قال الله تعالى: { طه * ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى } [طه: 1 – 4].
أولًا: سبب نزولها
قال البغوي: لما رأى المشركون اجتهاده في العبادة، قالوا: ما أنزل عليك القرآن يا محمد إلا لشقائك، فنزلت: ﴿ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ﴾ [طه: 2]؛ أي: لتتعنَّى وتتعب.
تضمنت الآية بحسب ما ورد في سبب نزولها تعيير المشركين رسول الله ﷺ بتركه لدين آبائه، وزعموا أن ذلك سبب شقائه أو عابوا عليه كثرة تعبده لربه، وما علموا أن ذلك بسبب شوقه للقائه.
رد الله تعالى على أولئك العائبين على سيد المرسلين ﷺ بأحكم رد وأبلغه، وخفَّف عن نبيه ﷺ بما يجعله يواصل فيما هو بصدده من الدعوة إلى ربه أو القيام بحق عبوديته، وذلك من خلال ما يأتي:
- قال تعالى: { ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى } [طه: 2]، قال ابن عاشور رحمه الله تعالى: افتتحت السورة بملاطفة النبي ﷺ بأن الله لم يرد من إرساله وإنزال القرآن عليه أن يشقى بذلك؛ أي: تصيبه المشقة ويشده التعب، ولكن أراد أن يذكر بالقرآن من يخاف وعيده.
- أيضًا من معاني: { ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى } ؛ أي: ما أنزلنا عليك القرآن أيها الرسول الكريم لكي تتعب وتجهد نفسك همًّا وغمًّا بسبب إعراض المشركين عن دعوتك؛ كما قال تعالى: { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ؤ [الكهف: 6]، وإنما أنزلناه إليك لتسعد بنزوله، ولتبلغ آياته، ثم بعد ذلك من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، فأنت عليك البلاغ ونحن علينا الحساب، وأنت لا تلام على كفر قومك؛ كقوله تعالى: { لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ } [الغاشية: 22]، { وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ } [الأنعام: 107]؛ أي: ليس عليك كفرهم إذا بلغت ولا تؤاخذ بذنبهم.
- ومن معانيها: أن هذه السورة من أوائل ما نزل بمكة، وفي ذلك الوقت كان عليه السلام مقهورًا بسبب أعدائه، فكأنه سبحانه قال له: لا تظن أنك تبقى على هذه الحالة أبدًا، بل سيعلو أمرك ويظهر قدرك، فإنا ما أنزلنا عليك مثل هذا القرآن لتبقى شقيًّا فيما بينهم، بل تصير معظمًا مكرمًا.
- أوضح سبحانه أولئك المتعنتين من المشركين أن القرآن لم يُنزل ليكون سببًا في الشقاء، بل أُنزل ليكون تذكرة، فقال تعالى: { إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى } [طه: 3]؛ أي: أنزلناه من أجل أن يكون تَذْكِرَةً؛ أي موعظة تلين لها قلوب من يخشى عقابنا، ويخاف عذابنا، ويرجو ثوابنا، وما دام الأمر كذلك فامضِ في طريقك، وبلِّغ رسالة ربك، ثم بعد ذلك لا تتعب نفسك بسبب كفر الكافرين، فإنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء؛ ووجه كون القرآن تذكرة أنه عليه السلام كان يعظهم به وببيانه، فيدخل تحت قوله: (لمن يخشى) الرسول ﷺ؛ لأنه في الخشية والتذكرة بالقرآن كان فوق الكل.
- ختم الله تعالى الرد على من زعم أن القرآن سبب في الشقاء أن الأمر ليس كذلك، بل القرآن مصدر للسعادة، فقال: { تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى } [طه: 4]؛ أي: نزل هذا القرآن تنزيلًا ممن خلق الأرض التي تعيشون عليها، وممن خلق السموات العلى.
قال السعدي رحمه الله: إنه تنزيل خالق الأرض والسماوات، المدبر لجميع المخلوقات؛ أي: فاقبلوا تنزيله بغاية الإذعان والمحبة والتسليم، وعظِّموه نهاية التعظيم، وكثيرًا ما يقرن بين الخلق والأمر؛ كما في هذه الآية، وكما في قوله: { أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ } [الأعراف: 54]، وفي قوله: { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ } [الطلاق: 12]، وذلك أنه الخالق الآمر الناهي، فكما أنه لا خالق سواه، فليس على الخلق إلزام ولا أمر ولا نهي إلا من خالقهم، وأيضًا فإن خلقه للخلق فيه التدبير القدري الكوني، وأمره فيه التدبير الشرعي الديني، فكما أن الخلق لا يخرج عن الحكمة، فلم يخلق شيئًا عبثًا، فكذلك لا يأمر ولا ينهى إلا بما هو عدل وحكمة وإحسان، فلما بين أنه الخالق المدبر، الآمر الناهي، أخبر عن عظمته وكبريائه.
فوائد من (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى)
- خص من يخشى بالتذكرة؛ لأنهم المنتفعون بها وإن كان ذلك عامًّا في الجميع وهو كقوله: { هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } [البقرة: 2]، وقال سبحانه وتعالى: { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } [الفرقان: 1]، وقال: { لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ } [يس: 6]، وقال:{ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا } [مريم: 97]، وقال: { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } [الذاريات: 55].
- قال الشنقيطي رحمه الله في قوله تعالى: { مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى } [طه: 2]، وجهان من التفسير، وكلاهما يشهد له قرآن:
- الوجه الاول أن المعنى: ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى؛ أي لتتعب التعب الشديد بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم، وتحسُّرك على أن يؤمنوا، وهذا الوجه جاءت بنحوه آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: { فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } [فاطر: 8]، وقوله تعالى: { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا } [الكهف: 6]، وقوله: { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } [الشعراء: 3]، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدًّا، وقد قدمنا كثيرًا منها في مواضع من هذا الكتاب المبارك.
- الوجه الثاني أنه ﷺ صلَّى بالليل حتى تورَّمت قدماه، فأنزل الله ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى؛ أي تنهك نفسك بالعبادة، وتذيقها المشقة الفادحة، وما بعثناك إلا بالحنيفية السمحة، وهذا الوجه تدل له ظواهر آيات من كتاب الله؛ كقوله: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [الحج: 78]، وقوله: { يرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [البقرة: 185]، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وقال الشنقيطي أيضًا: يفهم من قوله: لتشقى أنه أنزل عليه ليسعد؛ كما يدل له الحديث الصحيح: “مَن يُرد الله به خيرًا يُفقهه في الدين”.. ومنه قول أبي الطيب:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهـــــــالة في الشقاوة ينعم
ومنه قوله تعالى: { فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى } [طه: 117].