قال تعالى : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحۡمِلۡ عَلَیۡنَاۤ إِصۡرࣰا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } [البقرة: 286] .
من خصائص الشريعة الإسلامية التي ميز الله بها المسلمين على سائر الأمم أنه سبحانه جعل شرائع الإسلام سواء في مجال العقيدة أو التشريعات الأخرى تتصف بالتيسير والتخفيف، ورفع الحرج، وكان من أثر هذا التيسير أنه سبحانه تعالى لم يضع في هذا الدين الإصر وهو العمل الشديد الذي يصعب على الإنسان القيام به لما يلحقه من الأضرار، فقد قال الله تعالى: ﴿وَیَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِی كَانَتۡ عَلَیۡهِمۡۚ﴾ [الأعراف: 157]، وكان من دعوات المؤمنين أن يرفع الله عنهم هذا النوع من التكاليف الشاقة، كما في الآية الكريمة ﴿رَبَّنَا وَلَا تَحۡمِلۡ عَلَیۡنَاۤ إِصۡرࣰا كَمَا حَمَلۡتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِنَاۚ﴾ [البقرة: 286]، فما هذا الإصر الذي وضع عن هذه الأمة، وأصبح أمرا اختص به هذه الأمة، ولم يعط أحدا من الأمم الخالية؟
اختلف تأويل المفسرين لحقيقة الإصر إلى عدة معان نذكرها على سبيل الإجمال:
– الإصر هو العهد، قال الطبري: إنما عنى بقوله: (وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا) ولا تحمل علينا عهدا فنعجز عن القيام به ولا نستطيعه =”كما حملته على الذين من قبلنا”، يعني: على اليهود والنصارى الذين كلفوا أعمالا وأخذت عهودهم ومواثيقهم على القيام بها، فلم يقوموا بها فعوجلوا بالعقوبة. فعلم الله عز وجل أمة محمد ﷺ – الرغبة إليه بمسألته أن لا يحملهم من عهوده ومواثيقه على أعمال – إن ضيعوها أو أخطأوا فيها أو نسوها – مثل الذي حمل من قبلهم، فيحل بهم بخطئهم فيه وتضييعهم إياه، مثل الذي أحل بمن قبلهم. [«تفسير الطبري = جامع البيان ط دار التربية والتراث» (6/ 136)].
وعلى نحو هذا المعنى ذهب كل من علي وابن عباس ومقاتل ومجاهد ومجموعة من التابعين.
– الإصر بمعنى الثِّقل، قال الربيع: ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا”، يقول: التشديد الذي شدّدته على من قبلنا من أهل الكتاب. [«تفسير الطبري = جامع البيان ط دار التربية والتراث» (6/ 138)].
واختار هذا المعنى مالك بن أنس، قال ابن أبي زمنين المالكي: مَا كَانَ شدد بِهِ عَلَى بني إِسْرَائِيل؛ وَكَانَ من ذَلِكَ الإصر مَا كَانَ حرَّم عَلَيْهِم من الشحوم، وكُلِّ ذِي ظفر، وَأمر السبت، وكُلُّ مَا كَانَ عهد إِلَيْهِم أَلا يفعلوه مِمَّا أُحل لَنَا. [«تفسير القرآن العزيز لابن أبي زمنين» (1/ 272)].
– الجمع بين المعنيين العهد والثقل، وذلك أن العهد يطلق عليه الإصر لأنه ثقيل، ومنه قال الله تعالى: (وأخذتم على ذلكم إصري) [آل عمران: ٨١] أي عهدي وميثاقي والإصر العطف. قال الرازي: “يقال: ما يأصرني عليه آصرة، أي رحم وقرابة، وإنما سمي العطف إصرا لأن عطفك عليه يثقل على قلبك كل ما يصل إليه من المكاره”.
– ومن المفسرين من يرى غير هذين المعنيين، فيرى أن الإصر هو الذنب الذي ليست له التوبة، والمعنى: اعصمنا من اقتراف هذا النوع من الذنب الذي لا توبة له [اللباب: 4/539].
ويظهر من مذاهب المفسرين أن الإصر في أصله يقصد به الثقل، وسمي العهد أو العقد أو الرحم بالإصر أو آصرة الرحم لأن مسؤولياتها ثقيلة، والذمة لا تبرح مشغولة ما لم يؤد حقها، فقد قال الله تعالى عن العهد بأنه كان مسؤولا، كما قال عن الرحم: ﴿وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ ٱلَّذِی تَسَاۤءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ﴾ [النساء: 1]. وهذا العهد ينطبق على أحكام الدين والتشريعات التي وضعها الله تعالى للإنسان، فكان الإسلام يتصف بالسمحة والتخفيف بدعاء النبي ﷺوسيرته في حياته مع الصحابة، حيث كانوا يرددون الآية.
صور من الإصر الذي وضع على الأمم السابقة
ذكر المفسرون مجموعة من أمثلة الإصر الذي هو الأحكام الشاقة والتكاليف الصعبة التي جاءت في شرائع الأمم السابقة، ثم رفعت عن المسلمين في الشريعة الإسلامية فأصبح من خصائص الإسلام، منها:
- لا توبة على الذنب، فقد قيل لبني إسرائيل الذين عبدوا العجل: لن تقبل توبتكم حتى تقتلوا أنفسكم – أي يقتل بعضكم بعضاً؛ قيل: أنهم أمروا أن يكونوا في ظلمة، وأن يأخذ كل واحد منهم سكيناً، أو خنجراً، وأن يطعن من أمامه سواء كان ابنه.. قال ابن عثيمين: وهذا لا شك تكليف عظيم، وعبء ثقيل.
- تحريم الغنائم، فكانوا إذا جمعوا الغنائم نزلت نار من السماء فأكلتها
- تحريم مجالسة الحائض، فكانت اليهود إذا حاضت المرأة عندهم لم يقربوها
- وإذا أصاب ثوب أحدهم بول قرضه، أي قطع موضع النجاسة بالمقراض.
- تحريم بعض الطيبات من لحوم الإبل والبقر جراء البغي والاعتداء من أهل الكتاب.
وكان من فضل الله على هذه الأمة أن استجاب هذه الدعوات فرفع عنها الأعباء الثقيلة من أمور الدين والتكاليف الشرعية، التي لازمت الأمم السابقة، فكانت سببا في هلاكهم، فاختص التشريع الإسلامي بالتيسير والترخص، فقد ثبت في صحيح مسلم أن الله رفع الإصر عن هذه الأمة، قال ابن عباس: لما نزلت الآية في آخر سورة البقرة، وقرأ النبي ﷺ ” {ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا} [البقرة: ٢٨٦] ” قال: قد فعلت “.