إنَّ الأخلاق الرفيعة جزء مهم من العقيدة، فالعقيدة الصحيحة لا تكون بغير خلق، وقد ربى نوح عليه السلام أتباعه على مكارم الأخلاق بأساليب متنوعة، وقد كان عليه السلام مدرسة إنسانية كبرى، كمرجعية أخلاقية رفيعة المستوى وتمثلت شخصيته بحمله الخصال الحميدة والصفات العلية ففاضت على من حوله تربية وتعليما، وتزكية، فقد اشتهر بالعبودية الخالصة لله والشكر الجزيل وكثرة السجود والبكاء من خشية الله، ودوام الدعاء واستمرار التوكل على الله والتجرد له وتفويض الأمر لله، وكثرة الذكر والتوبة والاستغفار والإحسان والإخلاص والصلاح والعلم والأمانة والعفة والثبات والشجاعة والصبر وبرِّ الوالدين، وقد أسهمت تلك الأخلاق على التأثير على من آمن معه.
وليست الأخلاق شيئاً ثانوياً في مجتمع نوح عليه السلام، وليست محصورة في نطاق معين من نطق السلوك البشري، إنما هي ركيزة من ركائزه، فهي شاملة للسلوك البشري كله، كما أن المظاهر السلوكية كلها ذات الصبغة الخلقية الواضحة هي الترجمة العملية للاعتقاد والإيمان الصحيح؛ لأن الإيمان ليس عبارة عن مشاعر مكنونة في داخل الضمير فحسب، إنما عمل سلوكي ظاهر كذلك، بحيث يحق لنا حين لا نرى ذلك السلوك العملي، أو حين نرى عكسه، أن نتساءل :أين الإيمان إذاً؟ وما قيمته إذا لم يتحول إلى سلوك؟
لقد تربى أتباع نوح عليه السلام على أن العبادة نوع من الأخلاق؛ لأنها من باب الوفاء لله والشكر للنعمة، والاعتراف بالجميل، والتوقير لمن هو أهل التوقير والتعظيم، وكلها من مكارم الأخلاق، فكانت أخلاق ذلك المجتمع الجديد ربانية باعثها الإيمان بالله، وحاديها الرجاء في الآخرة، وغرضها رضوان الله ومثبوته.
إنَّ الأخلاق عند الأنبياء والمرسلين – ومنهم نوح عليه السلام – شيء شامل، يعمُّ كل تصرفات الإنسان وكل أحاسيسه ومشاعره وتفكيره، فالصلاة لها أخلاق وهي: الخشوع، والكلام له أخلاق وهي: الإعراض عن اللغو، والجنس له أخلاق وهي: الالتزام بحدود الله وحرماته، والتعامل مع الآخرين له أخلاق وهي: التوسط بين التقتير والإسراف، والحياة الاجتماعية لها أخلاق وهي: أن يكون الأمر شورى بين الناس، والغضب له أخلاق وهي: العفو والصفح، ووقوع العدوان على الأعداء تستتبعه أخلاق وهي: الانتصار، أي رد العدوان وهكذا لا يوجد شيء في حياة المؤمن ليست له أخلاق تكيفه، ولا شيء واحد ليست له دلالة واحدة أخلاقية مصاحبة.
إنَّ الله سبحانه وتعالى قد جعل التوحيد أي: إفراد الله بالعبادة على رأس هذا المنهج الخلقي؛ لأن التوحيد له في الحقيقة جانب أخلاقي أصيل، إذ الاستجابة إلى ذلك ترجع إلى خلق العدل والإنصاف والصدق مع النفس، كما أن الإعراض عن ذلك يرجع في الحقيقة إلى بؤرة سوء الأخلاق في المقام الأول مثل: الكبر عن قبول الحق، والاستكبار عن اتباع الرسل غروراً وأنفة أو الولوع بالمرء، والجدال بالباطل مغالبة وتطلعاً للظهور أو تقليد أو جمود على الإلف والعرف، مع ضلاله وبهتانه، وكلها – وأمثالها – أخلاق سوء تهلك أصحابها وتصدهم عن الحق بعدما تبين، وعن سعادة الدارين مع استيقان أنفسهم بأن طريق الرسل هو السبيل إليها.
كانت نقطة البدء في حركة التربية الربانية للحضارة الإنسانية الثانية، لقاء الأتباع بنوح عليه السلام فيحدث لهم تحول واهتداء، فيخرج ببركة الوحي المدعو من دائرة الظلام إلى دائرة النور ويكتسب الإيمان ويطرح الكفر ويقوى على تحمل الشدائد والمصائب في سبيل دينه وعقيدته وعمارة الأرض وخلافتها لمفعوم العبادة لله رب العالمين.
ولقد كانت شخصية نوح – عليه السلام – المحرك الرئيس لأفراد الحضارة الإنسانية الثانية، فشخصيته تملك قوى الجذب والتأثير على الآخرين، فقد اصطفاه الله واختاره لرسالته وقيادة البشرية في دربها الجديد بعد الطوفان العظيم، وألقى الله عليه من المحبة والمهابة والاحترام والعظمة، فدائماً يُحَب ويحاط من الناس بالإعجاب، ويلتف حوله المعجبون يلتصقون به التصاقاً بدافع الإعجاب والحب، ويضاف إلى ذلك كونه رسول الله متلقي الوحي من الله ومبلغه إلى الناس، وذلك بُعدٌ آخر له أثره في تكييف مشاعر ذلك المؤمن تجاهه، فهو لا يحبه لذاته فقط كما يحب العظماء من الناس، ولكن أيضاً لتلك النفحة الربانية التي تشمله من عند الله المكرم بالوحي الإلهي، فارتبط به الأفراد والأتباع برباط الله في الله مع السمع والطاعة للرسول الكريم، فكانت تلك نقطة الارتكاز في المشاعر كلها ومحور الحركة الشعورية والسلوكية كلها، فكان هذا الحب هو مفتاح التربية السلوكية والأخلاقية، ونقطة ارتكازها ومنطلقاتها التي انطلقت بها الحضارة الإنسانية الثانية.
وكان من عوامل نشوء الحضارة الإنسانية الثانية عامل الأخلاق، فقد قام المجتمع على قاعدة أخلاقية واضحة مستمدة من أوامر شريعة الله وتوجيهاته، وهي قاعدة لا تشمل علاقة الجنسين وحدها وإن كانت هذه من أبرز سمات هذا المجتمع، فهو خالٍ من كل ما يخدش الحياء من فعل أو قول أو إشارة، وخال من الفاحشة إلا القليل الذي لا يخلو منه مجتمع على الإطلاق، ولكن القاعدة الأخلاقية أوسع بكثير من علاقات الجنسين، فهي تمثل السياسة والاقتصاد والاجتماع والفكر والتعبير، فالحكم قائم على أخلاقيات شريعة الله، وعلاقات الناس في المجتمع قائمة على الصدق والأمانة، والإخلاص والتعاون والحب، فلا غمز ولا لمز ولا نميمة ولا قذف للأعراض.
ويمكننا أن نثبت دور الأخلاق في بناء الحضارة الإنسانية الثانية ونبين أن الروح الأخلاقية منحة من الله عزَّ وجل لنوح عليه السلام وأتباعه، فقد ارتبطوا ببعضهم البعض بروابط الحب في الله، ووشائج عقيدة الوحدة، وألف الله بين قلوبهم، فأحدث بينهم التواد والتحاب ونزع التباغض، ولم يحدث هذا بالقوّة وقهر القانون ولكن برضاء وطواعية داخلية، تلك هي الأخلاق الربانية يأتي بها الوحي ويغرسها السادة الأنبياء بقدوتهم الأخلاقية ذاتها، ويبرزون دورها في توحيد الشعوب، والاتحاد قوّة مادية ومعنوية، والقوة الأخلاقية من أكبر الوسائل في تطوير الأمم، وأشدها أثراً في بناء المجتمعات وقيام الحضارات وتماسكها، وكل القيم الأخلاقية قوة؛ فالصبر قوة وصفة للأبطال الرواد، والضعيف لا يستطيع أن يتحمل، ويجزع وينهزم أمام الأحداث، والشجاعة قوة؛ لأن صاحبها يرفض الجبن والذل، ويقاوم الظلم، والعدل قوة؛ لأنه يمثل غلبة نوازع الحق والخير على نوازع الباطل والشر داخل الإنسان ذاته، والعفة قوة؛ لأنها تقاوم الشهوات والأهواء والإغراءات، وهكذا تقام كل القيم الأخلاقية الحميدة على هذا القياس، وتثبت أنها عناصر بناء وضع للتاريخ الحضاري.
لقد انبثقت القيم الأخلاقية التي أسهمت في ميلاد الحضارة الإنسانية الثانية عن عقيدة صحيحة قائمة على أساس من الوحي.
وقامت الحضارة الإنسانية الثانية على روابط أخلاقية مدعومة بحزمة من التشريعات الربانية، وكان للمنظومة الأخلاقية الدرجة الأولى من السلوك الاجتماعي لدى الحضارات، والدارس لطبيعتها وسنن قيامها وازدهارها يتبيّن له أن جوهر الحضارة الأخلاق، وإن كان تقرير هذه الحقيقة يدهش الذين اعتادوا التعلق بالاعتبارات المادية، بل قد يثير الاشمئزاز في نفوسهم من الذين يؤمنون بدور الأخلاق في التماسك والازدهار الحضاري، وجوابنا لهم هو أنه شهد شاهد من أهل الذين جعلوهم قدوة لهم في تصورهم الحضاري وسلوكهم الاجتماعي، ولا شكَّ أن هذا حجة بالغة بالنسبة لهم.
ويتوقف الجوهر الأخلاقي على قدرة الاستعدادات النفسية والعقلية لدى الأفراد والجماعات، والتاريخ الحضاري صريح وواضح عند الحديث عن الأوضاع الاجتماعية والقضايا الحضارية العامة، فهو يبين بالأمثلة والحقائق الصارخة أن الأسس الأخلاقية ومبادئ النبل والشرف والتضحية وتجنب الإباحية ووجوب الأخذ بإملاءات الوجدان الأخلاقي وقواعد الحكمة والاعتدال ونبذ العدوان والاستغلال، وما أشبه ذلك من معانٍ وشمائل كانت دعائم تحضرٍ عبر التاريخ، وأركان تقدمِ الفلاح في كل الأمم، وكانت الأخلاق ميزة صفوة الشعوب من الأبطال والعظماء والعلماء، وأي إنسان لا تكون له قيمة حقيقية وشخصية إنسانية إلا إذا كان ذا أخلاق حسنة وخلال طيبة، وتحت تأثير القيم الأخلاقية تكونت العلاقات الإنسانية على مستوى الجامعات والأمم، وما اضمحل المبدأ الأخلاقي في النفوس إلا وتداعت الحضارة.
وهذه سنة من سنن الله تعالى ستظل قائمة وإن كان دور المبدأ الأخلاقي محل احتقار في نظر أهل الحلول المادية لقضايا التحضر، ويكون نظرة غريبة لدى كثير من الدارسين والمثقفين، فإن هذا لا ينفي دوره، ولا يوقف تأثيره في الحياة، والذين تعرضوا للضعف والانحلال وأصيبت مدنياتهم بالانهيار والسقوط إن كان في الماضي القريب أو البعيد، إنما سلكوا خلاف سنن الله وما تقتضيه أبسط قواعد العدالة، ونبذوها وراء ظهورهم، وسخروا منها ومن الداعين إليها، فتلك هي قصة عاد وثمود والرومان والإغريق، منذ انتشرت فيهم الإباحية والنفعية والجرائم وغيرها من سنن السقوط الحضاري، وتلك هي قصة الدول التي أخذت تنحدر في كل من أوروبا وأمريكا، إنها القصة التي تنتهي دوماً بالنتيجة المأساوية المعروفة.
ويبدو أنه من أكبر منزلقات الحضارات المادية انسلاخها عن المبدأ الأخلاقي، التي لا تكاد تفارقه قليلاً حتى تلقى حتفها.
إنَّ حيوية حضارة السلام والبركات استمدت قوتها من عوامل عديدة: عقدية وصناعية واقتصادية واجتماعية وكذلك أخلاقية.
لقد كان لعامل الأخلاق أثر كبير في نشأة وريادة وقدوة الإنسانية في الحضارة الثانية، ولا يقوم صرح المجد والنهوض الإنساني المادي والمعنوي إلا على أساس من الأخلاق والآداب القويمة، ولذا جاءت الرسالات السماوية آمرة المؤمنين بالتحلي بمكارم الأخلاق ونبذ كل ما يؤدي إلى تدهور القيم وفك روابط المجتمع.
إنَّ المجتمع الفاضل الذي أسسه نوح عليه السلام له أدب رفيع وقيم نبيلة وأخلاق رفيعة ولكل فرد فيه كرامته التي لا تمس.
وأخيراً .. أودُّ أن أؤكد سنة من سنن الله، وهي أن الإحاطة بقوانين الفلك في أمرٍ كالكسوف والخسوف تنبئ بوقوعه قبل فترة من حدوثه، فلا جدال إذن في معرفة مآل أحداث الأمم ومصائر الدول والحضارات بدراسة ومعرفة قوانين وسنن الاجتماع البشري، ومن السنن الثابتة في هذا الموضوع، موضوع مصائر الحضارات، أن تفشي الظلم وسعي الناس في الأرض فساداً، مؤذن ومؤشر بخراب الأمم والدول، وعن طريق المقابلة نعرف أن للاستقامة وللالتزام بموجبات الصلاح والحق والعدل والأخلاق والعمل المخلص، سنناً لازدهار الحضارات وسيادة الأمم.
المراجع:
* علي محمد محمد الصلابي، نوح والطوفان العظيم ميلاد الحضارة الإنسانية الثانية، دار ابن كثير، 439 – 465.
* محمد قطب، دراسات قرآنية، ص 130.
* محمد قطب، منهج التربية الإسلامية، ص 34- 35 .
* ألبرت إشفيتسر، فلسفة الحضارة: ترجمة عبد الرحمن بدوي، دار الأندلس للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 1983، ص3.
* عبد اللطيف شرارة، الفكر التاريخي في الإسلام، ص 83.
* عباس محمود العقاد، فلسفة القرآن، ص 25.
* محمد هيشور، سنن القرآن في قيام الحضارات وسقوطها، ص 198.