قبل الحديث عن علم الأخلاق ، الأخلاق morale طراز سلوك إنساني نوعي لا تخلو منه حياة بشرية في أي مجتمع غابر أو حاضر، بل وقادم كذلك في أرجح احتمال.

والخُلُق هو واقع نفسي متصل بالفعل، وعنه تصدر أفعال حسنة وأخرى سيئة. وهاتان السمتان، سمة الحسن وسمة السوء، تتميزان بجدل موقفين قيميين يعربان عن مفهومين متلازمين ومتقابلين، وهما مفهوما الخير والشر.

الوجود الأخلاقي

البحث في علم الأخلاق بحث إنساني حصراً. وهو يدخل في الاهتمامات الفلسفية الرئيسة، ويُعرف باسم الفلسفة العملية، أو الحكمة. فإذا خُصص لفظ الفلسفة النظرية، أو الفلسفة، بمعنى معرفة الوجود بما هو موجود، كانت الحكمة جزءها العملي أو السلوكي. وهي حصيلة إِعمال الإنسان عقله في ما ينهض به من فعال تلقى مدحاً، فتنتسب إلى الخير، أو ذماً فتُنسب إلى الشر. إن المدح والقدح، أو الاستحسان والاستهجان، هما أمارتا تحبيذ ما ينبغي فعله، ونبذ ما يجب تحاشيه. وهما كاشفا الخير والشر من الناحية الاجتماعية التي يتردد صداها داخل الذات الفردية في ما يسمى الضمير أو الوجدان أو الشعور الأخلاقي، وهو يواكب ضروباً أخرى من الشعور، ويتفاعل معها، مثل الشعور الديني، والشعور الجمالي، والشعور المعرفي.

والإنسان من بين الموجودات كلها ينفرد بأنه الذي يُلتمس له الخلق المحمود، والأفعال المرضية. فإذا اتجه النظر إلى أفعاله التي يشارك فيها سائر الموجودات، كان ذلك من حق علم الطبيعة.

ولكن أفعاله وقواه وقدراته التي يختص بها من حيث هو إنسان، وبها تتم إنسانيته وفضائله، هي الأمور الإرادية التي تتعلق بها قوة التفكير والتمييز، وإن النظر فيها يسمى “ الفلسفة العملية”.

إن الفلسفة هي فلسفة الأمور الإرادية التي تنتسب إلى الإنسان بوصفه فاعلاً متميزاً ومسؤولاً. وهي تمتد من التصور والرغبة إلى النية فالقصد، وإلى التحقق والإنجاز، والأخلاق إضافة إلى الوجود الإنساني أشبه بطبيعة مكتسبة، طبيعة ثانية لا طبيعية، لأنها ترفض، في جلّ الأحوال، معطيات الطبيعة العفوية، أي الغريزية، بما في ذلك أخلاط المزاج أو الطبع أو السجية. فهي تنطلق من هذه المعطيات، وتسعى إلى تكييفها مع المثل الأعلى الأخلاقي، أي الخير، وذلك بتحويرها أو كبتها، أو منعها، أو تصعيدها تسامياً بدوافعها وحوافزها، فتستعيض عن الواقع الراهن بواقع مراد مرموق يتوخى تحقيق ما يطمح البشر إلى تحقيقه لنيل سعادتهم في الحياة. ويؤكد مسكويه أن فعل الإنسان الخاص هو ما يصدر عن قوته المميزة. “ فكل من كان تمييزه أصدق، واختياره أفضل، كان أكمل في إنسانيته”. والحق أن الأخلاق سباق في هذا المضمار، مضمار الفكر والحرية والإرادة.

والأخلاق تحدد للفاعل الأخلاقي، فرداً أو جماعةً، أنماط الحياة الأفضل، وأغراض الوجود الأسمى، وتحضّه على المضي شطر المثل الأعلى المرموق، أي الخير الذي تقره جُمَاعةُ جَماعةٍ، في عصر أو ثقافة تختلف عن عصر آخر، أو ثقافة مباينة. ولذا يصح القول بتفاوت الأخلاق البدائية أو الصينية أو اليونانية أو الرومانية أو العربية. وقد قيل “ لكل شعب أخلاقه التي تحددها شروط حياته”، بل إن الأخلاق لتختلف داخل المجتمع الواحد تبع الأوساط الاجتماعية: الأخلاق الريفية، والأخلاق الشعبية، والأخلاق البرجوازية، أو تختلف باختلاف المهن أحياناً، أو الجنس بين أخلاق الرجال في هذه الجماعة مثلاً وأخلاق النساء.

بيد أن وراء هذا التفاوت والتنوع والاختلاف جامعاً إنسانياً ثابتاً وموصولاً، به يلتقي النوع البشري ويبذّ العجماوات حين لا يكتفي بالحفاظ على كيانه العضوي،ووجوده الحيوي، ولا يرضى بغريزة حفظ البقاء وحسب، بل ينشد البقاء الأفضل، والمصير الذي لا تفرضه الطبيعة عليه. وقد فطن كَنت إلى أن الغريزة لو كانت تكفي البشر هادياً في السلوك لكان من أنواعها “ غريزة أخلاقية” تغنيهم عن مؤونة الجهد العقلي والإرادي، وتجعل سلوكهم واحداً متماثلاً آلياً أشبه بسلوك النباتات والعجماوات، ويتجه السلوك الأخلاقي الصحيح بأسره شطر المستقبل، ويستهدف في جميع الحالات تنفيذاً لاحقاً لتصور راهن، عقلي، إرادي، لدى الأفراد والجماعات. إن السلوك الغريزي سلوك تكرار كسول ومملّ، وليس فيه بوجه التقريب أية فرصة لتخيل مبدع، ولا لحرص على تطلع إلى ما يُعدّ هو الأفضل، والأحسن، والأسعد، والأكمل.

ذلك أن الوجود الأخلاقي نشاط متميز بإحكام ارتباط الوسائل بالغايات، يستوي في ذلك العمل في مجالات الحياة الشخصية الخاصة، أو الحياة الاجتماعية العامة في شتى ميادينها الثقافية والعلمية والاقتصادية والسياسية حتى الأسرية والمجتمعية. وهذا الارتباط “ الغائي” اللازب ينشد اضطلاع الفاعلين الأخلاقيين بما “ يجب أن يكون”، وما “ ينبغي أن يراد وأن يفعل”، وهذا هو سلوك “ التقدير” أو “ التقويم”.

المعرفة الأخلاقية

إن المعرفة الأخلاقية، والبحث الأخلاقي، بل دراسة علم الأخلاق، ضرورة ملحّة توجبها مقتضيات الوقائع الإنسانية، فضلاً عن نفعها الموصول. ذلك أن لا ندحة للإنسان “ العارف” من تعمق تجربة سلوكه الشخصي والاجتماعي، و” فهم” سلوكه وسلوك الآخرين أفراداً وجماعات، ثم “ تفسير” هذا السلوك، في الأنفس والآفاق، حتى تتبين دقائق الخير والشر، ويصار إلى تمييز الفاضل والأفضل، أو السيئ والأسوأ، وتنجلي أحكام الوجوب أو أحكام القيمة، مع العلم أن القيمة على الدوام مطلب ذهني يدعو إلى التحقق والإنجاز.

الخير هو “ ما يجب صنعه”. ومعرفة الخير تبدأ على صعيد الفكر بتمييز فارق أساسي بين الأخلاق المعاشة، وهي جملة الأعمال التي ينهض بها الفاعل تقليداً أو اتباعاً، إن لم يكن رضوخاً وخضوعاً لمشيئة خارجة عن إرادته واختياره، وبين الأخلاق “ الانتقادية” أي الواعية، وهي أخلاق المذاهب ذات المنازع الثلاثة الكبرى وهي “ الديني والعلمي والفلسفي”. وكل منزع يمثل وجهة نظر تحظى بتأييد رواد وأنصار.

المنزع الأول، وهو المنزع الديني، أو الاعتقادي، وقوامه الإيمان بأن الخير والشر يحددان بأوامر المعبود ونواهيه، تستوي فيه في الدعوة إلى التخلق الديانات اللاسماوية والديانات السماوية. ومن شأن الأديان كافة أن تنشد خلاص الإنسان ونجاته، وفوزه الأكبر في الدارين. إن الله خالق الكون والناس. ومشيئتة مصدر ما يجب أن يفعل العباد في سلوكهم الأخلاقي على جميع الصعد، ومنذ عهد التكليف حتى الممات. وإنما بطاعة التعاليم “ المنزلة” يحظى المؤمن الخلوق بسعادة الدارين.

ويشترك المنزعان الثاني والثالث في أنهما “ إنسانيان” ينطلقان من أن الخير والشر مفهومان “ وضعيان” أبدعهما الإنسان في حياته الأرضية ليحظى بمزيد من كمال إنسانيته، ويحقق ما يريد، بل ما يجب، من المثل المقررة العليا.

وهذان المنزعان يعملان، من جهة أخرى، على فحص المشاهد من الأخلاق الراهنة بحثاً عما يسوّغ السلوك الأخلاقي بالاستناد إلى معيار أو مبدأ محدد قابل للتعميم الكلي.

إن المنزع الثاني هو المنزع “ العلمي”، وهو يمعن في استجلاء الأصل اللغوي الذي تشتق منه الكلمات الدالة في الثقافات الغربية على معنى الأخلاق. وقد اتضح أن الأصل اللاتيني لكلمة “ مورال” morale يعني العرف والاستعمال الذائع. وقد آل جهد الباحثين المتمسكين بمعرفة الأخلاق معرفة علمية موضوعية إلى مماثلة دراسات العلوم الرياضية (رنوفيه) أو العلوم الاجتماعية (دوركهايم) أو العلوم الطبيعية (ليفي – برول)، وانتهوا إلى ادعاء إمكان استخلاص ما يجب أن يكون مما هو كائن موجود، ولو كره العالم الرياضي المعروف هنري بوانكاريه، ومثال هذا المنزع ما نجده في محاولة ألبير بايّة إقامة “ علم الحوادث الأخلاقية” و” الفن الأخلاقي العقلي”، وما نجده من محاولات في علمية النظريات الاشتراكية الماركسية وعلمانيتها، أو في مساعي التحليل النفسي للسلوك الأخلاقي (المدرسة الفرويدية) أو المدارس اللاقمعية (مركيوز، رَيْخ).

أما المنزع الثالث، وهو المنزع الفلسفي، فإنه غني بمذاهبه النامية نمو الفكر الإنساني وتنوعه وغناه. وهو يرى أن من الممتنع استخلاص ما يجب مما هو موجود، وأن العقل الإنساني وحده هو مصدر الحقيقة في مجالي النظر والسلوك.

ولهذا المنزع منحيان أساسيان: أولهما المنحى الوجودي (ontologie = أنطولوجية) والآخر المنحى القيمي (axiologie = أكسيولوجية).

إن الفلسفة الأخلاقية “ المدرسية” تندرج كلها في كنف فلسفات الوجود. وكل مذهب أخلاقي من مذاهبها يعتمد مبدأ يفسر بالتسويغ الحقيقة الأخلاقية في نظره. ويعرف هذا الضرب من النظر باسم فلسفة الأخلاق، ويدل عليه بكلمة ethique أو ethics ذات الأصل الإغريقي. ومن أمثلة هذا المنزع أخلاق الحكمة في الفكر اليوناني القديم (سقراط، أفلاطون، أرسطو) وأخلاق اللذة (ارستيب، أبيقور) وأخلاق الفضيلة (الرواقيون)، ثم أخلاق العقل (ديكارت، سبينوزا، ليبنز) والعقل الانتقادي (كَنت) وأخلاق العاطفة (هوبز، شفسبوري، فولتير، روسو، آدم سميث، شوبنهور، رينان)، فأخلاق المنفعة (بنتام، ستورت مل) وأخلاق الجدل (هيغل، ماركس، أنغلز، لينين) وأخلاق الحياة (سبنسر، غويو، نيتشه) وأخلاق التجربة (روه، برغسون) وأخلاق الذرائعية (وليم جمس، ديوي).

أما المنحى الآخر في الفلسفة الأخلاقية فهو المنحى القيمي وقد عرّفه لالاند على أنه “ علم يتناول حكم التقدير من حيث معالجته تمييز الخير والشر في الأفعال الموصوفة بأنها جيدة أو سيئة”. ويتسم هذا المنحى بعزوف مفكرين معاصرين عن اعتماد فلسفة الوجود. وانصرافهم إلى العناية بمسألة العمل والسلوك (براكسيس) واهتمامهم بتحديد القيم المنشودة لدى كل تصرف واعٍ هادف معاً. ومن أشهرهم، بعد نيتشه والذرائعية، الفنومنولوجيون (شلر، هارتمان) والوجوديون الروحانيون (لافيل، لوسين) والوجوديون المؤمنون (غابريل مارسيل ) واللامؤمنون (سارتر،كامو) وغيرهم.

أقسام الأخلاق

المشكلة الأخلاقية، بإيجاز، هي مطلب التحديدات المثالية، والقواعد، والغايات الإنسانية، في مجال العمل الصالح، أو الخير.

وبحثها يستلزم وعياً جلياً بمعايير عامة أو بمبادئ تنهض على أساسها مثل تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، أو إقرار أن حياة الفكر أسمى من حياة الجسد، أو اعتقاد أن الأدوم خير من الزائل. فهذه المشكلة إشكالية قيمية، ومطلبها يتميز بأن قيم الأخلاق تجتذب المرء وتلزمه، من دون أن ترغمه وتجبره. فهي لا تنفي الحرية، وإنما تفترضها، وبهذا المطلب يتطلع النشاط العملي لتحقيق النمط الإنساني الأمثل، وإحقاق المدينة الفاضلة، بل شروط وجودها على الأقل.

ومن المألوف إطلاق اسم الأخلاق العامة على بحث المشكلة الأخلاقية عندما يتوخى استشفاف المبدأ الأساسي العام الذي تصدر عنه الإلزامات أو الواجبات. وهذه الأخلاق العامة نظرية، بمعنى أنها تفسيرية ومنهجية، وأنها تهدف إلى إيضاح انبثاق القواعد والواجبات من منظومة متسقة ذات مبدأ جلي جهد المستطاع. وهي تختلف عن الأخلاق الخاصة أو العملية التي تعرف أحياناً باسم الأخلاق الجزئية أو التطبيقية، ومجالها بالدرجة الأولى تحديد الوسائل التي بها تتحقق الغاية المنشودة فتجلو بذلك الواجبات المشخصة على أنها تطبيقات مبدأ كلي هو مبدأ الواجب الأساسي الملقى على كاهل الفاعل الأخلاقي بوجه عام.

وعندما تهبط هذه الأخلاق الخاصة إلى تطبيقات عملية في مجال سلوك الأفراد تسمى الأخلاق الفردية، وهي نهاية الدرب المنحدر من سماء فكر الأخلاق النظرية أو الكلية الشاملة، إلى واقع الإنجاز المتجسد في دنيا الناس.

المفهومات الرئيسة

حسب أفلاطون في مثاليته أن الخير ذروة ثالوث أقانيم تشغل كلها منزلة الألوهية أو المطلق. وهذا الخير الذروة هو الخير الأسمى الذي يترجمه أرسطو في واقعيته بمطلب السعادة.

وسعادة الناس عنده تتفاوت بتفاوت صنوف عيشهم. فثمة أولاً الطبائع العامية الغليظة، وسعادتهم هي اللذة والاستمتاع المادي. ثم أهل العيشة السياسية أو العمومية، وسعادتهم هي المجد. وأخيراً أولو العيشة التأملية والعقلية، وسعادتهم هي الإسهام في حياة الخلود.

لقد ظلت السعادة مطلباً غائياً في السلوك الأخلاقي في الغرب والشرق، وما تزال مضمرة في كل فاعلية، وإن انحدرت قيمتها بوصفها فضيلة إلى رتبة المطلب الشخصي والأسري ماثلاً في الرفاه وفي التحرر الجنسي وفي “ البيت ذي الألف آلة كهربائية” (كزنوف). أما الرتبة أو الفضيلة الأسمى التي يهدف إليها البشر في هذا العصر (إن لم يكن في المستقبل المنظور)، فهي مطلب الكرامة الإنسانية حتى تتحقق للإنسان إنسانية أكمل فأكمل.

أما السبيل إلى بلوغ هذه الغاية السامية أو الأهداف فإنه، من الناحية العملية، سبيل مفهومات رئيسة مثل الفضيلة، وهي التي تتحقق بحسب قواعد معينة، فتغدو استعداداً ثابتاً لممارسة الخير، والرذيلة عكسها. ثم الواجب وهو اللفظ الأكثر شيوعاً في أحاديث الناس كلما فطنوا إلى النشاط الأخلاقي، والواجب ينطوي جدلياً على إمكان سلوك آخر مرفوض لأنه سيئ، أو خبيث، أو ضار، أو شرير.

وبذا يكون الواجب نقيض أو “ طباق الخطيئة”، أو هو كل حكم وجوب ينطوي على نفي ضمني لعمل مقيت. وليس بخافٍ أن الواجب يفرض اختيار سلوك مرموق يؤلف مضمونه مفهوم الحق. والحق هو ما يكون من الواجب عدم الحيلولة دون فعله، وضرورة إزالة أي عائق قد يعترض سبيل القيام به. ومن التقاء الحق بالواجب التقاءً متبادلاً ينشأ مفهوم العدل وهو الاستقامة وتقويم الشيء بالشيء من جنسه، والإنصاف والنزاهة، التي هي البعد عن السوء، والعفاف أو العفة، وأضدادها الظلم والجور والعتو والعسف والخبث والشره وغيرها.

وبقول وجيز: الفضيلة استعداد ، والواجب فعل، والتخلق إنجاز، وهذا الإنجاز حده الأدنى هو الواجب، والتطلع إلى المثل الأعلى هو النهاية، والنهاية، كالبدء، هي الخير.

النجوع الأخلاقي

ثابت أن تصور الخير لم يبق تصوراً فردياً، ولا أسرياً، ولا مفهوماً محلياً، أو قطرياً، بل هو تصور إنساني كلي شامل. والسؤال الدائم في مجال الأخلاق هو: كيف ، وإلى أي مدى، يمكن، أو يجب، أن يتحقق الخير في الدنيا؟ وما السبيل، على الأقل، إلى الدنو من إنجاز المثل الأعلى؟ وهنا تطرح إشكالية النجوع الأخلاقي:

أترى هل للأخلاق نفوذ به يتحول الواقع الراهن إلى الواقع المبتغى؟ إن الإجابة تتبع فلسفة القيمة الأخلاقية التي تتميز بأنها تمسك بطرفي الوجود والوجوب. فهي تنطلق من المعطيات البيولوجية والطبيعية (كالبيئة الجغرافية والاجتماعية) من جهة ومن المعطيات الثقافية والحضارية من جهة أخرى، وترى أن نجوع تحققها وقف على التنشئة الاجتماعية والسياسية. وذلك يشتمل على الأهداف والوسائل: الأهداف تنال بالفكر الانتقادي للقيم المطروحة قبولاً أو تحويراً أو رفضاً أو استبدالاً. ولم يبق في وسع الأخلاقي أن يعيش في برج عاجي إذ لا بد له من طرح قيم مبتكرة، أو تبديل تسلسل قيم راهنة، إذا شاء أن يكون مذهبه أقرب إلى الأفضل والأكمل.

أما الوسائل فإنها تعتمد التربية الأخلاقية، وقوامها التدرب على تحرير الإنسان من أسر غرائزه وأهوائه الدنيا ورغباته الجامحة، وتحسين الكيان الإنساني فيه وفي الآخرين، وحثه على الخلاص من مساوئ الأثرة، والحقد، والعمل على زيادة التفاهم والتعاون ليلتقي البشر بسلوكهم الأخلاقي المبتكر لقاء قيمهم الفكرية والجمالية والأخلاقية في ذروة التقدم الأصيل، والتكافل اللانهائي.

ومن عوامل النجوع الأخلاقي محاكاة الأبطال والعظماء والمضي من “ تقويم” أنماط السلوك الذائع الفاسد إلى ابتكار الأحسن والأليق في معراج التقدم. وربما ارتدى الجهد الأخلاقي حلة اجتماعية مشتركة وغدا مطلباً عقائدياً نضالياً في مجتمعات معينة. ومن شأن كل عقائدية أن تمنح شعارها دوماً من أهداف تضمر، أو تعلن، قيماً أخلاقية، سافرة أو كامنة، وتعمل على إنقاذها في الحياة الراهنة مؤيدة عملها بأساليب الإعلام والإقناع تارة، أو القسر والإكراه تارات. غير أن النجوع المرموق يظل سطحياً في أية حالة ما لم ينبثق من أعماق الذات، أو ينفذ إليها إيماناً قيمياً خلوقاً، كيما يتجسد، من ثم، في سلوك الأفراد والجماعات.


مراجع للاستزادة :

عادل العوا، المذاهب الأخلاقية، جزءان (مطبعة جامعة دمشق 1958ـ 1959).

عادل العوا، الأخلاق والحضارة (دمشق 1989).

A.LE SENNE, Traité de morale générale (Paris 1947)