هل أصبح الواقع اليوم مسرحًا للأوهام أكثر من الحقائق؟ في عصر “ما بعد الحقيقة”، تتلاشى حدود العقل أمام موجات التضليل الإعلامي والجهل المتفشي. في ظل انفجار المعلومات وسرعة التفاعل الرقمي، بات الانغماس في الأخبار الزائفة ونظريات المؤامرة خطرًا محدقًا بقدرتنا على التمييز بين الصواب والخطأ. كتاب محمد بهضوض “ما بعد الحقيقة” يستكشف جذور هذه الظاهرة الثقافية والسياسية، مستندًا إلى دراسات فلسفية ونقدية رصينة.
تخيل أن تمتلك أدوات فكرية قوية تعيد للعقل مكانته الرفيعة، فتبني مجتمعًا واعيًا يقاتل الجهل والتفاهة. عبر قراءة هذا المرجع، ستتعمق في آليات التلاعب الإعلامي وتكتسب استراتيجيات التحري النقدي التي تحميك من الانزلاق وراء الزيف.
قراءة كتاب “ما بعد الحقيقة” هو في حد ذاته مشاركة في حملة وعي لحماية المجتمع من التضليل، ودعوة صريحة للتفكير النقدي وغربلة الأفكار والثقافات.
من هو محمد بهضوض؟
محمد بهضوض كاتب وصحافي ومدوِّن مغربي. حاصل على دبلوم الدراسات العليا في الصحافة من المعهد العالي للإعلام والاتصال في الرباط، وعلى الدكتوراه في الفلسفة من جامعة محمد الخامس في الرباط. أصدر 22 مؤلفًا، منها: نقد الفكر الجاهز؛ الفكر الثقافي؛ التنمية الثقافية؛ سياسات الخلاص؛ الرأي العربي؛ فلسفة الفنّ؛ فهم العالم؛ لذة الفكر؛ التربية والاتصال وحديث العمران.

لماذا “ما بعد الحقيقة”؟
في عالم يعجّ بالتكنولوجيا والمعلومات، حيث أصبح الوصول إلى المعرفة أسرع وأسهل من أي وقت مضى، يبدو أننا نواجه تناقضًا محيرًا: كلما ازدادت أدوات التواصل والانفتاح المعلوماتي، تضاءلت فرص الفهم الحقيقي وتراجعت قدرتنا على تمييز الحقيقة من الزيف. هذا الواقع المعقد هو ما استدعى الكاتب والصحافي المغربي محمد بهضوض للتنقيب عن ظاهرة “ما بعد الحقيقة”، التي باتت تشكل تحديًا كبيرًا للعقل الإنساني ولبنى المجتمعات الحديثة.
كتاب محمد بهضوض الجديد “ما بعد الحقيقة: العقل في مواجهة الجهل والتفاهة والتضليل” صدر مؤخرًا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ليقدم إطارًا شاملًا ومعرفيًا لهذه الظاهرة المستشرية. الكتاب، الذي يقع في 423 صفحة، يُعدّ مرجعًا حديثًا يجمع بين الفلسفة والنقد الثقافي والتحليل السياسي، ويهدف إلى إعادة تعريف العلاقة بين الحقيقة والعاطفة في زمن التضليل الإعلامي ونظريات المؤامرة.
يتناول الكتاب ظاهرة “عصر ما بعد الحقيقة” التي ازدادت حدتها مع تطور وسائل التواصل الاجتماعي وانتشار الأخبار الزائفة، مما جعل من الضروري مقاربتها فلسفيًا ومعرفيًا وتطبيقياً للمساهمة في مواجهة الجهل والتلاعب بالمعلومات.
خلفية مفهوم “ما بعد الحقيقة”
أُعلن عن مصطلح “post-truth” ككلمة سنة 2016 من قِبل قاموس أوكسفورد للدلالة على الظروف التي يكون فيها للطابع العاطفي والمعتقدات الشخصية تأثيرٌ أكبر على الرأي العام من الوقائع الموضوعية
هذا الاختيار جاء في خضم أحداث سياسية مثل الانتخابات الأميركية واستفتاء بريطانيا على الخروج من الاتحاد الأوروبي، حيث برز دور الأخبار الزائفة في توجيه النقاش العام بعيدًا عن الحقائق المثبتة.
الأدبيات السابقة: من ماكينتاير إلى كاكوناتي
تناول لي ماكينتاير في كتابه Post-Truth (2018) علاقة ظاهرة ما بعد الحقيقة بإنكار العلم والتحيزات النفسية وفوضى الفضاءات الإعلامية الرقمية، مؤكدًا كيف يتحول الفرد إلى مجموعة من “صوامع المعلومات” لا تختلط فيها الوقائع مع الآراء.
وبالموازاة، قدمت ميشكو كاكوناتي في The Death of Truth (2018) قراءة ثقافية لمدى تآكل الثقة في المؤسسات العلمية والإعلامية، مسلطة الضوء على كيفية استخدام نظريات ما بعد الحداثة أحيانًا لتبرير نسبية الحقيقة دون ضوابط
تحولات المعرفة في زمن “ما بعد الحقيقة”
في قلب الكتاب، يناقش بهضوض كيف أن الثورة الرقمية، رغم أنها فتحت آفاقًا هائلة للتواصل والتعلم، إلا أنها أيضًا أسهمت في تعزيز ظواهر خطيرة مثل الأخبار الزائفة (Fake News) ونظريات المؤامرة. هذه الظاهرة ليست جديدة تمامًا، لكنها تفاقمت بشكل غير مسبوق بسبب الطفرة التكنولوجية وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي.
الكتاب يشير إلى أن “ما بعد الحقيقة” لا يعني فقط غياب الحقيقة أو تشويهها، بل هو حالة ثقافية وسياسية يصبح فيها العاطفة والمعتقد الشخصي أكثر أهمية من الوقائع الموضوعية. هنا، يبرز تساؤل جوهري: هل أصبحت الحقيقة ضحية لآليات التلاعب السياسي والاقتصادي؟
جذور الظاهرة وبُعدها البنيوي
يؤكد بهضوض أن ظاهرة التضليل ليست مجرد حدث عابر، بل لها جذور تاريخية تمتد إلى صراعات قديمة بين العقل والدجل، وبين التنوير والقوى الرجعية. ومع ذلك، فإن الطابع البنيوي للتضليل اليوم يختلف عن الماضي، حيث أصبح النظام الرأسمالي الليبرالي يقدم الشعبوية كأداة رئيسية لنشر الوهم على أنه حقيقة.
على سبيل المثال، يشير الكاتب إلى دور وسائل الإعلام في ترويج الروايات الزائفة خلال جائحة كوفيد-19، حيث ساهمت بعض القنوات الإخبارية في إرباك الجمهور من خلال تقديم معلومات مضللة حول اللقاحات والأدوية. هذه الهشاشة المؤسسية تجعل من الصعب على المواطن العادي التمييز بين الحقيقة والخيال.

كما يناقش الكتاب تأثير تيارات فلسفية مثل ما بعد الحداثة، التي شككت في المفاهيم المرجعية للحقيقة وفتحت المجال أمام التفسيرات الذاتية. ومع ذلك، يرى الكاتب أن الفلسفة نفسها يمكن أن تكون أداة لاستعادة العقلانية ومواجهة التضليل.
أقسام الكتاب : “ما بعد الحقيقة” ومجالاتها المتعددة
ينقسم الكتاب إلى خمسة أقسام رئيسية، يتناول كل منها مجالًا مختلفًا تتجلى فيه ظاهرة “ما بعد الحقيقة”:
1. المجال السياسي
في هذا القسم، يحلل الكاتب كيف أصبح الكذب والتضليل أداة انتخابية في العديد من الدول. على سبيل المثال، الانتخابات الأميركية لعام 2016 والخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي (Brexit) شهدتا استخدامًا مكثفًا للأخبار الزائفة لتعزيز الخطاب الشعبوي وزعزعة الديمقراطية.
2. المجال الاقتصادي
يتحدث الكاتب عن “اقتصاد الأكاذيب”، حيث تستخدم الشركات وسائل الإعلام لصناعة صورة زائفة عن منتجاتها أو خدماتها، مما يؤدي إلى فقدان السوق لشفافيته ونزاهته.
3. العلاقات الدولية
على مستوى العلاقات الدولية، يبرز دور التضليل الإعلامي في شكل “حروب معنوية”. الدول الكبرى تستغل هذه الظاهرة لخدمة مصالحها الاستراتيجية، بعيدًا عن الأخلاق أو الحقائق الموضوعية.
4. العلم
في هذا المجال، يسلط الكتاب الضوء على الشكوك التي تواجه العلم الحديث، خاصة في ظل انتشار نظريات المؤامرة والمعلومات المضللة. هذه الظاهرة تهدد أحد أركان التقدم البشري.
5. الثقافة والتكنولوجيا
أخيرًا، يركز الكاتب على الدور المحوري لوسائل التواصل الاجتماعي في تعزيز الأخبار الزائفة. هذه المنصات تسرع دورة المعلومات المضللة وتضاعف تأثيرها عبر إعادة النشر والتضخيم المتواصل.
كيف نواجه “ما بعد الحقيقة”؟
يختتم بهضوض كتابه بدعوة واضحة إلى استعادة مركزية العقل والتفكير النقدي. يشدد على أن تحرّي الوقائع لم يعد ترفًا فكريًا، بل ضرورة وجودية في عالم تتزايد فيه الأوهام ويتأكل فيه المعنى.
الحلول المقترحة:
- تعزيز التعليم : يجب أن يكون النقد الفلسفي والتفكير النقدي جزءًا أساسيًا من المناهج الدراسية.
- تنظيم وسائل الإعلام : هناك حاجة إلى قوانين صارمة لمحاسبة الجهات التي تنشر الأخبار الزائفة.
- التوعية المجتمعية : إطلاق حملات توعية لتعليم الناس كيفية التحقق من المعلومات قبل تصديقها.
- دور الفلسفة : الفلسفة، بوصفها ممارسة نقدية، قادرة على مساءلة ذاتها واستعادة دورها في تقويض الوهم وإعادة بناء المفاهيم.
مقاربة فلسفية واجتماعية
ما يميز كتاب “ما بعد الحقيقة” هو أنه لا يقتصر على الوصف فقط، بل يقدم تحليلًا عميقًا للسياقات والآليات التي تغذي هذه الظاهرة. يستحضر الكاتب مقولة الفيلسوف الفرنسي إرنست رينان: “الأفكار هي التي تقود العالم”، ليؤكد أن ظاهرة “ما بعد الحقيقة” ليست مجرد أطروحة تجريدية، بل واقع ملموس يؤثر على حياتنا اليومية.
كما يعتمد الكتاب على مراجع متعددة، بما في ذلك أعمال فلاسفة مثل كارل ماركس وما بعد الحداثيين مثل ميشيل فوكو وجاك دريدا. بالإضافة إلى ذلك، يتناول الكاتب دراسات حديثة حول تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على العقل الجمعي، مما يجعل الكتاب مرجعًا مهمًا للباحثين والمهتمين.

كما يعالج الكتاب أيضًا العقبة اللغوية والمفاهيمية في نقاش ما بعد الحقيقة، متتبعًا تاريخ تشكُّل مصطلحات كلاسيكية مثل “الحقيقة” و”الكذب” وحديثة مثل “الأخبار الزائفة” و”الوقائع البديلة”، مُظهرًا كيف أن هذه المصطلحات الأنجلو-ساكسونية النشأة فُرضت على النقاش العالمي، ومدى ارتباطها بإرث الشك الفلسفي وتيارات ما بعد الحداثة.
المساهمات المعرفية للكتاب وأهميته في السياق العربي والمعاصر
يُقدّم بهضوض إضافة نوعية بدمجه بين التحليل الفلسفي الدقيق والمعالجة المعرفية للتضليل الإعلامي، مستندًا إلى مقولات إرنست رينان القائلة بأن “الأفكار هي التي تقود العالم”، واستدعاء جدلية كارل ماركس لتأكيد أن ما بعد الحقيقة واقع ملموس يؤثر في حياتنا اليومية ويحتم علينا مساءلته نقديًا
وتكتسب هذه الدراسة أهمية خاصة في عالم عربي يشهد تصاعدًا للخطاب الشعبوي والإعلام الرقمي الضعيف التنظيم، حيث يمكن للكتاب أن يشكل مرجعًا أكاديميًا وإعلاميًا لطلبة الإعلام والفكر والفلسفة، وكذلك لصانعي السياسات الذين يواجهون تحديات التضليل في ساحات النقاش العام والانتخابات والسياسات التنموية
أهمية الكتاب في السياق الأكاديمي والإعلامي
“ما بعد الحقيقة: العقل في مواجهة الجهل والتفاهة والتضليل” ليس مجرد كتاب، بل هو دعوة للتفكير العميق في التحديات التي تواجه العقل الإنساني في القرن الحادي والعشرين. يأتي الكتاب في وقت بالغ الأهمية، حيث تتصاعد موجات التضليل الإعلامي ونظريات المؤامرة، مما يجعل مناقشة هذه الظاهرة أمرًا ضروريًا.
من خلال هذا العمل، يقدم محمد بهضوض إضافة قيمة إلى الأدب الأكاديمي والإعلامي، حيث يجمع بين التحليل الفلسفي والبحث الاجتماعي، ويضع القراء أمام مسؤوليتهم الفكرية والأخلاقية في مواجهة التضليل.
دعوة إلى استعادة العقل
يختتم محمد بهضوض كتابه بدعوة صريحة لاستعادة مركزية العقل والنقد كوسيلتين أساسيتين للخروج من “زمن التفاهة والجهل”، مؤكدًا أن تحرّي المفاهيم والوقائع لم يعد ترفًا فكريًّا، بل ضرورة وجودية في عالم تتكاثر فيه الأوهام وتتآكل فيه المعاني .
في عالم متصل ولكن مشوش، حيث تتسابق الأخبار الزائفة مع الحقائق، يصبح علينا جميعًا أن نعيد النظر في طريقة تعاملنا مع المعلومات. كتاب محمد بهضوض “ما بعد الحقيقة” هو دعوة واضحة لاستعادة العقل والتفكير النقدي كأدوات أساسية للخروج من زمن التفاهة والجهل. فالحقيقة ليست مجرد فكرة مجردة، بل هي أساس التعايش الإنساني والسلام العالمي.