تراث الأمم ليس ماضيًا انتهى دوره وتأثيره، وإنما هو أساس صلب ممتد في حاضرها، وقد نشأ “تحقيق التراث” علامةً على أهمية التراث وضرورة العناية به. وكان “تحقيق التراث ودراسته هو السبيل الحقيقي لبيان صحة نسبة الجهود لأصحابها”، كما يقول محمد صالح فرحات، الباحث المصري في التراث والتحقيق.
وأوضح فرحات في حواره مع ” إسلام أون لاين ” أن التراث العربي هو أحد رموز وحدة الأمة؛ فمصر مثلاً أول من نشر (تاريخ بغداد) للخطيب البغدادي، و(الـمُغْرِب في حُلَى الـمَغْرِب) لابن سعيد الأندلسي.. كما بيّن أن إحياء التراث لا ينحصر في نشر نصوصه وطباعتها؛ فإحياء ألفاظنا العربية وتعبيراتنا وأخبارنا في المقالات والروايات والأشعار الجديدة، من الإحياء أيضًا.. فإلى الحوار:
– شروط المحقق أخلاق سامية ومعارف مناسبة للموضوع
– في مراحل التحقيق لا شيء ينافس جمع الأصول ودراستها
– جهود المستشرقين منها النافع ومنها ما أريد به غير ذلك
– ثورة الاتصالات أتاحت في عالم التحقيق ما كان ممنوعًا
نود أن نبدأ من توضيح المقصود بــ”التحقيق”.
التحقيق” هو إخراج نص من حالة المخطوط عسرة القراءة، عزيزة الوجود، إلى عالم المطبوعات المتداولة يسيرة التعامل والإحالة عليها؛ وذلك بإثبات نصّه بالرسم الإملائي المتواضع عليه الآن، يتميز فيه الشعر من النثر من القرآن الكريم من الحديث النبوي الشريف، تتخلله علامات الترقيم، ناجيًا من الأسقاط والتحريفات والتصحيفات- قدر المستطاع- مع تقسيمه لفقرات وفصول.
ويُصدّر تحقيق النصّ بتعريف تام لمؤلفه: حياته، وشيوخه وتلاميذه، ومصنفاته، ونسبة النصّ له إثباتًا أو نفيًا بالأدلة، مع وصف علمي دقيق للأصول المعتمدة في النشر مصحوبًا بصور نماذج منها، ويُذيَّل التحقيق بالفهارس المناسبة لمحتوى النص.
بالطبع، هذا تعريف لتلك الصناعة لا بيان لكيفية عملها؛ من جمع الأصول ودراستها لتحديد منازلها ومحلّها من الاستخدام أو الاستبعاد، ثم معارضتها لإثبات النص عما انتخبناه منها، وتنقية النصّ مما قد لحق به من تحريف أو تصحيف أو سقط أو دسٍّ- مُتعمّد أو عارض- مع تخريج النصّ من مصادر التراث العربي.
كيف بدأ اشتغالكم بالتحقيق؟
بدأ اهتمامي بالتحقيق بعد تعرفي على فئتين من المشتغلين بالتراث العربي: المستشرقين الأعاجم، وأعلام المحققين العرب.
لقد كان وجود الاستشراق صدمة هائلة لي، زاد شدة وقعها عليّ تحقيقُهم لعيون التراث العربي وأصوله؛ إذ تفجرت تساؤلات كثيرة داخلي: لماذا يهتمون بتراثنا؟ كيف وصل إليهم تراثنا القديم؟ كيف يتعاملون مع تلك الخطيّات العتيقة؟ ما مصادر معرفتهم؟ أصابوا في أعمالهم أم أخطأوا؟ مآربهم؛ علمية أم غير علمية؟… إلى غير ذلك من تساؤلات توصلت لإجاباتها بعد أن دخلت هذا المجال الرحب..
وأما أعلام المحققين العرب؛ فأخذتني- وأنا شابٌ يجذبه كل مختلف مميز- سيرةُ محمود شاكر وقراراته القاطعة، وما خالف الدنيا فيه ثم ظهر ما ينصر مذاهبه..
وعبد السلام هارون صاحب الإنجازات العظيمة التي تنوء بها العصبة أولو القوة..
والسيد أحمد صقر ذو النظرات السديدة محققًا وناقدًا..
ثم تلميذهم محمود الطناحي الذي بسط أمام جلينا تاريخ نشر التراث العربي في صدق وأمانة؛ فحوله إلى ملحمة أبطالها المحققون والناشرون والمصححون، ووقائعها جولات في إخراج النصوص ونقد تحقيقها تتناصى فيها الحجج وتتصارع الأفكار والمذاهب..
لقد استولى عليّ تمامًا هذا العالم وأصبح همّي المقعد المقيم.. أعجبني رجاله، وشغلتني جهودهم؛ التي طفتُ أمصار مصر أجمع آثارهم وأعود بها إلى ركن بيتي أطالعها مرة بعد أخرى، أستخرج منها خبرهم وما يمكنني به مواصلة مسيرتهم..
فعثرتُ على تحقيق كامل لديوان كعب بن زهير أرسله عبد العزيز الميمني من الهند ليطبع بمصر قبل الحرب العالمية الثانية، فآل إلى دار الكتب المصرية؛ فظل بها عقودًا إلى أن استعملني الله فنشرت دار الكتب المصرية الطبعة الأولى منه سنة ٢٠١٤م بعنايتي، ونشرت دار الفاروق بالمنصورة الطبعة الثانية منه ٢٠٢٣م مصدرة ببحث خطير عن الأصول الخطية لذلك الديوان..
كذلك دفعني نقد السيد أحمد صقر لنشرة الشيخ أحمد شاكر لكتاب (الشعر والشعراء) لابن قتيبة، إلى تحرير هذا الأمر العجيب بناءً على الأصول الخطية لهذا الكتاب؛ فإذا بكشف خطير يبرز لأول مرة بوضوح تام: فابن قتيبة ألف كتابه هذا عدة مرات وقد غيّر وبدّل وزاد ونقص وبتر ووصل، من أول عنوان الكتاب إلى خاتمته. وهو أمر نوه به المستشرق دي غويه على نحو لم يتنبه له الشيخ أحمد شاكر الذي لم يرجع إلى أية خطية في نشرته لهذا الكتاب، فجاءت نشرته صورة محسنة لنشرة دي غويه، لكنها جمعت الناسخ إلى المنسوخ، والمثبت في الإخراجة الأخيرة إلى المحذوف من الإخراجة الأولى.
فصنعتُ بحث الحقائق الغائبة حول كتاب الشعر والشعراء لابن قتيبة وإصلاح طبعة الشيخ أحمد شاكر، نشرته مجلة تراثيات في المجلد الثامن عشر لها..
وماذا عن إنتاجكم في التأليف والتحقيق؟
لي كتابان مؤلفان هما: (مفهوم التحقيق- الغاية والأداة)، و(نبش أوراق الميمني)؛ أعتز بهما غاية الاعتزاز.
أولهما أردت به تبيان المقصود بالتحقيق، وسيلته وغايته.. توسعت في تقدمة الأمثلة لمن أصاب ومن أخطأ؛ ليتضح الأمر تمامًا أمام القاصدين هذه الصناعة: تحقيق النصوص ونشرها.
أما ثانيهما فقد توطدت علاقتي بعبد العزيز الميمني؛ تحقيقاته ومقالاته وأسلوبه في العمل.. فسبرت غوره وخبرت أمره حتى انحلت أمامي كثير من تعقيداته، وانكشفت كثير من غوامضه، ورأيته رجلاً فردًا لم ينل حقه على كونه صاحب فضل عظيم على محققي التراث العربي الأدبي.. فتفرغت له سنوات حتى صنعت له صورة لعلها أقرب إلى الكمال والصحة، وعسى أن يحظى الرجل بما يستحق.
وفي مجال التحقيق نشرت (فحولة الشعراء عن الأصمعي)، وبمقدمة التحقيق مباحث خطيرة عن طبيعة هذا النص وعن أصوله وعن مفهوم الفحولة لدي الأصمعي وعن نسبة النص.. كما نشرت ثلاث رسائل عن طلب العلم لأبي هلال العسكري وابن الجوزي والزرنوجي.. ونشرت مقالات أحمد تيمور باشا التي سماها نوادر المخطوطات.
وصنعت عدة مقدمات علمية لتحقيقات قديمة أعادت دار الفاروق بالمنصورة نشرها.. وأخرجتُ عن النسخة الشخصية للدكتور محمود الطناحي من تحقيقه للنهاية لابن الأثير، نشرة جديدة لهذا التحقيق، أثبت فيها حواشي نسخته هذه.
ولي مقالات علمية نشرت في مجلة معهد المخطوطات العربية بالقاهرة، ومجلة تراثيات الصادرة عن مركز تحقيق التراث بدار الكتب المصرية، ومجلة أبحاث الكتاب العربي المخطوط الذي تصدره سنويًّا وزارة الشباب والثقافة بالمملكة المغربية.
والقاسم المشترك الأعظم بين مقالاتي كافة هو كشف مجهول أو توضيح غامض، أو إبراز مستتر حول التراث العربي.
ما الأهمية التي يمثلها تحقيق المخطوطات، لاسيما من زاوية إحياء التراث أو استعادته وتفعيله؟
أهمية تحقيق النصوص ونشرها، هائلة لا يمكن حصرها؛ فتحقيق التراث ودراسته هو السبيل الحقيقي لبيان صحة نسبة الجهود لأصحابها، فقد طبع كتاب باسم نقد النثر منسوبًا لقدامة بن جعفر، وظل الناس ينسبون ما فيه من آراء له، إلى أن تم كشفت الحقيقة؛ فالكتاب هو (البرهان في وجوه البيان) لابن وهب، وكل ما نسبه الباحثون لقدامة اعتمادًا عليه يجب تبرئته منه..
إن التراث العربي أحد رموز وحدة هذه الأمة؛ فنحن في مصر أول من نشر (تاريخ بغداد) للخطيب البغدادي، كما كنا أول من نشر (الـمُغْرِب في حُلَى الـمَغْرِب) لابن سعيد الأندلسي.
على أن إحياء التراث لا ينحصر في نشر نصوصه وطباعتها فحسب؛ فإحياء ألفاظنا العربية وتعبيراتنا وأخبارنا في المقالات والروايات والأشعار الجديدة، من الإحياء أيضًا.
ما أهم الشروط التي ينبغي توافرها في المحقق؟
شروط المحقق أخلاق سامية ومعارف مناسبة للموضوع المنتمي إليه النص الذي يريد تحقيقه؛
فالمحقق يجمع أصول النص ويقبع خاليًا وحيدًا يثبت عنها ما سيخرج في صورة المطبوع.. فلو كان خائنًا للأمانة فحذف من النص ما لا يوافق ما ينتمي إليه من مذهب أو نحلة؛ فإنه سيضل الناس بعلمٍ، ويحمل إثمًا عظيمًا، ووصمة عارٍ لا تُغفَر ولا تُنسَى.
كذلك يجب أن يتمتع المحقق بحظٍّ مناسب من المعارف المتعلقة بموضوع النصّ الذي يريد نشره، وإلا فكيف سيميز الصحيح من السقيم!
على أنه لا نصيب في صناعتنا هذه، لمبخوس الحظ في اللغة العربية وعلومها..
وماذا عن مراحل التحقيق؟
في مراحل التحقيق، لا شيء ينافس جمع الأصول ودراستها صدارةً في هذه الصناعة.. وكل من بدأ بغيره، خرجت نتائج عمله مضطربة متناقضة. ولذا، كان نقد الدكتور علي جواد الطاهر لتحقيق الدكتور إحسان عباس لكتاب (وفيات الأعيان) لابن خلكان شديدًا مصيبًا؛ لأنه بدأ العمل والنشر دون جمع الأصول ودرسها.. تأتي بعد ذلك خطوات المعارضة، والتخريج، وغيرها؛ لتصحيح النص وضبطه، ثم التقديم والفهرسة.
على مدى القرن الفائت نشطت جهود التحقيق وأنتجت ثمارًا يانعة.. ما أبرز محطات ذلك وأعلامها؟
محطات تحقيق التراث العربي ونشره تبدأ من عند المستشرقين؛ فهم أول من جمع الأصول الخطية واستعملوا معها قواعد خبروها جراء نشرهم للتراث اليوناني، فأخرجوا لنا مطبوعات تتلمذت عليها أجيال المحققين الأعلام..
ثم تأتي مرحلة مطبعة بولاق الأميرية المصرية. ونظرة بعضنا السلبية لها ظالمة؛ فقد بذل القوم وسعهم وأخرجوا مطبوعات ضخمة في فترة وجيزة بصورة صحيحة في مجملها ينقصها بعض الإجراءات العملية فحسب، وإني لأهتبل الفرصة لأحيي ذكر حسن باشا حسني ناظر مطبعة بولاق، الذي كان يسارع إلى أصحاب المكتبات الخاصة يستعير منهم ما يسدّ ثلم الأسقاط التي كان مصححو النصوص يعلمونه بوقوعها بالأصول التي يخرجون عنها نشرات المطبعة.
ولِمَا تتمتع به مصر من منزلة في إنتاج الثقافة العربية، نزلها جماعة من أفاضل أهل الشام ليشاركوا في إثراء الحياة الثقافية بها؛ فمنهم من أنشأ دورًا للطباعة لم تلبث أن أخرجت نشرات جيدة للتراث العربي قريبة من المنهج العلمي المرتضى في تلك الصناعة. منهم: محب الدين الخطيب، ومحمد منير الدمشقي، وعبد العزيز الخانجي.
ويتزامن مع حلول هؤلاء مصر وبداية نشاطهم، التفات طائفة من أعيان الأمة وأثريائها إلى الاهتمام بجمع التراث العربي المخطوط أصليًّا أو مصوّرًا؛ وقد هيأت لهم خبراتهم معرفة الجدير بالحيازة منه. وبذلك توفرت الأصول كما وجدت المطابع التي يمتلكها رجال متحمسون لنشر تراث أمتهم؛ ويأتي على رأس هؤلاء الأعيان أحمد تيمور باشا، وأحمد زكي باشا، وحسن حسني عبد الوهاب التونسي..
في تلك الأثناء، كانت طائفة من شباب الأمة تقارن بين النشرات الغربية والنشرات العربية لكتب التراث، وتطالع المقالات التي تنشرها الصحافة المصرية حول النشر العلمي وضوابطه، وقيام لجنة التأليف والترجمة والنشر بالقاهرة بإخراج تحقيقات جليلة أبرزها (سمط اللآلي) للبكري تحقيق عبد العزيز الميمني. كل ذلك أثمر تحقيقات أحمد شاكر وعبد السلام هارون ومحمود شاكر والسيد أحمد صقر؛ الذين انتقل نشر التراث العربي على يديهم إلى محل آخر شريف.
وما مآلات هذه الجهود، لاسيما أن “صناعة التحقيق” انتسب لها من لم يستوفِ المؤهلات؟
لا شك في دخول حلبة التحقيق أدعياء دخلاء لصوص؛ فقد انتشرت دور نشر لا يبالي أصحابها بسمعتهم. وبالمال وجدوا من يدلس محاولاً محاكاة نشرات الأعيان بأباطيل يقمشها من هنا وهناك؛ فتخرج المطابع تحقيقات لم تعتمد على أصول خطية، وليست وراءها جهود علمية حقيقة، بل أكاذيب وانتحال؛ ولئن انخدع فيها الأغرار المبتدئون، فالخبراء لا يخدعهم هذا البهرج الزائف.
والمصير معروف؛ فهذه النشرات لا مستقبل لها. وكما ظهرت تختفي لا تترك أثرًا سوى العار لأصحابها، حتى صارت لدينا دور للنشر لا يقترب من طبعاتها أحد.
كيف ترى جهود المستشرقين في مجال التحقيق؟
جهود المستشرقين منها النافع ومنها ما أريد به غير ذلك؛ فالطائفة التي كانت تحركها الرغبة المجردة في العلم منهم آثارهم باقية نافعة، وأما الذين كانت تدفعهم نوازع مشوبة بالتعصب والرغبة في النيل من الإسلام لغته وتاريخه وحضارته، فدفعت بعضنا أيضًا إلى وضع ما يدحضون به ترهاتهم وإن اغترّ بها بعضنا.
ما أهم المؤسسات الداعمة للتحقيق؟
حقيقة وعن تجارب شخصية أنا محبّ لمعهد المخطوطات العربية بالقاهرة، وأرى إنشاءه كان دفعة هائلة لنشر التراث العربي وجلب مصوراته من شتى بقاع العالم، وأعد المجلة الصادرة عنه أجل المجلات المفيدة في شئون المخطوطات والتحقيق ونقده وما إلى ذلك.
وهناك مؤسسات أخرى لها أدوار عظيمة في نشر التراث العربي؛ كدار الكتب المصرية والقسم الأدبي الذي كان بها، وهناك المكتبة الأزهرية، وثمة مؤسسات جديدة ناشئة تبشر جهودها الحديثة بإضافة للمجال؛ مثل مكتب إحياء التراث الإسلامي التابع لمشيخة الأزهر، ومركز تحقيق التراث بمكتبة الإسكندرية.. ونحن نطمح منهم مزيدًا من العمل والإنتاج العلمي السليم.
وفي البلاد العربية جهود عظيمة خالدة؛ أحبّ منها مجلة المورد العراقية، ومجلة العرب السعودية، ولا أحصر الجهود فيما أذكر.
وليت المؤسسات الخازنة للمخطوطات تيِّسر سبل الحصول على مصوراتها، وليت المجلات المتخصصة في التراث العربي تُرفع من دونها العراقيل والموانع لتتنقل عبر البلاد الإسلامية بسهولة ويسر.
ماذا عن آفاق التحقيق، خاصة في ظل ثورة الاتصال، التي اختصرت المسافات بما لم يتوافر لأجيال ماضية؟
ثورة الاتصالات أتاحت ما كان ممنوعًا؛ فتسبح في عوالمها صور المخطوطات وروابط تحميلها، وآلاف من المغردين والمعلقين يتناولون أمور التحقيق ونشر التراث مما جعله ثقافة عامة.. تعارفَ رجال الفن وتحادثوا عبرها بعدما كانوا يتعارفون بالأسماء والمصنفات فحسب.. عُقدت اللقاءات عبرها والندوات.. نال أهل المشرق بعض ما كان بحوزة أهل المغرب، والعكس حدث كذلك.
وعلى نحو شخصي ربحتُ معرفة رجال يعتز اللبيب بمعرفة أمثالهم.. لكن طموحاتنا في الاستفادة من ذلك أعلى مما حصلناه كثيرًا كثيرًا.