضوعه الذي يستحضر فضل النبي الكريم على البشرية، وحياة الإنسان، وتوجيهه على مسار الحق والخير والسعادة. وأشارت إلى ضرورة هداية الإنسان، الذي جُبِلَ على السعي وراء مصالحه وأهوائه، ولذلك أرسل الله الرسل لينيروا للبشرية الطريق القويم.
وأضافت أن كمال عدل الله والفطرة السليمة يقتضيان إرسال الأنبياء لتصحيح ما في قلب الإنسان وعقله نحو مقاصد الله الخالق، فالنبوة تؤكد أن ما يريده الأنبياء يتفق مع مقاصد الله من خلقه، موضحة أن دلائل النبوة كثيرة وقد تناولها العديد من العلماء السابقين.
تعليق الدكتور رجب شانتورك على أهمية دلائل النبوة في العصر الحديث
وتعليقًا على أهمية هذه النسخة من المؤتمر، قال الدكتور رجب شانتورك، عميد كلية الدراسات الإسلامية: “إن شعار مؤتمر هذا العام ‘دلائل النبوة’ يسعى لاستكشاف جوهر الإيمان ذاته، والتأكيد على أهمية الهداية الإلهية في عصر يتسم بشكل متزايد بالشك وكثرة التحديات المعرفية والأيديولوجية”. وأضاف: “من خلال تنظيم فعاليات رئيسية مثل هذا المؤتمر، تؤكد كلية الدراسات الإسلامية التزامها بإتاحة منصة فريدة من نوعها تساهم في النقاش الفكري والحوار البناء حول الإسلام وفق منظور عالمي معاصر”.
وتابع الدكتور شانتورك بأن المؤتمر يعمل على إثبات ضرورة النبوة بالأدلة العقلية التي تناسب الهجمة على الشريعة الإسلامية وأفكار الإلحاد وإنكار الربوبية والأديان، مشددًا على أن النبوة من أهم مقومات استمرار الحياة لإرشاد الناس وهدايتهم وتوجيه إرادة الإنسان بقوانين إلهية لا تخضع للمصالح والأهواء، وتعرفه الحسن والقبح بعيدًا عن الأهواء، ناهيك عن معرفة عالم الغيب وما بعد الموت، وهي أمور لا تُدرَك إلا بعلم يُبلَّغ عن الخالق سبحانه وتعالى، مشيرًا إلى المعجزات الحسية والعقلية التي وصلتنا من مصادر معتبرة، ومعجزات مستمرة حتى وقتنا الحالي، كالقرآن الكريم وانشقاق القمر وغيرهما.
ونبَّه الدكتور شانتورك إلى أن ما يحدث في العالم الإسلامي هو غزو واضح من خلال الحروب والصراعات والاعتداءات الوحشية، وهناك غزو غير مرئي بالهجوم على الشريعة الإسلامية وغزو أفكار الشباب وصغار السن والتشويش على عقيدتهم وإيمانهم. وأشار إلى أن كلية الدراسات الإسلامية تعمل على مشروعين في هذا الإطار:
- مشروع “الإيمان أمانة”: يهدف إلى تعزيز إيمان الشباب وحفظه ومواجهة الإلحاد وزعزعة العقيدة من خلال التربية الإسلامية الصحيحة ونقل فكر الشباب من التقليد إلى التحقيق.
- مشروع “السيرة الرقمية”: يهدف إلى تحبيب النشء في الرسول وسيرته كونه البشير بكل خير والنذير من كل سوء.
العالم اليوم يحتاج إلى نظام أخلاقي جديد مستوحى من دلائل النبوة
أوضح الدكتور محيي الدين القراه داغي، في بداية مداخلته لهذا المؤتمر تحت عنوان “دلائل النبوة ودورها في ترسيخ مفهوم النبوة”، أن جميع المبادئ الأخلاقية والقانونية والحقوقية في العالم اليوم أصبحت مهملة لأن معظم هذه المبادئ في النظريات الغربية مبنية على المصلحة؛ حيث تُطبَّق هذه المبادئ فقط عندما تتوافق مع مصلحة الغرب، بينما يتم إهمالها في غياب هذه المصالح. ولهذا، أكد الدكتور القراه داغي أن العالم اليوم يحتاج إلى نظام عالمي جديد يؤسس على مبادئ ثابتة، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا بالرجوع إلى المبادئ الإلهية، لأنها تلبّي حاجات الناس بشكل دائم. ونقرأ ذلك بشكل واضح في سيرة النبي (ﷺ)، ومن أمثلة ذلك:
- قصة طعمة بن أبيرق، وهو رجل من الأنصار، سرق درعًا لعمه كان وديعة عنده، ثم خبأها في جراب دقيق. تتبع الناس آثار الدقيق حتى وصلوا إلى منزل اليهودي، وأخذوا الدرع، وأشار زيد إلى أن طعمة هو من دفعها إليه. رغم ذلك، أنكر طعمة. وكان النبي (ﷺ) قد همّ أن يجادل عنه، إلا أن الله أنزل قوله: {إِنَّآ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِتَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَىٰكَ ٱللَّهُۚ وَلَا تَكُن لِّلۡخَآئِنِينَ خَصِيمٗا} [النساء: 105].
ومن المبادئ الحربية التي وضعها النبي (ﷺ) أنه عندما رأى امرأة مقتولة في بعض غزواته، أنكر قتل النساء والصبيان، وشدد على ذلك.
الغاية من خلق الإنسان ودور دلائل النبوة في الإصلاح المجتمعي
أشار الدكتور محيي الدين القراه داغي إلى أن خلق الإنسان في الأرض كان لتحقيق مصلحة العبادة الحقة لله تعالى وتحقيق السعادة للبشرية في الدارين. ولا يتحقق ذلك إلا من خلال التدين الصالح لله تعالى ليصنع الرجل الصالح، ويتطلب وصف أنماط الصلاح. الكفة الأخرى لفقه ميزان الاستخلاف تتعلق بتحقيق إعمار الأرض ظاهرًا وباطنًا واستخراج ما فيها من الخيرات بالعلم والخبرات والاجتهادات.
ثم بيّن الدكتور القراه داغي مقاصد الاستفادة من دلائل النبوة، وهي:
- تحقيق الأمن المجتمعي لكل مطلع على دلائل النبوة.
- تحقيق الاقتداء بشخصية النبي (ﷺ) وأخلاقه، مما يعزز من تقوى المجتمع وقيمه الأخلاقية.
إضاءات على نبوة الرسول (ﷺ)
أكد الدكتور رأفت محمد الميقاتي في مداخلته على ضرورة الإيمان بنبوة الرسول (ﷺ) وجميع دلائله التي تزيد على ألف ومئتي دلالة، وهذا العدد يفوق أي نبي قبله. وأوضح أن الشك في نبوته (ﷺ) أو إنكارها يعني إنكار جميع الأنبياء الذين جاؤوا من قبله، لأن كل واحد منهم بشر بنبوته في الصحف.
دلائل النبوة ليست شرطًا لصحة النبوة: مناقشة نقدية للفكر المعاصر
أما الدكتور عزيز بطيوي فقد ركز في مداخلته على مناقشة اعتراضات فريق من المفكرين المعاصرين على دلائل النبوة، سواء كانوا من داخل المرجعية الإسلامية ممن ينتمون إلى الإسلام ولكن تأثروا بمناهج معرفية وضعية معاصرة، أو من غير المسلمين الذين يثبتون النبوة ولكنهم ينكرون دلائلها. قام ببيان الأسس المنهجية والمعرفية لتفنيد هذه الاعتراضات، وتضمن ذلك:
- بلوغ العقل البشري الرشد يتنافى مع الدلائل الحسية، حيث يرى البعض أن ما يناسب العقل البشري هو الدلائل العقلية مثل القرآن الكريم. ورد الدكتور بطيوي على ذلك بأن القرآن نفسه أثبت بعض الدلائل الحسية كتأكيد لمعجزات مثل الإسراء وانشقاق القمر ونزول الملائكة في بعض الغزوات.
- توسُّع دلائل النبوة مع مرور الزمن: ادعى بعض المشككين أن الدلائل كانت قليلة في بداية كتابة السيرة، ثم زادت وتوسعت لاحقًا. وأكد الدكتور بطيوي أن هؤلاء يتجاهلون مناهج المحدثين في نقد وتحقيق الدلائل، وهو ما يضمن صحتها ومصداقيتها.
- مخالفة الدلائل لقوانين الطبيعة: يعتبر البعض أن الدلائل تخالف سنن الله في الاجتماع وقوانين الطبيعة، وهذا يعتبره الدكتور بطيوي اعتراضًا غير مبرر، لأن قبول نبوة النبي (ﷺ) يستلزم قبول دلائله ومعجزاته.
وختم بطيوي مداخلته بقوله إنه يؤمن أن أعظم دلالة على نبوة محمد (ﷺ) هي إقامته لعمران بشري عالمي خلال ثلاث وعشرين سنة فقط، وهو ما لم يستطع أي شخص آخر تحقيقه.
استدلال الماوردي بسيرة النبي (ﷺ) على دلائل نبوته
في مداخلة الدكتور إبراهيم محمد زين، أشار إلى منهج الماوردي في كتابه “أعلام النبوة”، حيث أخرج دلائل النبوة من مجال النبوات والعقائد الإيمانية إلى مجال السيرة والتاريخ، وربطها بحالات السياسة، خصوصًا في عصره العباسي الذي كان مهددًا من قبل البويهيين.
عني الماوردي في هذا الكتاب بسيرة النبي (ﷺ) واعتبرها دليلاً على ثبوت النبوة وصدق النبي (ﷺ). وهذا ما غفل عنه الكثير من المتخصصين في هذا المجال، حيث اعتمد على فترة من الزمن قبل ولادة النبي واعتبر بعض الإرهاصات دليلاً على صدق النبوة، رغم أن بعض هذه الأمور لا تصمد أمام النقد الحديثي. من بين تلك الأمور، احتج الماوردي بحادثة معد بن عدنان وما جرى بشأنه مع بختنصر، حيث ذُكر أن نبيًا من بني إسرائيل – أرمياء – أخبر بختنصر أن من أصلاب معد بن عدنان سيخرج نبي آخر الزمان، فكان ذلك سببًا في العفو عن معد.
كما استدل الماوردي بطهارة نسب النبي (ﷺ) على نبوته، ويرى الدكتور زين أن الماوردي اتخذ نهجًا في كتابة السيرة لم يكن مألوفًا لدى علماء السيرة في عصره. وأكد الدكتور الزين أن الماوردي جعل من كتابه “أعلام النبوة” مخيالًا سياسيًا وعقائديًا، حيث اعتبره مقدمة لكتابه الآخر “الأحكام السلطانية”، مما أثبت توثيق العلاقة بين نظام الخلافة السياسية وخلافة النبوة، موضحًا أن الخلافة هي إنابة عن صاحب الشريعة، ولذا كان من الواجب على الخليفة أن يتصف بفضائل صاحب الرسالة ويتحلى بخصاله.
وفي ختام مداخلته، يرى الدكتور إبراهيم محمد زين أن هذه الأطروحة تقتضي منا تعميق النظر في مجال كتابة السيرة النبوية واستخلاص المعاني الدينية العميقة التي تربط السيرة بمجال دلائل النبوة. ولما كانت صلة دلائل النبوة وثيقة بمجال العقائد الإيمانية، فإنها تبرهن على جواز الانتقال من السيرة إلى العقيدة، ثم إلى مجال السياسة، التي هي إنابة عن صاحب الشريعة في إصلاح الدين والدنيا وحفظ بيضة المسلمين.
الاستفادة من أدب دلائل النبوة في العصر الحديث
أبرز الدكتور الشريف حاتم العوني في مداخلته خلال هذا المؤتمر إشكالين يتعلقان بالكتابة عن موضوع دلائل النبوة، وهما:
- كيفية إثبات دلائل النبوة بطريقة عقلانية: أشار إلى أن العلماء تحدثوا في علوم البلاغة عن الفارق بين الكلام المعجز وغير المعجز على أنه “الذائقة”، وهو أمر يصعب من خلاله إدراك إعجاز القرآن، وبالتالي يحتاج إلى تجاوز هذا التحدي والاستفادة من بلاغة القرآن الكريم في إثبات دلائل النبوة.
- كيفية عرض دلائل النبوة في العصر الحديث بمنهج دقيق لا يقبل التشكيك: وكيف يمكن استغلال كل وسائل التأثير المتاحة، بما في ذلك وسائل التواصل الاجتماعي، لتقديم هذه الدلائل بشكل يضمن الوصول والتأثير في الشباب والجماهير؟
وأشار الدكتور العوني إلى أن السبب وراء إثارة هذه الأسئلة والإشكاليات هو أن مناهج التعليم الرسمية والشباب المعاصر لا يعرفون حقيقة دلائل النبوة وأهميتها، ما يستدعي ضرورة إعادة التفكير في كيفية تقديم هذا التراث الإسلامي بشكل يجعله مفهوماً وقابلاً للاستيعاب. وقد قدم الدكتور العوني مشروعًا كاملاً للتعامل مع هذه الأمور، بهدف تعزيز الفهم السليم لدلائل النبوة وأثرها على حياة المسلمين اليوم.
خاتمة: أهمية تحديث أساليب تقديم دلائل النبوة في العصر الحديث
يخلص مؤتمر السيرة النبوية 2024 إلى أن هناك حاجة ملحة إلى:
- تقديم السيرة النبوية ودلائل النبوة بطريقة عصرية تتماشى مع تحديات العصر الحديث.
- استخدام وسائل التواصل الاجتماعي كمنصة رئيسية لنشر وتعزيز الوعي بأهمية النبوة، خاصة بين الشباب.
- إعادة النظر في كتابة السيرة النبوية بمنهج حديث يربط بين دلائل النبوة والعقائد والسياسة، ويبرز دور النبوة كمشترك إنساني في تاريخ الديانات البشرية.
يجب أن يكون التركيز على جعل دلائل النبوة ملموسة ومفهومة لعامة الناس، باستخدام لغة العصر وأدواته، لتقديم تعاليم النبي (ﷺ) بطريقة تثبت مكانته كرسول للعالمين، وتساهم في حل المشكلات المعاصرة التي تواجه المجتمعات الإسلامية اليوم.