اهتمت الشريعة الإسلامية بمنافع الناس الدينية منها والدنيوية، ولم تقتصر على جانب منها دون آخر، ومن هذه المنافع منافع الحج. ولقد انتشر بين الفقهاء أن الشريعة كلها مصالح إما لدرئها أو تحصيلها، وهذه المنافع أخذت حيزا كبيرا في الفقه الإسلامي، ودارت عليها أحكام التشريع إيجابا ومنعا، وكلمة المصلحة والمنفعة استعملتا مترادفتين، حتى استقر القول على أن المصلحة هي كل منفعة داخلة في مقاصد الشريعة. ففي عبارة الغزالي بيان لأنواع المنافع من حيث الاعتبار وعدمه، فأي منفعة تحقق غرض الشارع فهي مصلحة يجب تحقيقها، وتكثيرها، وأي منفعة تخالف هذا الغرض فإنها لاغية، والمصلحة في ذلك وجوب تعطيلها لأنها مفسدة بالنظر الشرعي.
جاء في المستصفى: أن الأصل في المصلحة هي جلب منفعة أو دفع مضرة.. والمصلحة المحافظة على مقصود الشرع ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة.
وبناء على هذا الاختيار فإن المصلحة هي الحفاظ على المنافع التي توافق أو تحقق مقصود الشارع، والابتعاد عن المنافع التي تعارضه، والمنافع المتعارضة مع مقاصد التشريع هي في الحقيقة مفاسد نهينا عن تحصيل نوعها، بل المصلحة السعي في منعها والإحجام عنها، يقول العز: والشريعة كلها مصالح إما تدرأ مفاسد أو تجلب مصالح.
وإننا عند تعرضنا لفقه الحج الذي يعتبر أحد أركان الإسلام الكبرى نرى بجلاء مقاصده الشرعية وأسراره المقنعةحتى لو كانت ظنية في بعضها لدخولها في مجال الاجتهاد كما هو شأن التفقه والاجتهاد، فالبعض الآخر منها قطعية جاءت تجلياتها صريحة في النصوص الشرعية، من ذلك ما ورد في مقاصد الحج في قوله تعالى: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ)، وكلمة (ليشهدوا) عبارة مجملة تبين علة إيجاب فريضة الحج، واتفق جميع المفسرين أن المنافع هنا تشمل منافع دينية ودنيوية، يقول العز بن عبد السلام: هي شهود المواقف وقضاء المناسك، أو المغفرة، أو التجارة في الدنيا والأجر في الآخرة.
وثبت في الروايات عن ابن عباس أن المنافع هنا منافع الدارين يقول في رواية: (ليشهدوا منافع لهم) أي أسواقا كانت لهم، ما ذكر الله منافع إلا الدنيا.
وفي رواية أخرى: منافع في الدنيا ومنافع في الآخرة، فأما منافع الآخرة فرضوان الله، وأما منافع الدنيا فمما يصيبون من لحوم البدن في ذلك اليوم والذبائح والتجارات.
وقال الزمخشري: نكر المنافع لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادات.. وخصص ذكر الله بين تلك المنافع تنبيها منه على أن الغرض الأصلى فيما يتقرّب به إلى الله أن يذكر اسمه.
ويمكن حمل التنكير هنا على أنه من باب التعظيم، لكثرة ما ينال من الخيرات الدينية والدنيوية في حضور هذه المشاهد الكبرى، فإن في مجمع الحج فوائد جمة للناس، لأفرادهم من الثواب والمغفرة لكل حاج، ولمجتمعهم لأن في الاجتماع صلاحا في الدنيا بالتعارف والتعامل.. (التحرير والتنوير)
وبين ابن عاشور تأويل المفسرين “ليشهدوا” بالمعنى ليحضروا منافع لهم، أنه ليحضروا فيحصلوا منافع لهم إذ يحصل كل واحد ما فيه نفعه. وأهم المنافع.. ما وعدهم الله على لسان إبراهيم عليه السلام من الثواب، فكنى بشهود المنافع عن نيلها. ولا يعرف ما وعدهم الله على ذلك بالتعيين!
ويظهر من تصرف أبي زهرة في تفسيره أنه يفرق بين المنافع و”ذكر الله” فلم يضمنه في المنافع خلافا لرأي مجمل المفسرين، فإنه يثير التساؤل بقوله: ولكن ما هي هذه المنافع التي تسبق ذكر اللَّه بالعبادة والذبح؟
يظهر من هذا التساؤل كأنه يميل إلى التفرقة بين المنافع وذكر الله .. وقد أجاب بنفسه على السؤال قائلا – “نقول: إنه سبحانه وتعالى ذكر المنافع بلفظ نكرة، والتعبير بالنكرة يدل على أنها منافع عظيمة، لَا يقدر قدرها ولا تدرك نهايتها للناس، ونرى أن هذه المنافع مادية ومعنوية وعبادية، وهي سنام المنفعة.
أ- أما المنافع المادية فتجارات تتبادل بين الأقاليم الإسلامية، فأهل كل إقليم يجلبون معهم من مواردهم ما لَا يكون عند غيرهم، فما عند الهنود من خيرات يفيضون به على غيرهم من المسلمين، وما عند المصريين من خيرات يفيضون به على غيرهم ممن ليس عندهم مثلها أو هو قليل، وتعقد في مواسم الحج الصفقات الاقتصادية وذلك ليس بممنوع، بل هو مطلوب، كما قال تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ. . .)، وإن ذلك يجيز بل يوجب أن يعقد في موسم الحج الاتفاقات التجارية، ويتخذ من موسم الحج موعدا للدراسات الاقتصادية بين المسلمين، ولقد كانت في مكة الأسواق التجارية مثل عكاظ وذي المجاز، وغيرهما.
ب – أما المنافع المعنوية، فدراسة التعاون الإسلامي من كل النواحي الاجتماعية والحربية والتعاونية والتعليمية ويعمل كل إقليم على التعرف ببقية الأقاليم الإسلامية والتعريف بحاجاته من العلم والحرب، وغيرهما وكذلك يشعر كل إقليم بأنه يعيش في مدن الأقاليم الإسلامية، ولا يشعر بنفرة الانفراد.
جـ – أما المنافع الدينية، فهي قضاء النسك الإسلامي في أماكن النسك، وإن المنافع السابقة لَا تخلو من أنها دينية، وأنها تكون عبادة إذا قصد بها وجه اللَّه ورفعة الإسلام، وإيجاد الوحدة الإسلامية وتوثيقها، فالمسلمون جميعا أمة واحدة، وبذلك ينتفع الحاج إلى بيت اللَّه الحرام، وهو مزود بالتقوى والمعرفة والأخوة في اللَّه تعالى.
وقوله تعالى: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ) (اللَّه) ذكر الله تسبيحه وامتلاء القلب بالإيمان به، والخضوع له، والخشوع، والضراعة له، وذكر اسمه لهذا أيضا، ولكن يذكر اسم الله على الذبيحة لتكون لله.. الخ” (زهرة التفاسير)
ويظهر أن التعميم الذي مال إليه أبو زهرة والتفرقة بين المنافع وذكر الله تعالى له توجيه سائغ، فالمنافع المشروعة هي التي تحقق مقاصد الشريعة العامة ولا تتصادم في هذا المقام (الحج) مع هدف الذكر والعبادة لله تعالى، وتظهر ثمرة هذه التفرقة حين تحمل المنافع على مصلحة الأمة التي ترتبط بمصالح الدنيا المحضة، وهذا الذي يبدو من الأمثلة التي رافقت هذا الاختيار، وأما ذكر الله فهو أقرب إلى مصلحة خاصة في ذات العبد، فإنه يؤدي المناسك بغاية من الخشوع والضراعة.
ومما يسعفنا على هذا المعنى ما رجحه الألوسي أن التعميم للمنافع بالدنيوية والأخروية أولى، ولا سيما أن النفس قد تأنف عن القيام ببعض الأعمال الدنيوية المعيشية مثل التجارة لما تشتمل طبيعتها عليه من اللغو والرفث، فهذه الآية تكون صريحة في جواز ذلك بضابط ألا يكون الباعث الأصلي من قصد بيت الله هو التجارة.