الباطنية مذاهب مختلفة، يجمعها اعتقاد باطن للقرآن يخالف ظاهره، وأن هذا الباطن هو مراد الله تعالى، والمقصد من هذا إنما هو تحريف العقيدة وإبطال الشريعة، وإشاعة الشك والفوضى، وتبديل الأحكام الواضحة بمفاهيم عائمة لا تحق حقاً ولا تبطل باطلاً، مثل قول بعضهم: إن الجنابة التي أمرنا الله بالتطهّر منها إنما هي التقرب من الأغيار، وإن الصوم المفروض علينا إنما هو كتم الأسرار، وإن الزكاة المفروضة علينا في القرآن إنما هي محبّة سلمان الفارسي -رضي الله تعالى عنه-! وقول آخرين: إن إبليس قد نجح في اختبار التوحيد، إذ رفض أن يسجد لغير الله! ورأيت بعضهم يؤوّل قوله تعالى: «مرج البحرين يلتقيان» أنهما علي وفاطمة، «و يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان»، قال: الحسن والحسين -رضي الله تعالى عنهم أجمعين-! وفي قوله تعالى: «فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه» قال: الكلمات هي ولاية علي وأبنائه!
لقد استند الباطنيون فيما يهدفون إليه -ومنذ القدم- إلى ثلاث ركائز ينبغي الوقوف عندها، لأنها عدّتهم في كل زمان، وإن اختلفت أسماؤهم وعناوينهم، وهذه الركائز هي:
أولاً: إبطال السنّة النبويّة، والتشكيك في مصادرها ورواتها تشكيكاً عاماً وشاملاً وبطريقة فوضوية ومزاجية، لا تستند إلى قاعدة ولا إلى معيار، فالحديث الذي يعارض أمزجتهم حكموا عليه بالوضع، ولو كان في البخاري ومسلم، والحديث الموضوع ينقلب إلى حجة ودليل قاطع إذا وافق أمزجتهم، بل رأيت منهم من ينكر البخاري، ثم لا يلبث أن يستشهد برواية تاريخية مبتورة ليس لها سند ولا راوٍ أصلاً.
ثانياً: الطعن في سلف الأمة الصحابة والتابعين وتابعي التابعين -رضي الله تعالى عنهم- وهذه ركيزة متصلة بما قبلها، لأن الذي روى لنا السنّة إنما هم هؤلاء، فالطعن في الراوي يعني بالضرورة الطعن في الرواية، ومن هنا تجدهم يصوّبون سهامهم نحو أبرز نقلة السنة من الرجال أبي هريرة، وأبرز نقلة السنّة من النساء عائشة أم المؤمنين، وليس المقصود أبا هريرة ولا عائشة -رضي الله تعالى عنهما- وإنما المقصود الدين الذي نقلوه والعلم الذي حملوه.
ثالثاً: إبطال اللغة العربية، وهذه الحلقة المكملة، وهي ثالثة الأثافي -كما يقال- فمن المعلوم بالضرورة أن القرآن إنما نزل بلغة العرب، والتفسير اللغوي يعدّ من أقوى المناهج التفسيرية، وهو يتكامل مع التفسير بالسنّة والمأثور، إذ الصحابة والتابعون هم أهل اللغة الفصحى، كما أنهم أهل الرواية، وإنما فشا اللحن وضعف اللسان العربي بعدهم، ومن ثم كان الطعن في اللغة متمماً للطعن في السنة ورواتها.
لقد تصدّى علماء الإسلام لهذه النزعة الفوضوية المشبوهة حتى أدخلوها في جحرها الذي خرجت منه، وعشّها الذي فرّخت فيه، وكان من أشهر من تصدّى لها حجة الإسلام الغزالي في كتابه «فضائح الباطنية»، وشيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه «منهاج السنّة» حتى صار الباطنيون يخجلون من أنفسهم، ويستترون من معايبهم بثوب التقية أحياناً، وبكتم كتبهم وتحريم تداولها أحياناً أخرى، لكنها بدأت تعود هذه الأيام بثوب آخر وبشعارات أخرى، وصرنا نواجه تحدياً يضاف إلى أخطر التحديات التي نواجهها في هذا العصر.
ستغل الباطنية اليوم حالة الضعف العام الذي تمر به الأمة سياسياً واقتصادياً وثقافياً، وما يصاحبها من تفكك واضطراب في المنظومة القيمية والعقدية الجامعة، وتراجع مستويات التعليم الديني، وعجز المؤسسات الشرعية والجماعات الإسلامية عن مواجهة التحديات والإجابة عن أسئلة العصر، في الوقت الذي تتطلّع فيه شعوبنا إلى من ينتشلها من وهدتها ويوقظها من رقدتها، حيث راح الباطنيون الجدد يلوّحون للشباب أننا هنا نفسّر لكم القرآن تفسيراً تجديدياً، ونقدّم لكم الإسلام على الطريقة العصرية التي تريح كواهلكم وتفتح الأبواب أمام نزواتكم بلا قيود ولا حدود.
يجهدون أنفسهم ليثبتوا أن شرب الخمر ليس حراماً، وأن ظهور المرأة عارية أمام أبيها ليس حراماً، وإنما هو من باب العيب الاجتماعي، وأن الإسلام لا يفرّق بين من يعبد الله وبين من يعبد البقر، ولا بين من يعتقد أن عيسى -عليه السلام- عبد لله، وبين الذي يعتقد أنه ابن لله، فهذا عندهم هو التفسير الصحيح لقوله تعالى: «لا إكراه في الدين»، بل زاد بعضهم أن الديانات السماوية كلها -على ما هي عليه اليوم- داخلة في مسمّى الإسلام، الذي قال الله تعالى فيه: «إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ» و»وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَاِم دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ»، ومع نكرانهم الصريح للسنة ولحجّيتها، لكنهم جميعاً يحفظون حديث «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بَأَمْرِ دُنْيَاكُمْ»، لأنهم يفسّرونه بمعنى أن الناس هم الذين يشرّعون لأنفسهم القوانين والأحكام التي يحتاجونها في كل شأن من شؤون حياتهم، فصار هذا الحديث -بالفهم السقيم هذا- عدتهم في نسخ كل النصوص التشريعية الثابتة في القرآن والسنة، مع أن الحديث ليس له علاقة بأية مسألة تشريعية لا من قريب ولا من بعيد، فالحديث إنما ورد في مسألة تلقيح النخل، ومدى فائدة التلقيح من عدمها، وكان -عليه الصلاة والسلام- لا علم له بالفلاحة، فقال: «مَا أَظُنُّ يُغْنِي ذَلِكَ شَيْئاً» وهذه ليست صيغة وحي، ولا هي صيغة تشريعية، يؤكّد هذا أنه لما بان أن التلقيح ضروري للنخل قال -عليه الصلاة والسلام-: «إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَناً، فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ، وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنِ اللهِ شَيْئاً فَخُذُوا بِهِ، فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ»، فبأيّ منهج علمي أو عقلي أو حيادي يكون القول المصرّح فيه بالظن دليلاً لنفي النصوص القطعية، وكيف يكون القول المبني على الخبرة البشرية المجردة دليلاً على نقض الأحكام الشرعية الثابتة بالوحي، وحديث التلقيح نفسه يؤكّد وجوب التمسك بشريعة الله، فلماذا يبتر أوله عن آخره؟
إن هذا التلاعب في الاستدلال بالروايات -وهو تلاعب مكشوف ومفضوح كما ترى- تبعه تلاعب في الدلالات اللغوية، فالكلمة لم تعد عندهم تحمل المعنى الذي يعرفه العرب والمثبت في دواوينهم ومعجماتهم، بل يجري تفكيكها وإرجاعها إلى المعاني التي يحتملها الجذر، وهذا التلاعب الغبي قد ينطلي على بعض من ليست له صلة بعلوم اللغة، خاصة إذا اقترن بوهج التجديد، ومؤداه حقيقة إشاعة الفوضى ليس في الدلالات الشرعية والفقهية فحسب، بل إشاعة الفوضى في المصطلحات العلمية كلها وفي مختلف المجالات والتخصصات، كما سنرى.
أقول للشباب الذين تستهويهم مثل هذه التحليلات اللغوية الجذرية، انظروا مثلاً إلى كلمة «سياسة»، والتي هي جزء من لغتكم وثقافتكم، ماذا يكون معناها لو رجعنا إلى جذرها «س ا س»؟ وكذاك كلمة «اقتصاد» أو «إدارة» أو «فلك» أو «ثقافة»، جرّبوا لتكتشفوا أنكم بعد هذا لن تفهموا كتاباً واحداً من كتب العلم، حتى كلمة «عقل»، أصلها الجذري الحبس والمنع، ومنه الاعتقال والمعتقلات، وإنما سُمّي العقل عقلاً، لأنه يحبس صاحبه ويمنعه من الوقوع في الخطأ والضرر، لكن هناك فرقاً كبيراً بين أن أعرّف العقل بمعناه المعروف، وبين أن أعرّفه بالحبس والمنع.
وفق هذه المنهجية المغلوطة، حاول أحد المعاصرين منهم، أن ينفي عربية القرآن، رغم وجود النص القرآني الصريح: «إنا أنزلناه قرآناً عربياً»، لأن الجذر «ع ر ب» معناه الوضوح، وعليه فيكون معنى الآية عنده، قرآناً واضحاً أو بيّناً، وعليه فيمكن أن تفهم من كلمة «التركي» أنه الذي يترك الأمور، لأن الجذر «ت ر ك» يفيد معنى الترك وليس القومية المعروفة، وهكذا الكردي أو الفارسي أو الهندي.. إلخ، بينما حاول آخر أن يلغي قوامة الرجل على زوجته، لأن الرجال في الجذر العربي لا تعني الذكور! كما أن النساء لا تعني الإناث!
إننا إذاً أمام نهج فوضوي يعبث بمسلّمات اللغة، كما يعبث بمسلّمات الدين، وهو في الحقيقة نهج متخلّف غاية التخلّف وبكل المقاييس رغم تبرقعه بشعارات التجديد، لأنه من المعلوم في كل لغات العالم، أن التفاهم إنما يكون بمعاني المفردات التي استقرت في اللغة، وليس بالجذر الذي بُنيت منه الكلمة، لأن المعنى الجذري هو معنى بدائي، وهو أشبه بالمادة الأولية التي تقبل التشكل بصيغ مختلفة، فانظر مثلاً إلى الجذر «خ م ر» كيف تشكلت منه كلمة «الخمرة» المسكرة، وتشكلت منه كلمة «الخمار» الساتر لرأس المرأة، والعربي يعرف الفرق بين المعنيين لأن هذه هي لغته، بخلاف هؤلاء الراجعين إلى الوراء في مراحل ما قبل بناء المفردة اللغوية.
ولكي لا يُظن أننا ندعو لإهمال الجذر اللغوي، نؤكّد أن الجذر هو المادة الأولية للمفردات العربية، ومن ثم فهي لا تنفك عنه، لكن المعنى إنما يؤخذ من المصطلحات العلمية المستقرة في كل علم، ثم من الاستعمال اللغوي المتداول في الخطاب العربي.
أما علاقة هذا النهج بالتجديد والتنوير فهي علاقة دعائية تسويقية لا غير، ذاك لأن التجديد أو التنوير لا يكون بالبراءة من الماضي، وشتم الآباء والأجداد، ورمي مشاكلنا المعاصرة عليهم، فهذا ليس من الإنصاف، وليس من النهج المقبول علمياً وأخلاقياً.
إن التجديد الذي تتطلع شعوبنا ومجتمعاتنا إليه، إنما هو التجديد في أنظمتنا السياسية ومشاريعنا الاقتصادية والإنتاجية ومناهجنا التربوية والتعليمية، التجديد الذي ينمّي وعي مجتمعاتنا بمسؤولياتها وبحقوقها وواجباتها وبالتحديات التي تواجهها، التجديد الذي يرمّم الانقطاع الحضاري مع تاريخنا وتراثنا، ويردم في الوقت نفسه الهوّة الحضارية بيننا وبين شعوب العالم المتقدم، أما استغلال هذا التطلع نفسه لإشاعة الفوضى والفرقة والتشكيك، وتعزيز حالة الإحباط وفقدان الثقة بالنفس، فإنما هو خيانة لهذه الأمة ولتطلعاتها، وإبعاد لها عن طريق خلاصها ونهضتها.