في عالمٍ تتسارع فيه الأرقام وتتكدس فيه المعلومات، حيث تُقاس قوة الثقافات بمدى حضورها الرقمي، قد تضيع أصواتٌ عريقة وتخفتُ أصداء حضاراتٍ بأكملها. لكن في قلب الدوحة، ومن رحاب المدينة التعليمية النابض بالحياة، انطلقت همسةٌ قوية لتصبح صرخةً في وجه هذا الغياب: همسة مبادرة “بالعربي”، التي حملت على عاتقها مهمة مقدسة، ألا وهي إعادة نسج خيوط التواصل بين الفكر العربي والعالم.
في قلب المدينة التعليمية، حيث تتجسد الأفكار وتتلاقى الثقافات، انطلقت شرارة جديدة لإعادة وهج لغة الضاد إلى الواجهة العالمية. لم تكن مجرد ورشة عمل، بل كانت ملتقى للعقول الشغوفة ولقاءً للأرواح التي تؤمن بأن الترجمة ليست مجرد نقل للكلمات، بل هي بناء للجسور وتقريبٌ للمعرفة وتوسيعٌ لآفاق التفاهم الإنساني.
جسر لإعلاء صوت الثقافة العربية
تحت مظلة مبادرة “بالعربي” التي أطلقتها مؤسسة قطر، اجتمع قرابة 400 متطوع من قطر وأنحاء العالم، يجمعهم شغف مشترك: إعلاء صوت الثقافة العربية وإيصال إبداعاتها إلى كل ركن من أركان المعمورة. في هذا اليوم، تحولت قاعات ملتقى (مركز طلاب المدينة التعليمية) إلى خلية نحل إبداعية، حيث امتزجت خبرة المترجمين البشرية مع دقة تقنيات الذكاء الاصطناعي، في نموذج فريد يضمن الجودة والسرعة في آن واحد.
لم تكن مجرد فكرة عابرة، بل كانت استجابة لنداءٍ عميق، نداء اللغة التي روت حكايات ألف ليلة وليلة، ورسمت خرائط النجوم، وألهمت فلاسفة وعلماء غيّروا وجه التاريخ. هذا النداء استقطب أرواحًا شغوفة، فلبّاه 400 متطوع من قطر وأرجاء المعمورة، من بينهم 80 فارسًا يقيمون على أرض قطر، اجتمعوا لا كفرق عمل، بل كعائلة واحدة يجمعها حب الحرف، وشغف الإبداع، وإيمان راسخ بأن لكل فكرة صوتًا يجب أن يُسمع، وصدى يستحق أن يعبر الحدود.
لم يكن الهدف تدريبًا تقنيًا فحسب، بل كان حوارًا استراتيجيًا حول رؤية المشروع المستقبلية. فُتح الباب على مصراعيه للمتطوعين ليصبحوا شركاء في رسم ملامح المبادرة، وقادة لفرقهم التطوعية، وسفراء يحملون رسالة “بالعربي” إلى العالم.
دفع الله: ترجمة واحدة قد تغيّر مصير فكرة
“إن ترجمة واحدة قد تغيّر مصير فكرة، ويصل أثرها إلى آلاف البشر”، بهذه الكلمات العميقة لخص الدكتور أنور دفع الله، مستشار المبادرة، جوهر المسعى. ففي عالم رقمي شاسع، لا ينبغي أن يظل الفكر العربي حبيس حدوده اللغوية. وأضاف: “نحن لا نترجم الكلمات فحسب؛ فكل جملة ننقلها بوعي وإتقان هي لبنة في صرح التفاهم الإنساني، وخطوة نحو محتوى عربي حيّ يشارك العالم حواره ويثري معرفته”.

ولتحقيق هذا الهدف السامي، لم تترك المبادرة متطوعيها دون دليل. فقد وُضعت خطة متكاملة لدعمهم وتمكينهم، تشمل دليلاً إرشاديًا، ومرشدين متخصصين، وورش عمل مستمرة، ومسرداً للمصطلحات، ونظاماً لمراجعة الأقران يضمن أعلى درجات الجودة. إنها منظومة متكاملة تهدف إلى بناء مجتمع من المترجمين العرب، قادر على سد الفجوة الرقمية وإبراز الإبداع العربي بلغة يفهمها الجميع.
ولأن كل رحلة عظيمة تحتاج إلى قادة، شهدت الفعالية اختيار وتدريب “سفراء بالعربي”. هؤلاء لم يكونوا مجرد مشرفين، بل هم منارات إلهام، يحملون شعلة المبادرة ويقودون فرقهم في رحلة الترجمة والدبلجة والتحرير، مسلحين بدليل إرشادي متكامل، ومساندين بمرشدين خبراء، ومشاركين في حوارات مستمرة تضمن ألا تنطفئ جذوة الحماس أبدًا.
للأفكار صوت وصدى
اليوم، تتجسد هذه الرؤية في مبادرة “بالعربي”، التي انطلقت تحت شعارها الملهم: “للأفكار صوتٌ وصدى”. إنها ليست مجرد مشروع لتقليص فجوة المحتوى الرقمي، بل هي دعوة مفتوحة لكل ناطق بلغة الضاد ليشارك العالم قصصه وإبداعاته. هي حراكٌ نابضٌ يستلهم قوته من تاريخ وهوية مشتركة، ويهدف إلى إحياء التفاعل الثقافي وتعميق الحوار الفكري، ليثبت للعالم أن اللغة العربية ليست لغة الماضي فحسب، بل هي لغة الحاضر والمستقبل، قادرة على العطاء والإلهام والمشاركة في بناء عالم أفضل للجميع.
هذه المبادرة وضعت خطة متكاملة لإشراك المتطوعين ودعمهم، إذْ شملت إعداد دليل إرشادي للترجمة وقواعدها وأساليبها وأدواتها، مع تعيين مرشدين لدعم المتطوعين الجدد، وتقديم ورش عبر الإنترنت حول أفضل ممارسات الترجمة، وإعداد مسرد مصطلحات لأهم العبارات المستخدمة، هذا بالإضافة إلى تنظيم لقاءات افتراضية وجلسات نقاشية واستبيانات دورية، وتطبيق نظام مراجعة الأقران لضمان جودة الترجمات، وتسليط الضوء على المشاركين المتميّزين وتقديم شهادات تقدير، وإتاحة فرص لحضور فعاليات “بالعربي”.
وتأتي هذه الورشة ضمن حملة أوسع أطلقتها المبادرة لتقليص الفجوة في المحتوى العربي على مستوى المنصات العالمية، وإبراز الإبداع العربي بلغة يفهمها الجميع. وتشير الدراسات إلى أنّ إضافة الترجمة ترفع مدّة المشاهدة بنسبة 50 في المائة، وتزيد من مشاركة المحتوى ثلاثة أضعاف، وتُحسّن الفهم بما يقارب 38 في المائة.
مؤسسة قطر .. 30عاما لإطلاق قدرات الإنسان
تأتي هذه الجهود امتدادًا لمساعي مؤسسة قطر، التي تعمل منذ ثلاثين عامًا على إطلاق قدرات الإنسان، وتجسيدًا لشعار المبادرة الملهم: “للأفكار صوتٌ وصدى”. فمن خلال هذه الأصوات الشابة، وهذا الحراك النابض بالحياة، يُعاد للغة الضاد بريقها، لتصبح لغة للحوار العالمي، ومنارة للمعرفة، وجسرًا للتفاهم بين الأمم.
هذا الحراك لم يأتِ من فراغ، بل هو امتداد طبيعي لرؤية مؤسسة قطر في استثمار العقول التي ستبني المستقبل. فمنذ تأسيسها على رؤية حكيمة لصاحب السمو الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني وصاحبة السمو الشيخة موزا بنت ناصر، أصبحت المؤسسة منظومة فريدة تتيح التعلم مدى الحياة، وتصنع الابتكار، وتمكّن الأفراد من إحداث تغيير إيجابي في مجتمعاتهم.

ومؤسّسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع هي مؤسّسةٌ غير ربحية تدعم استدامة التنمية البشريّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة في دولة قطر منذ ثلاثين عامًا، وذلك خلال الكيانات والمراكز التابعة لها ومبادراتها وبرامجها التي تتمحور حول التعليم، والعلوم والبحوث وتنمية المجتمع.
تتميز منظومة مؤسّسة قطر بتنوّعها وتكاملها بالتعليم النوعيّ الذي تقدّمه في كافّة المراحل التعليمية، بدءًا من الروضة وصولًا إلى ما بعد الدكتوراة، ومراكز البحوث والابتكار والسياسات التي تعمل على ابتكار الحلول لأبرز التحديات المعاصرة، فضلًا عن المرافق المجتمعيّة التي توفر مصادر المعرفة لمختلف الفئات العمريّة، وتشجيعهم على تبني أنماط حياةٍ صحيّة، وتوسيع آفاق التعلّم لديهم في بيئةٍ مفتوحةٍ وجاذبةٍ؛ تحتضنها المدينة التعليمية الممتدّة على مساحة 12 كيلومترًا بالدوحة، قطر.
تُركّز مؤسسة قطر في مساعيها على خمسة محاور رئيسة: التعليم التقدّميّ، والاستدامة، والذكاء الاصطناعيّ، والرعاية الصحيّة الدقيقة، والتقدّم الاجتماعيّ، مع التزامها المستمرّ- منذ ثلاثين عامًا- بالاستثمار في قطر وشعبها من أجل بناء عالم أفضل للجميع.
تنزيل PDF