محبة النبي من أعظم شعائر الإسلام، وتتمثل في اتباع سنته وتوقيره. في هذا المقال، نستعرض مظاهر احتفاء العلماء بالنبي عبر الأجيال، بدءًا من الصحابة الكرام وصولًا إلى سلف الأمة، حيث تجسدت محبتهم في سلوكهم، اشتياقهم وتقديرهم لمكانته. تعرف على كيف أثرت هذه المحبة في حياتهم اليومية وكيف كانوا يعظمون ذكره ويلتزمون بهديه.

محبة واحتفاء العلماء بالنبي

من أعظم علامات محبة النبي عليه الصلاة والسلام توقيره والاحتفال بسنته وهديه، كما هو سبيل الصحابة الكرام، وبه فازوا وقاداو، ثم أتى التابعون ومن بعدهم بالإحسان واحتفوا بالنبي عليه الصلاة والسلام أيما احتفاء، وقدروه وعظموه تعظيما يليق بمنزلته. ويتمثل هذا الاحتفاء والاحتفال من السادة العلماء في جانين رئيسين يمكن الاقتداء بهديهم وسمتهم فيهما، فالمرء مع من أحب يوم القيامة.

فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه ” كلمة طيبة ينوه بها الحسن البصري رحمه الله لمدى شدة الاشتياق والحنين إلى الحبيب ، وكان يقولها في الملأ: “يا معشر المسلمين الخشبة تحن إلى رسول الله شوقاً إلى لقائه، فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه [1]

ويعنى بحنين الخشبة ما ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة فقالت امرأة من الأنصار أو رجل: يا رسول الله ألا نجعل لك منبرا قال: “إن شئتم” فجعلوا له منبرا، فلما كان يوم الجمعة دفع إلى المنبر فصاحت النخلة صياح الصبي، ثم نزل النبي - فضمها إليه تئن أنين الصبي الذي يسكن، قال: “كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها[2].

ويظهر شديد الشوق لرؤيته عليه الصلاة والسلام ولقائه في أفعالهم وأقوالهم، وفي مشاعرهم عامة.

اشتياق الصحابة والتابعين للنبي

وهذا ثابت البناني، كان إذا رأى أنس بن مالك خادم النبي أقبل عليه وقبل يده ويقول: “إنها يد مست يد رسول الله ”، وكان أنس يقول لجاريته: يا جميلة ناولتني طيبا أمس به يدي، فإن ابن أبي ثابت لا يرضى حتى يقبل يدي، يقوليد مست يد رسول الله [3].

ويقول جبير بن نفيل رحمه الله: “جلسنا إلى المقداد بن الأسود رضي الله عنه يوماً فمر به رجل فقال: “طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله، لوددنا أننا رأينا ما رأيت وشهدنا ما شهدت”[4].

وقلما كان خالد بن معدان – وهو من سادات التابعين – يأوي إلى فراشه إلا وهو يذكر شوقه إلى رسول الله وإلى أصحابه من المهاجرين والأنصار، ثم يسميهم، ويقول: “هم أَصْلي وفَصْلي، وإليهم يحن قلبي، طال شوقي إليهم، فعجل رب قبضي إليك”. حتى يغلبه النوم[5].

وقال محمد بن سيرين لعبيدة السلماني: “إن عندنا من شعر رسول الله شيئا من قبل أنس بن مالك”.

فقال عبيدة: “لأن يكون عندي منه شعرة أحب إلي من كل صفراء وبيضاء على ظهر الأرض”.

قال الذهبي: “هذا القول من عبيدة هو معيار كمال الحب، وهو أن يؤثر شعرة نبوية على كل ذهب وفضة بأيدي الناس[6].

يقول عليه الصلاة والسلام: «من أشد أمتي لي حبا، ناس يكونون بعدي يود أحدهم لو رآني، بأهله وماله»[7].

فثمرة صدق الشوق والحب للنبي عليه الصلاة والسلام عند هؤلاء البررة هي التي أثرت في سلوكهم وجوارحهم وسيرهم كما تراها في الجانب الثاني من المقال.

تعظيم السنة النبوية وتوقير العلماء لها

قد بلغت هيبة النبي محمد في قلوب أئمة سلف الأمة مبلغاً عظيما وأعظمت مكانته حتى أثرت على وجوههم وأحوالهم كلها، ولا يكاد يُذكر اسم النبي لديهم إلا تغيرت أجسامهم وتنعكس مقامهم إجلالا وتقديرا لمكانته عليه الصلاة والسلام وسنته، ومن صور ذلك:

مواقف العلماء في التعامل مع الحديث النبوي

الأمر بالإنصات عند الحديث عن النبي

ومن تعظيم جناب النبي عليه الصلاة والسلام عند العلماء السابقين؛ أمرهم للناس بالسكوت في حلقة التحديث ووجوب الاستماع قلبا وقالبا، وكان حماد بن زيد يقول في قوله: {لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} [الحجرات: 2]

قال: أرى رفع الصوت عليه بعد موته، كرفع الصوت عليه في حياته، إذا قرئ حديثه، وجب عليك أن تنصت له، كما تنصت للقرآن يعمر[8].

وكان عبد الرحمن بن مهدي لا يتحدث في مجلسه، ولا يبرى فيه قلم، ولا يبتسم أحد، فإن تحدث أو برى قلما، صاح ولبس نعليه ودخل، وكذا يفعل ابن نمير، وكان من أشد الناس في هذا، وكان وكيع أيضا في مجلسه كأنهم في صلاة، فإن أنكر من أمرهم شيئا انتعل ودخل، وكان ابن نمير يغضب ويصيح، وكان إذا رأى من يبري قلما، تغير وجهه[9]، ويفعلون كل هذا امتثالا واتباعا للآية الكريمة.

كراهية التحديث في حالة الاضطجاع

ورد عن سعيد بن بن المسيب سيد التابعين أنه سئل مرة عن حديث وهو مريض وكان مضطجعا فجلس وحدث، فقال له السائل: وددت أنك لم تتعن، فقال: «إني كرهت أن أحدثك عن رسول الله وأنا مضطجع»[10]  وفي رواية قال لجلسائه: “أقعدوني، فإني أعظم أن أحدث بحديث رسول الله وأنا مضطجع”[11].

كراهية الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام في حالتي المشي والقيام

سئل سعيد بن جبير – أحد كبار تلاميذ ابن عباس- عن حديث، بعد ما قام من مجلسه فقال: “إنه ليس كل حين أحلب فأشرب”[12].

وسأل رجل ابن المبارك عن حديث وهو يمشي، فقال: “ليس هذا من توقير العلم”[13].

وكذا كان الإمام مالك لا يجيز لنفسه الرواية ولا التحديث في حالة القيام أو المشي، وقد مر يوما على أبي حازم الزاهد وهو يحدث فجازه، فقال: “إني لم أجد موضعا أجلس فيه فكرهت أن آخذ حديث رسول الله وأنا قائم”.

ولما قيل لمالك: لم لم تكتب عن عمرو بن دينار؟ قال: “أتيته والناس يكتبون عنه قياما، فأجللت حديث رسول الله أن أكتبه وأنا قائم”.

ومرة سأله ابن مهدى في الطريق عن حديث فقال مالك: “هذا حديث عن رسول الله ، وأكره أن أحدثك ونحن نستطرق الطريق، فإن شئت أن أجلس وأحدثك به فعلت، وإن شئت أن تصحبني إلى منزلي وأحدثك به فعلت، قال: فصحبته إلى منزله فجلس وتمكن ثم حدثني به[14].

كراهية التحديث على غير طهارة

نقل الإمام قتادة عن السلف كراهة التحديث على غير الطهارة، حتى كان الأعمش إذا أراد أن يحدث على غير طهور تيمم[15]، واشتهر عن مالك أنه إذا أراد أن يحدث بحديث رسول الله اغتسل وتطيب ولبس أحسن ثيابه، ثم خرج وعلاه الوقار والهيبة، وتمكن في جلوسه فحدث وزَبرَ من يرفع صوته[16]، وكانوا يلتزمون بهذا الهدي والصمت في عامة حياتهم إجلالا لمكانة حديث رسول الله .

صور من توقير السلف لذكر النبي

البكاء عند الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام

كان محمد ابن المنكدر سيد القراء، لا يكاد يسأل عن حديث أبداً إلا وهو يبكي حتى يرحمه الناس من كثرة بكائه، وكذا عامر بن عبد الله بن الزبير – وكان من سادة التابعين- فإذا ذكر عنده النبي بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع.[17]

وسئل مالك عن أيوب السختياني فقال: “حج حجتين فكنت أرمقه، ولا أسمع منه، غير أنه كان إذا ذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم بكى حتى أرحمه، فلما رأيت منه ما رأيت كتبت عنه”[18].

تغير الحال عند الحديث عن النبي

  • لقد كان  جعفر بن محمد الصادق كثير الدعابة والتبسم، ولكن إذا ذكر عنده النبي اصفر.
  • وعبد الرحمن بن القاسم من أئمة المدينة، يذكر النبي ، فينظر إلى لونه كأنه نزف منه الدم، وقد جف لسانه في فمه، هيبة لرسول الله [19].
  • وكان ابن سيرين إذا ذُكر عنده حديث رسول الله وهو يضحك خَشَع[20]
  • وجاء عن قتادة أنه كان إذا سمع الحديث أخذه العويل – أي البكاء مع الصوت- والزويل حتى يحفظه.[21]
  • والإمام الزهري كان من أهنأ الناس وأقربهم، فإذا ذكر عنده النبي فكأنه ما عرفك ولا عرفته.[22]
  • وعن ابن المبارك قال: “كنت عند مالك وهو يحدث فجاءت عقرب فلدغته ست عشرة مرة ومالك يتغير لونه ويتصبر ولا يقطع حديث رسول الله ، فلما فرغ من المجلس وتفرق الناس قلت له: لقد رأيت منك عجبا، قال: نعم إنما صبرت إجلالا لحديث رسول الله [23].

اتباع هدي النبي في حياة العلماء

التمسك بالهدي النبوي في جميع أحيانهم

لقد ضرب لنا أئمة الإسلام وأعلام الأمة أروع مثل في اتباع سنة النبي عليه الصلاة والسلام قولا وعملا ودعوة، واستنوا بصغير السنة وكبيرها، وكانوا يقولون: كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به، حتى قال الإمام سفيان: “إن استطعت ألا تحك رأسك إلا بأثر؛ فافعل”[24]،  ويقول: “ما بلغني عن رسول الله حديث قط إلا عملت به ولو مرة”.[25]

والإمام أحمد يقول: “ما تركت حديثاً إلا عملت به”، وهو صاحب المسند الحاوي لحوالى ثلاثين ألف حديث.

شدة إنكارهم وغضبهم لمن عارض هدي النبي

وقد التزم سلف الأمة منهج التسليم والانقياد وعدم المعارضة بأدنى رأي على هدي الرسول حتى في الأمور قد يظن ظان أنها تافهة وهي عندهم من أعظم الفتن.

ومن ذلك ما قاله الزبير بن بكار أنهسمع مالك بن أنس وأتاه رجل فقال يا أبا عبد الله: من أين أحرم؟

قال : من ذي الحليفة من حيث أحرم رسول الله .

فقال: إني أريد أن أحرم من المسجد .

فقال  لا تفعل .

قال: إني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر.

قال: لا تفع ، فإني أخشى عليك الفتنة.

قال: وأي فتنة في هذا؟ إنما هي أميال أزيدها

قال: وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله ، إني سمعت الله يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.[26]

وحدث عبد الله بن المبارك مرة بحديث: “لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن.. الحديث، فقال قائل: ما هذا؟! على معنى الإنكار، فغضب ابن المبارك وقال: يمنعنا هؤلاء الأنان أن نحدث بحديث رسول الله ، أكلما جهلنا معنى حديث تركناه؟ لا بل نرويه كما سمعنا، ونلزم الجهل أنفسنا. [27]

أهمية محبة أهل بيت النبي وأصحابه في حياة السلف

حبهم لأهل بيته وأصحابه والذب عنهم

إن من بداهة القول الحاكمة أن محبة النبي تقتضي محبة أهل بيته وصحبته، وأن توقيره تلتزم توقيرهم، وأن الدفاع عنه يوجب دفاعا عنهم.

قال القاضي عياض رحمه الله: “ومن توقيره وبره بر آله وذريته وأمهات المؤمنين أزواجه كما حض عليه وسلكه السلف الصالح رضي الله عنهم.[28]

وقال أيضا: ومن توقيره وبره توقير أصحابه وبرهم، ومعرفة حقهم، والاقتداء بهم، وحسن الثناء عليهم، والاستغفار لهم، والإمساك عما شجر بينهم ومعاداة من عاداهم، … ولا يذكر أحد منهم بسوء،.. بل تذكر حسناتهم وفضائلهم وحميد سيرهم.. ويسكت عما وراء ذلك.[29]

وهذا الذي ذكره القاضي عياض رحمه الله تعالى يلخص لنا موقف السلف من أهل بيت النبي وأصحابه ومعرفة مكانتهم وذب عنهم، وأن ذلك من حفظ مكانة النبي ووصيته.

دفاع العلماء عن السنة والمحدثين

إجلال أئمة للسنة والعاملين بها

إن توقير وتعظيم أئمة السنة والحديث من تعظيم الرسول ، لأنهم عُرفوا بحبهم للنبي ، وببذلهم الأموال والأنفس في نشر سنته وتبليغها إلى الأمة، ولأنهم مثلوا سداً منيعاً في وجه كل عابث ومتعد على سنته ، ومن ثم استحقوا التعظيم والتوقير الخاص دون غيرهم، بل يتحتم الدفاع عنهم من كل ما قد يؤدي إلى تنقيصهم والحط من منزلتهم، حفاظا لمكانتهم في الدين ولحرمة النبي فيهم، ولا سيما أنهم جسر الذي عن طريقه وصل الدين صافيا ومصفى، ومن يريد هدم هذا الجسر أو طعن فيه وإنما يريد في الحقيقة أن يقضي على أسس الدين، ولهذا جعل العلماء حبهم علامة للاتباع وبغضهم علامة للزيغ.

يقول أبو رجاء قتيبة بن سعيد: “فإذا رأيت الرجل يحب سفيان الثوري، ومالك بن أنس، والأوزاعي، وشعبة، وابن المبارك، وأبا الأحوص، وشريكا، ووكيعا، ويحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي، فاعلم أنه صاحب سنة.[30]

حماية سنة النبي والدفاع عنها

حظيت السنة النبوية بعناية فائقة لدى سلف الأمة فقاموا بحمايتها ورعايتها يبرز ذلك من خلال الوسائل الآتية:

أكتابةالحديثوحفظه وخاصة عند: 1- انتشار الروايات وطول الأسانيد  ٢- وموت كثير من حفاظ السنة ٣- وظهور البدع والأهواء وفشو الكذب.

فزاد حرصهم في تدوين السنة النبوية جراء هذه الأسباب حفاظا عليها وحماية لها من أن يدخل فيها ما ليس منها.

بالرحلةفيطلبالحديث.

كانت الرحلة في طلب الحديث المنة الإلهية الواضحة على هذه الأمة، وقد كان لرحلاتهم الحديثية أثر جليل في المحافظة على السنة وجمعها.

جالتمييزبينالصحيحوالسقيممنالأحاديث، وتنقيحها من كل ما يكدر أو يشوه مكانة الرسول عليه الصلاة والسلام.

ولله در أئمة الإسلام السابقين بالخيرات، فتصرفاتهم ترجمت لنا حقيقة الاحتفال بالنبي عليه الصلاة والسلام وأنه هو الوقوف واللزوم بسنته وهديه عليه الصلاة والسلام دون الغلو ولا الجفاء.

قال ابن وهب: كنا عند مالك فذكرت السنة، فقال مالك:” السنة سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق”.[31]