قال تعالى : {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ۖ مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ۗ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [إبراهيم : 22].

يَتَلوَّنُ الشيطانُ ويتشكَّلُ بصورٍ مختلفةٍ ليتغلغلَ في النفسِ البشريةِ ويُضلِّلَها، مُوهِمًا الإنسانَ بوعودٍ وجزاءاتٍ كاذبةٍ لا تتحقق. لقد سجل القرآن الكريم وعود الشيطان الزائفة، وأرشد البشرية في المقابل إلى سبل الوقاية منه. ويهدف هذا المقال إلى رصد وعود الشيطان ووسائله في تحريض الإنسان على عصيان الله تعالى، مع استعراض الإرشادات القرآنية للوقاية من ذلك.

أولًا: حقيقة وعود الشيطان

أولًا: يَعِدُهم بالفقر ويوهمهم بالغنى، لقوله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} [البقرة: 268].

يُروج الشيطان للإنسان فكرة الحفاظ على المال عن طريق عدم الإنفاق منه، موهمًا إياه بأن الإنفاق خسارة لا تعوض. فالمؤمن مأمور بالإنفاق في سبيل الله، ودفع الصدقات وإيتاء الزكاة، فيوهمه الشيطان أن هذه الواجبات تنقص المال ولا تزيده. وقد وردت تنبيهات قرآنية على هذه الخدعة الشيطانية في مواضع عدة. ففي سورة البقرة، بدأ أولًا بمدح المنفقين في سبيل الله: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ ..} [البقرة: 261].، ثم وصف نقاء النفقة من المن: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى} [البقرة: 262]، وتبعها بأمر قرآني بتجنب المن بالصدقات وعدم الإنفاق لأجل الرياء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} [البقرة: 264]، ثم بين القصد من النفقة: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 265]، وأخيرًا الإحسان في النفقة بإخراج أفضل المال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ۖ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ} [البقرة: 267].

في سورة النساء، قال تعالى: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا } [النساء: 39]، وقد سبقتها مباشرة الآية: {وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ۗ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا } [النساء: 38] .

وهنا نلحظ أمرين:

  • أولًا، في المقطع الأول، عوتبوا على عدم النفقة (وماذا عليهم لو … وأنفقوا مما رزقهم الله)، فهم يبخلون على العباد برزق الله تعالى، مع أن أصل هذا المال هو من رزق الله تعالى.
  • والأمر الآخر هو أنه حتى عند الإنفاق، قد يصاحبه الرياء.

يتضح مما سبق أن الشيطان لا يمل ولا يكل حتى يوقع الإنسان في معصية أمر الله بالإنفاق في سبيله، وذلك بثلاث طرق:

  1. أن يمنعه من الإنفاق مطلقًا، فلا ينفق في سبيل الله صدقة ولا زكاة.
  2. إن أنفق المؤمن صدقة لوجه الله أو أخرج زكاة ماله، يوسوس له حتى يتبعها بالمن والأذى، ويتباهى أمام الناس بما أنفق.
  3. أن ينفق أسوأ ما عنده، أي يخرج ما ساء وفسد من النفقة، وقد جاء في أسباب نزول قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ..} [البقرة: 267] “عن جابر: قال أمر النبي بزكاة الفطر بصاع من تمر، فجاء رجل بتمر رديء، فنزل القرآن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ..}”[1].

بعد أن خلق الله آدم وحواء عليهما السلام، ورفض إبليس السجود، أصبح إبليس أول عدو للبشرية ولازمه وصف الشيطان. توعد إبليس بتضليل بني البشر، وبدأ بتنفيذ وعده مباشرة: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ } [الأعراف: 20]. فوسوس لآدم وحواء خادعًا إياهما بأن منع الله تعالى أكلهما من الشجرة يعود لأحد سببين: إما أن يصبحا ملكين، وإما أن يخلدا، وأن الشجرة تحقق أحد هذين الأمرين. ثم استدرجهما بتأكيده أنه من الناصحين ومحبي الخير لهما: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ } [الأعراف: 21].

كانت هذه أول الوعود الكاذبة التي أطلقها إبليس، سعيًا لتنفيذ وعيده بإضلال ذرية آدم عليه السلام، بعد تكبره وعصيانه لأمر الله تعالى. وقد أدت هذه الفعلة إلى هبوط آدم وحواء وإبليس جميعًا إلى الأرض، مصداقًا لقوله تعالى: {قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ } [الأعراف: 24]. وتلا ذلك تحذيرٌ لبني آدم من فتنة الشيطان: {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 27].

تتحدث هذه الآية عن خروج المشركين لقتال المسلمين يوم بدر، وتصور كيف زين الشيطان للمشركين خروجهم، بل أوهمهم بالنصر وأنه معهم. وتذكر الروايات أنه جاءهم بجند من الشياطين، فعن ابن عباس قال: “جاء إبليس يوم بدر في جُنْد من الشياطين، معه رأيته، في صورة رجل من بني مُدلج، والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، فقال الشيطان للمشركين: {لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} فلما اصطف الناس، أخذ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قبضةً من التراب، فرمى بها في وجوه المشركين، فولَّوا مدبرين. وأقبل جبريل إلى إبليس، فلما رآه، وكانت يده في يد رجل من المشركين، انتزع إبليس يده، فولَّى مدبرًا هو وشيعته، فقال الرجل: يا سراقة، تزعم أنك لنا جار؟ قال: {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} وذلك حين رأى الملائكة”.[2]

توضح الآية والرواية كيف خدع الشيطان المشركين، إذ أوهمهم بالنصر وشجعهم على القتال، مُظهِرًا لهم أنهم الغالبون لا المغلوبون، ثم زعم نصرتهم. وعندما رأى تثبيت الله تعالى للمسلمين بالملائكة، تبرأ منهم لما رأى الحق، وهذا من طبعه كما أثبت القرآن الكريم.

ولا تتوقف وعود الشيطان الكاذبة عند هذا الحد، بل هي كثيرة ومتنوعة بتنوع حاجات الإنسان النفسية والاجتماعية والاقتصادية، فهو يسعى لإيجاد مدخل إلى الإنسان في أي من هذه المجالات لإيقاعه في الزلل. فإذا اشتهى الإنسان فعلًا محرمًا كشرب الخمر مثلًا، وسوس له بالتمتع قليلًا ثم التوبة، وعندما يرغب في التوبة يضله شيئًا فشيئًا محاولًا تأخيرها وهكذا {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ ..} [النساء: 119]، “وأما التمنية فهي في الأعمال بأن يُزين لهم الاستعجال باللذات الحاضرة والتسويف بالتوبة وبالعمل الصالح”[3].

ثانيًا: الوقاية من الشيطان

لقد أرشد الله تعالى المؤمن إلى وقاية نفسه من خداع الشيطان، وكان أول تحذير لآدم عليه السلام، إذ قال تعالى: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [الأعراف: 22]. وتتحقق الوقاية من الشيطان بالاستعاذة بالله منه، كما في قوله تعالى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ۚ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }[الأعراف: 200]. والنزغ يعني: “أن تنزغ بين قوم فتحمل بعضهم على بعض بفساد بينهم.. ونزغه: حرَّكه أَدنى حَرَكَةٍ”. ولعلها أول محاولات الشيطان، وقد جاء عن الزجاج: “معناه إن نالك من الشيطان أدنى نزغ ووسوسة وتحريك يصرفك عن الاحتمال، فاستعذ بالله من شره وأمض على حُكمك”. إذن، فإذا كان النزغ هو أدنى حركة يقوم بها الشيطان محاولًا تحريف العبد عن مساره، فإن المؤمن قادر على صرفه بالاستعاذة، ولن يجد الشيطان مدخلًا بعدها. وهكذا، فكل ما حاول الشيطان فعله واستعاذ المؤمن منه، فإنه يسلم من احتمال الوقوع في الزلل. وبتعبير آخر: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } [الأعراف: 201]. وقد فسر الطبري معنى “الطائف” بأنه الغضب واللَّمَم؛ فالغضب من الاستزلال، واللَّمَّة من الخطيئة، وكلاهما من الشيطان. وهو عارض يزول بتذكر أمر الله، أي ثوابه وعقابه، وأمره ونهيه، فتابوا وانتهوا إلى طاعة الله تعالى وأمره[4].

لكن الشيطان دائمًا ما يسعى لإيجاد منفذ إلى النفس. فما إن يرتكب المؤمن ذنبًا، يبدأ الشيطان في زعزعته، محاولًا إغراءه بالاستمرار فيه وصده عن التوبة. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا ۖ وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } [آل عمران: 155]. توضح هذه الآية كيف يتمكن الشيطان من الإنسان عند وجود الفرصة المناسبة، وهي ارتكاب الذنب، إذ يجد في ذلك مدخلًا للوسوسة وتضليل المؤمن، كما قال تعالى: {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا}، أي استدرجهم حتى انحرفوا، فالسوءة تجر السوءة. لذا، على المؤمن أن يتجنب إعطاء الشيطان أي منفذ ليُضلّه عن الصواب، وذلك بالاجتهاد في الابتعاد عن الفعل السيئ.

أيضا للوقاية من الشيطان، أمر الله تعالى بالقول الحسن؛ لأن تبادل الكلام السيئ قد يستغله الشيطان ليوقع بين المؤمنين. ولذلك قال تعالى: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا } [الإسراء : 53].

ختامًا، فالشيطان لا سلطان له على المؤمنين، وإنما سلطانه على المشركين الذين يتبعونه. لذلك، فالمؤمن قادر على حماية نفسه منه بالاستعانة بالله والتعوذ به. قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ } [النحل : 98 – 100].