في زمنٍ تتسارع فيه التحديات، وتتشابك فيه الهويات، ويبحث فيه الشباب عن بوصلةٍ لا تهتزّ — يطلّ مؤتمر “قيادة” كنافذةٍ مشرعةٍ على روحٍ عربيةٍ إسلاميةٍ أصيلة، لا تُعاد صياغتها من فراغ، بل تُستلهم من عمق التاريخ، وتُصاغ بلغة العصر. ليس مجرد لقاءٍ أو ندوة، بل هو نداءٌ حيٌّ موجهٌ إلى جيلٍ يحمل على كتفيه أحلامَ أمة: أن تقود، لا أن تُقاد؛ أن تُبدع، لا أن تُقلّد؛ أن تُعطي، لا أن تأخذ.
منصة جديدة لتمكين الشباب المسلم
في قلب الدوحة، وبين جنبات “ملتقى” في المدينة التعليمية، اجتمع أكثر من ألف شاب وشابة، ليس لسماع خطاباتٍ جاهزة، بل لخوض حوارٍ صادقٍ مع الذات ومع العالم، مستندين إلى ركائزَ خمس: روحٌ مطمئنة، نفسٌ متوازنة، عقلٌ مُستنير، جسدٌ قوي، ومجتمعٌ متفاعل.
لم تُقدَّم القيادة كمنصبٍ أو سلطة، بل كمسؤوليةٍ إنسانيةٍ وأخلاقية، مستمدةٍ من نموذجٍ نبويٍّ خالد: “كونوا كالنحل… لا يتناولون إلا خيرًا، ولا يعطون إلا خيرًا”.
هذا المؤتمر، في نسخته الأولى، ليس حدثًا عابرًا، بل بذرةٌ وُضعت في تربةٍ خصبة، تنتظر أن تُثمر جيلاً من القادة الذين لا يفصلون بين الإيمان والعمل، ولا بين الأصالة والحداثة، ولا بين الانتماء والانفتاح. جيلٌ يبني مجتمعاته لا بالشعارات، بل بالقيم. جيلٌ يقود بالرحمة، لا بالهيمنة.
مشاركة 1000 طالب وطالبة
النسخة الأولى من مؤتمر “قيادة”: تطلعات وتنمية الشباب المسلم في قطر”، نظّمه قطاع التعليم العالي في مؤسسة قطر، برعاية مصرف قطر الدولي الإسلامي، على مدار يومين في مقر “ملتقى” بمركز طلاب المدينة التعليمية. وقد شهد المؤتمر مشاركة أكثر من ألف طالب وطالبة من مختلف المدارس والجامعات القطرية، في حدثٍ يُعدّ منصةً نوعيةً لتمكين الشباب المسلم وتزويدهم بالأدوات الفكرية والثقافية اللازمة لتعزيز هويتهم الإسلامية وقيادة التغيير الإيجابي.

وكانت صاحبة السمو الشيخة موزا بنت ناصر، رئيس مجلس إدارة مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع، قد أكدت بشأن هذا المؤتمر في تغريدة على منصة “إكس”: “انطلاقاً من إيماننا بأهمية إحياء هوية إسلامية أصيلة والحفاظ عليها، أطلقت مؤسسة قطر مؤتمر “قيادة” لمناقشة تطلعات وآليات تنمية الشباب المسلم في قطر، من خلال هذا المؤتمر بوصفه منصة جديدة تزوّدهم بأدوات المعرفة والثقة لتعزيز هويتهم الإسلامية.”
الشباب في قلب الحوار: جلسات تفاعلية ورؤية مستقبلية
توافد الطلاب والطالبات إلى المؤتمر، وشاركوا في جلسات تفاعلية ونقاشية تناولت السبل الكفيلة بمعالجة التحديات المعاصرة التي تواجه الشباب المسلم، سواء على الصعيد الشخصي أو المجتمعي أو العالمي. كما استمعوا إلى كلمات ومحاضرات نخبة من العلماء والمفكرين والمؤثرين، الذين ركزوا على أهمية ترسيخ الهوية الإسلامية وربطها بالإيمان العميق والمعرفة الواعية.
وقد تميّز المؤتمر بتنوع محاوره، التي تراوحت بين القيادة الأخلاقية، والهوية الثقافية، والتوازن الروحي والفكري، مما جعله مساحة حوارية مفتوحة للشباب لطرح أسئلتهم واستشراف آفاق مستقبلهم.
نموذج “الحياة الطيبة”: ركائز القيادة الإسلامية
في الجلسة الافتتاحية لليوم الثاني، قدّمت سعادة الشيخة الدكتورة حصة بنت حمد بن خليفة آل ثاني، رئيس ومؤسس مركز الحياة الطيبة للتنمية المهنية والتدريب، وأستاذ مساعد بجامعة قطر، نموذجاً متكاملاً للقيادة من منظور “الحياة الطيبة“، يقوم على خمس ركائز أساسية تشكل شخصية القائد المسلم:
- الروحية: التزكية والتربية القلبية.
- النفسية: التوازن النفسي والصحة العقلية.
- الفكرية: التسلح بالمعرفة والوعي النقدي.
- البدنية: العناية بالجسد كأمانة.
- الاجتماعية: المسؤولية المجتمعية والتواصل الإنساني.

وشددت سعادتها على أن القيادة الحقيقية ليست هيمنة أو سيطرة، بل إطلاق لقدرات الآخرين وتعزيزها بالإنسانية والرحمة والرؤية الواضحة. كما دعت الشباب إلى الاقتداء بالنموذج النبوي في القيادة، وقالت: “كونوا كالنحل لا يتناولون إلا خيراً ولا يعطون إلا خيراً”، مؤكدةً على ضرورة اقتران العلم بالعمل، وعدم الفصل بينهما.
أصوات الفكر: رؤى متنوعة لنهضة الأمة
مطلق الجاسر: النهضة بكلمة الله العليا
من جانبه، دعا الدكتور مطلق الجاسر، واعظ وباحث في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة الكويت، إلى إعادة ترتيب أولويات الأمة، مشيراً إلى أن النهضة لا تتحقق إلا بـ “كلمة الله العليا”، وأن الحرية الحقيقية تكمن في عبادة الله تعالى، لا في الانقياد للمادة أو الهوى.
سالم الأحبابي: الدين، اللغة، التاريخ
أما الشيخ سالم الأحبابي، مدير مركز ابن الزبير العلمي، فقد شدد على ضرورة عودة الشباب إلى ثلاث ركائز أساسية تشكل الهوية الإسلامية:
- الدين: كمرجعية أخلاقية وسلوكية.
- اللغة: كوعاء للهوية والفكر.
- التاريخ: كمصدر للعبر والتجارب.
وأكد أن تعزيز هذه الركائز لا يتطلب جهوداً معقدة أو سنوات طويلة، بل وعياً والتزاماً فردياً وجماعياً، باعتبارها مسؤولية الجميع، وليست حكراً على العلماء أو النخب.
عمر سليمان: التميز أسلوب حياة
كما أوضح الدكتور عمر سليمان، مؤسس ورئيس معهد يقين للبحوث الإسلامية، أن التميز أسلوب حياة، يتطلب التوازن والانضباط في مختلف جوانب الحياة، وقال:
“الأعمال الصالحة تقود إلى أخرى مثلها، فيما الأعمال السيئة تجر إلى غيرها.”
مبادرة “بالعربي” ضمن الفعاليات
ضمن فعاليات المؤتمر، نظمت مبادرة “بالعربي”، التابعة لمؤسسة قطر، جلستين حواريتين ركزتا على إحياء الهوية الإسلامية وتزويد الشباب بالمهارات القيادية المستوحاة من السيرة النبوية.
كانت الجلسة الأولى بعنوان “إحياء الهوية في مجتمعات متعددة الثقافات”، تناولت محاور عدة منها: إحياء هوية إسلامية راسخة تُسهم في بناء المجتمعات الحديثة والمتعدّدة الثقافات.
وقد شارك في الجلسة الحوارية الأولى التي أدارتها الإعلامية بثينة عبدالجليل، كلا من: الدكتور عبد الرحمن الحرمي (خبير تربوي وإعلامي).المهندس فداء الدين يحيى (إعلامي وصانع محتوى). الأستاذ مثنّى عامر الشنفري (مفكر وإعلامي عماني).

أما الجلسة الثانية التي أدارتها نادية درويش، فكانت بعنوان “تجسيد القيادة النبوية”، ودجارت محاورها حول تزويد الشباب المسلم بالمهارات والمعرفة والعلاقات والثقة التي تمكّنهم من تجسيد قيم القيادة النبوية. وشارك فيها الدكتور أبو بكر موسى عبدالله (مؤسس مركز أجيال التربوي)، والأستاذ حسين حبيب السيد (مستشار ومدرّب قيادي)، وسوزان زغموت (مستشار في مكتب وزيرة التربية والتعليم).
هشام نورين: تعزيز التواصل الفكري والثقافي
وفي تصريح له على هامش المؤتمر، أكد السيد هشام نورين، المدير التنفيذي للمبادرات والبرامج الاستراتيجية بمؤسسة قطر، أن تنظيم مؤتمر “قيادة” بالتعاون مع مبادرة “بالعربي” يأتي في إطار حرص المؤسسة على:
- تمكين الشباب المسلم.
- منحه مساحة للتعبير عن التحديات التي يواجهها.
- تزويده بالأدوات الفكرية والمعرفية للتأثير الإيجابي محلياً وعالمياً.
وأضاف نورين: “يأتي هذا المؤتمر امتداداً لدور مؤسسة قطر الرائد في رعاية المبادرات والمنصات التي ترتقي بأفكار مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وتعزز حضورها محلياً ودولياً، وتوفر فضاءات لتبادل المعرفة والرؤى بما يعزز التواصل الفكري والثقافي.”
وأشار إلى أن هذه المشاركة تمثل بداية لسلسلة من الفعاليات المقبلة لمبادرة “بالعربي” على المستويين المحلي والإقليمي، مما يؤكد التزام المؤسسة ببناء جيل واعٍ، قادر على الجمع بين الأصالة والحداثة، والانتماء الديني والمشاركة العالمية.
نحو قيادة شبابية مستنيرة
يُعدّ مؤتمر “قيادة” خطوةً جادةً نحو بناء جيل من الشباب المسلم المستنير، الذي يمتلك الثقة والمعرفة، ويستند إلى قيم إسلامية راسخة في قيادة التغيير. وهو ليس مجرد حدث عابر، بل بداية لمسار جديد من الحوار والبناء، يجمع بين الأصالة والمعاصرة، وبين الإيمان والعمل، وبين الهوية والانفتاح.
وبذلك، يرسخ المؤتمر مبدأً أساسياً: أن القيادة الحقيقية تنبع من الداخل، وتُبنى على الأخلاق، وتُستمد من القيم، وتُترجم إلى أثر إيجابي في العالم.