لا يعني تجديد الدين اختراع إضافة لدين الله وإنما يعني تطهير الدين الإلهي من الغبار الذي يتراكم عليه، وتقديمه في صورته الأصلية النقية الناصعة.
إن ” الغبار ” الذي يتراكم على الدين الإلهي ظل من نوع واحد على مر العصور، والإضافة البشرية إلى المتن السماوي، وتأتي هذه الإضافة في بداية الأمر بسبب عوامل وقتية، و لكنها بمضي الزمن تصبح شيئًا مقدسًا حتى تعتبر جزءًا من الدين الإلهي ، ويؤمن بها الناس إيمانهم بالوحي السماوي ، ويصل بهم الأمر إلى اتخاذ أحبارهم ورهبانهم {أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}، حسب التعبير القرآني (التوبة: 31)..
وتأتي يهذه الإضافة لسببين اثنين؛ أولهما: محاولة تعيين حقيقة الدين من الناحية الخارجية.. ثانيهما: بيان التعاليم الدينية بالمصطلحات العقلية.
ونجد مثالاً للخطأ الأول في الأبواب الأولى من التوراة (العهد القديم)، وهي الأبواب المليئة بالتفاصيل الجزئية جدًا حول القرابين.. ولا علاقة للشريعة الموسوية الحقيقية بهذه الآداب والطرق التي قد وصفها القرآن “بالإصر والأغلال” (الأعراف:156).
إنها الفقه الذي وضعه علماء اليهود التابعون وضموه إلى الكتاب المقدس.. وهكذا ، فإن “البدعة” التي راجت في المسيحية باسم ” الرهبانبة”، هي التصوف المسيحي الذي لم يأمر به المسيح عليه السلام.. إن هذه الأشياء الإضافية التي ظهرت لتعيين الهيكل الخارجي للعبادة اليهودية والروحانية المسيحية، قد أصبحت جزءًا لا يتجزأ من اليهودية والمسيحية بمرور الزمن، حتى توارى الدين الإلهي الحقيقي عن الأنظار في خضم هذه الإضافات.
أما الخطأ الثاني فنجد له مثالاُ في العقائد المسيحية الحالية، كالتثليث والكفارة والاعتقاد بأن المسيح ابن الله..
إن المسيح عليه السلام لم يعلم هذه العقائد في حياته، بل هي غير موجودة حتى في أناجيل متى ومرقص ولوقا ويوحنا .. لقد اخترع ” بولس” عقيدة ” الكفارة “، أما “التثليث ” فكان مجهولاً في أيامه!! إنها عقيدة ظهرت بين المتكلمين المسيحيين المتأخرين.. فعندما خرجت المسيحية من حدود الشام، بدأ رجال الدين المسيحيين يبينون التعاليم المسيحية باللغة التي تفهمها الشعوب الأخرى، كالمصريين واليونانيين وهذا هو ما يطلق عليه القرآن الكريم تعبير ” المضاهاة ” في قوله تعالى {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} (التوبة: 30).. وأخذت أحاديث وبيانات العلماء المسيحيين تتقمص مسوح القدسية رويدًا رويدًا إلى أن حصلوا على التأييد السياسي في عهد قسطنطين الأول فبدأوا ينفذون بالقوة هذه المسيحية المستحدثة، بدلاً من المسيحية الحقيقية، وذلك بواسطة مجلس نيقيا الأول الذي عقد عام 325م.
إن ما يطلق عليه ” العقائد المسيحية ” هو علم الكلام المسيحي الذي تحول إلى جزء من المسيحية إلى أن أصبح هو الأصل على مر الزمن.
إن الإسلام يعاني اليوم من سائر أنواع ” الغبار ” الذي تراكم على أديان الأم السابقة ، مع فارق جوهري، وهو أن أصول الدين الإسلامي محفوظة من التحريف البشري، دون سائر الديانات السماوية الأخرى.. وأول عمل لتجديد الإسلام هو تطهيره من هذه الإضافات..
ولن ينجح الجهد الرامي إلى إحياء الدين الإلهي ما لم يطهر من الغبار البشري.
لقد حذر النبي ﷺ أمته تحذيرًا صريحًا، بشتى الطرق، للوقاية من هذه الفتنة .. فكانت آخر نصائحه ﷺ لنا قبل رحيله إلى الرفيق الأعلى: ” تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بها:كتاب الله وسنة رسوله ” (موطأ الإمام مالك).
ولكن حسبما كان الرسول ﷺ قد نبأ بنفسه، بدأت الإضافات تتراكم على ميراث النبوة في العصور المتأخرة، حتى ألحقت بالإسلام في تصورات الناس الساذجة كل تلك الأشياء التي حرفت الأديان السابقة.
ولكن هناك فارق نوعي عظيم بين المثالين، فبينما أصبحت الإضافات البشرية جزءًا لا يتجزأ من النصوص السماوية القديمة، حتى أن تمييز الجزء السماوي من الإضافة البشرية بات أمرًا مستحيلاً، فإن الإسلام، بالرغم من كل الإضافات، يحافظ على النص السماوي المتمثل في “القرآن الكريم” الذي لم يطرأ عليه تحريف ما منذ نزوله حتى اليوم.. ويمكن لأي إنسان اليوم أن يتعرف على الدين الإلهي الحقيقي الخالي من الإضافات البشرية، وذلك بأن يطلع على (القرآن الكريم).
إن تجديد الدين أمر طبيعي، وقد تحدث الرسول ﷺ عن هذا الأمر فقال “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها” (أبو داود في سننه)، ويختلف الباعث الذي يدفع إلى هذا التجديد من عصر إلى آخر.
نحن على عتبة القرن الخامس عشر وليس حديث في العالم إلا عن صحوة الإسلام ويقظته. فهذا التجديد على رأس هذا القرن يعلن عن نفسه بظهور نسأل الله أن يكون سيره حاسمًا. كما نرجوه جلت عظمته أن يستعملنا لنكون من هذا المن الذي يجدد الله به الدين للأمة. فرأينا أن “مَن” المذكورة في الحديث قد تعني شخصًا بعينه كما تعني جماعة يتعاونون على إحقاق الحق بعد إبطال الباطل.
وهؤلاء المجددون يستعملهم الله في إقامة الدين؛ أصوله وفروعه، وردِ الناس إلى الجادة الصحيحة، والمَهْيَع الرشيد، حين ينحرفون عنه أو يهجرونه، وربما انتدب الله لهذا الأمر جماعة من المجددين على رأس كل قرن، بل هو الواقع، فلا تقتضي دلالة الحديث السابق أن يكون المجدد فرداً.
ولئن كان الناس في أسفارهم يهتدون بالنجوم في ظلمات البر والبحر، فإن العلماء هم نجومُ الهداية، بهم يهتدي السالكون إلى الله والدار الآخرة، فهم مناراتٌ يُهتدى بها، وإذا غابت النجوم ضل الناس وتاهوا في دياجير ظلمات البر والبحر، وإذا غاب العلماء عن الساحة ضل الناس وتخبّطوا في ظلمات الشُّبُهات والشهوات.