في هذا المقال نتناول مفهوم سعي الآخرة وأهميته في الإسلام، ولأي سبب تُعد مخالفة الله ورسوله والابتداع في الدين من الأعمال التي لا تدخل في معنى سعي الآخرة الحقيقي، مستعرضين شرح الإمام عبد الحميد ابن باديس والشروط التي يجب توفرها لقبول الأعمال الصالحة.
قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَرَادَ ٱلآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَٰٓئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورً﴾ [الإسراء: 19]. فطاعة الله وتعظيمه، والاهتداء بالقرآن والعمل به، والائتمار بأمره والانتهاء عن نهيه، واتباع سنّـة النبي ﷺ والمنافحة عنها، هو سعي الآخرة المأمور به، أما مخالفة كتاب الله وسنة رسوله ﷺ والابتداع في الدين، فليس هذا من سعي الآخرة.
- فكل مخالفة لذلك فليست من سعي الآخرة..
- والتفرق والتنافر ليس من سعي الآخرة..
- والقطيعة ليست من سعي الآخرة..
- والذل والهوان والاستكانة ليس من سعي الآخرة..
- والخيانة ليست من سعي الآخرة..
- وموالاة الكفار ليست من سعي الآخرة..
- وخذلان المسلمين ليس من سعي الآخرة…
- وترك الجهاد في سبيل الله ليس من سعي الآخرة..
- والظلم والاستكبار ليس من سعي الآخرة…
- والابتداع في الدين ليست من سعي الآخرة..
وكل هذا السعي ليس سعيا مشكورا، وكل سعي غير مشكور فهو سعي موزور.
واتباعُ النبيّ ﷺ في كل ما أمر، والانتهاء عما نهى عنه وزجر، والسعي سعيه، هو سعي الآخرة، وهو السعي المشكور.
قال العلامة الإمام عبد الحميد ابن باديس رحمه الله في تفسير الآية المذكورة: (من الناس من يخترع أعمالا من عند نفسه ويتقرب بها إلى الله مثل ما اخترع المشركون عبادة الأوثان بدعائها، والذبحِ عليها، والخضوعِ لديها، وانتظارِ الحوائج منها، وهم يعلمون أنها مخلوقةٌ لله مملوكةٌ له، وإنما يعبدونها كما قالوا لتقرّبهم إلى الله زلفى…، وكما اخترع طوائفُ من المسلمين الرقصَ والزمر والطوافَ حول القبورِ والنذرَ لها، والذبحَ عندها ونداءَ أصحابها وتقبيلَ أحجارها، ونصبَ التوابيت عليها، وحرقَ البخور عندها، وصبَّ العطور عليها، فكلّ هذه الاختراعاتِ فاسدةٌ في نفسها؛ لأنها ليست من سعي الآخرة الذي كان يسعاه محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من بعده، فساعيها موزور غير مشكور)([1]).
وقد بين – الإمام ابن باديس- قبل هذا سعي الآخرة المشكور، ورسم له شروطا أخذا من الآية، فقال:
- الشرط الأول: أن يقصد بعمله الآخرة قصدا مخلصا، كما يفيده فعل الإرادة: (ومن أراد الآخرة)، ولام الأجل في (وسعى لها).
- الشرط الثاني: أن يعمل لها عملها المعروف في الشرع اللائق بها الذي لا عمل يفضي إلى نيل ثوابها سواه، وهو طاعة الله تعالى وتقواه، بامتثال أوامره ونواهيه، والوقوف عند حدوده.
- الشرط الثالث: أن يكون مؤمناً موقناً بثواب الله تعالى وعظيم جزائه.
فإذا توفرت هذه الشروط الثلاثة لهم ﴿كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا﴾ متقبلا مثابا عليه بحسن الثناء، وجميل الجزاء، على الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة: ﴿وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 261]. وإذا اختل واحد منها فليس العمل بمتقبل ولا بمثاب عليه، بضرورة انعدام المشروط بانعدام شرطه([2]).
فكل من سعَى سعْيَ الآخرة كان سعيه مشكورا، وكل من لم يسع سعي الآخرة كان سعيه موزورا، كل له جزاؤه ونصيبه، والجزاء من جنس العمل، مصداقا لقوله تعالى: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُۥ سَوْفَ يُرَىٰ ﴾ [النجم: 40].
وسعي الإنسان سعي الآخرة يظهر في سلوكه، وفي أعماله، وقد نبه الإمام ابن باديس في حديثه عن اتصاف النفس بالصلاح وضابط ذلك، فقال: (وكما أننا نستدل على وجود النفس وارتباطها بالبدن بظهور أعمالها في البدن، كذلك نستدل على اتصافها بالصلاح وضده بما نشاهده من أعمالها: فمن شاهدنا منه الأعمال الصالحة- وهي الجارية على سنن الشرع، وآثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم حكمنا بصلاح نفسه، وأنه من الصالحين.
ومن شاهدنا منه خلاف ذلك حكمنا بفساد نفسه، وأنه ليس منهم. ولا طريق لنا في معرفة صلاح النفوس وفسادها إلاّ هذا الطريق. وقد دلنا الله تعالى عليه في قوله تعالى: ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [آل عمران: 113-114]. فذكر الأعمال، ثم حكم لأهلها بأنهم من الصالحين. فأفادنا: أن الأعمال هي دلائل الصلاح، وأن الصلاح لا يكون إلاّ بها، ولا يستحقه إلاّ أهلها)([3]).
قلت: وكأن هذا يجري على معنى قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله فيما رواه البخاري: (إن أناسا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله ﷺ، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه، وليس إلينا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءا لم نأمنه ولم نصدقه، وإن قال: إن سريرته حسنة)([4]).