ومن تطبيق مراعاة البيئة في بناء المدن ما ثبت أن الحجاج لما عزم على بناء مدينة كلف عددا من الأطباء أن يختاروا موضع مدينة فبحثوا حتى عثروا له على موقع المدينة التي سمِّيت بـ “واسط”، ووصفوا له الموقع بأنه “أوفق من موضعك هذا (الكوفة) في خفوف الريح وأنف البرية”، وكان من وصية الحجاج أن يكون اختيار المكان على ضفة نهر، ولما وجد فريق العمل المكان المناسب أبلغوا رئيسهم بهذا فذهب إلى هناك فبات في هذه البقعة “واستطاب ليلها واستعذب أنهارها واستمرأ طعامها وشرابها” ثم رفع تقريره إلى الحجاج فبُنيت واسط[1].
ولما بنى حسان بن النعمان الغساني –والي إفريقية- مدينة تونس تخير موضعها في موقع هواؤه “من أصح بلاد إفريقية هواء”، على مقربة من ماء وأرض خصبة تحولت فيما بعد إلى “مزارع متصلة” وحدائق ناضرة[2].
وحين عزم المنصور على بناء بغداد استدعى عدة ممن يسكن الأنحاء “فسألهم عن مواضعهم وكيف هي في الحر والبرد والأمطار والوحول والبق والهوام فأخبره كل منهم بما عنده”[3]، ثم استقر بعد ذلك على موضع بغداد التي وصفها الجغرافيون فيما بعد بأنها “ليس لها نظير في مشارق الأرض ومغاربها سعة وكبرًا، وعمارة وكثرة مياه، وصحَّة، وهواء”[4]، وبأنها انفردت بين المدن في أمور كثيرة منها “طيب هوائها وعذوبة مائها وبرد ظلالها وأفيائها واعتدال صيفها وشتائها وصحَّة ربيعها وخريفها”[5].
ثم لما اضطر حفيد ابنه المعتصم بالله أن يبني سامراء تخير لها موضعها كذلك، لكنها لم تستمر كعاصمة إلا فترة قليلة، غير أن من نشأ في سامراء كان يزري ببغداد، كما جاء ذلك في رسالة كتبها الأمير العباسي عبد الله بن المعتز السامرائي المنشأ، إلى صديقه البغدادي قوله: “على أنها (سامراء) وإن جُفِيَت معشوقة السكنى، وحبيبة المَثْوَى، كوكبها يقظان، وجَوُّها عريان[6]، وحصباؤها جوهر، ونسيمها مُعَطَّر، وترابها أَذْفَر، ويومها غداة، وليلها سَحَر، وطعامها هنيء، وشرابها مريء، لا كبلدتكم (بغداد) الوسخة السماء، الومدة الماء والهواء، جوها غبار، وأرضها خبار، وماؤها طين، وترابها سرجين، وحيطانها نزور، وتشرينها تموز[7]، فكم من شمسها من محترق، وفي ظلِّها من عرق…”[8].
ولما أراد إدريس الثاني في المغرب بناء مدينة له “بعث وزيره عمير بن مصعب الأزدي يرتاد له موضعا يبني فيه المدينة التي أراد، فاخترق تلك النواحي وجال في تلك الجهات يختبر الأرضين والمياه حتى وصل إلى فحص يابس، فوجد فسحة الأرض واعتدالها وكثرة المياه فأعجبه ما رآه من ذلك”[9].
ولما اختار صلاح الدين موقع إنشاء قلعته في مصر، كان الظرف البيئي –إلى جوار الظرف العسكري والأمني- من عوامل الاختيار، فقد أورد المقريزي أنه “علق اللحم بالقاهرة فتغير بعد يوم وليلة، فعلق لحم حيوان آخر في موضع القلعة فلم يتغير إلا بعد يومين وليلتين، فأمر حينئذ بإنشاء قلعة هناك”[10].
3 – البحوث المعاصرة تكشف دقائق وأسرار المدن الإسلامية
كان من سمات المدينة الإسلامية في المناطق الحارة والصحراوية “اتباع الحل المُتَضامِّ”، أي تقارب مباني المدينة بحيث تتكتل وتتراص وتتلاصق “لمنع تعرض واجهاتها بلا داع للعوامل الجوية مثل أشعة الشمس المباشرة ورياح الخماسين المحملة بالرمال التي تؤدي إلى رفع درجة الحرارة داخل المباني”[11].
كذلك “كان توجيه الشوارع من المحاولات البارزة في التخطيط لمقاومة العوامل الجوية، فمن المدن ما وُجِّهت شوارعها الرئيسية الكبيرة من الشمال إلى الجنوب حتى تكون عمودية مع حركة الشمس الظاهرية، وهذا ما يجعل الشوارع تكتسب ظلالا طوال النهار، بالإضافة إلى اكتسابها الرياح الشمالية التي تساعد على استمرار برودتها أطول فترة ممكنة لوجود نسبة التظليل العالية في هذه الشوارع، وقد تجلت هذه الظاهرة في أروع أمثلتها في القاهرة، وسارت على هذا التخطيط مدن صعيد مصر وكذلك مدن المناطق الحارة من العالم الإسلامية، ولعل اتجاهات شوارع مدينة الدرعية الباقية تؤكد هذه الحقيقة؛ فمعظمها ولا سيما الشوارع الرئيسية يتجه نحو الشمال. وفي المناطق الباردة تأخذ الشوارع شكلا عكسيا، فيغلب على الاتجاهات الاتجاهُ الشرقي الغربي لاكتساب أكبر قدر من الشمس طوال النهار، ولتجنب الرياح الشمالية والشمالية الغربية التي تهب عليها طوال العام”[12].
وإضافة إلى ذلك فلقد “كانت الشوارع والحارات تُخَطَّط متعرجة ضيقة لأن المساكن والقصور والمباني العامة تضم أفنية وحدائق تستقبل الشمس والهواء من ساحاتها الداخلية التي لا تجعلها في حاجة إلى الشارع الفسيح، فاقتصر اتساعه على ما يفي بمطالب المرور وغدو الباعة الجائلين ورواحهم. كما كان بتعرجه وضيقه يوفر مساحات ظليلة، ويتيح اختزان الهواء الرطب ليلا حتى يشيعه أثناء ساعات القيظ ملطفا من حرارة الجو على العكس من الشارع المستقيم الواسع كالبولفار الأوروبي المعاصر الذي تستبيحه الريح صباحا ومساء”[13]. بينما “الأسواق المسقوفة (المظللة) غالبا ما كانت مستقيمة، ذلك أن السقف يؤمن الظل ويخفف من وصول الغبار”[14].
إن تميز المدينة الإسلامية بالشوارع الضيقة المتعرجة وبالبيوت ذات الأفنية الداخلية سمح بانتقال الهواء من خلال فتحات ومداخل المباني من الشوارع الضيقة الأكثر تظليلا (ضغط عالٍ) إلى الأفنية الداخلية المشمسة (ضغط منخفض)، خاصة أثناء فترات الظهيرة وتعرضها لأشعة الشمس. وقد أوضحت القياسات التي أجريت داخل فناء بيت السحيمي بالقاهرة الإسلامية أنه في فترة الصباح تكون حركة الهواء الغالبة آتية من مدخل المنزل الجنوبي بالدور الأرضي والذي يفتح على حارة الدرب الأصفر، وينتقل هذا الهواء عبر المدخل إلى الفناء الداخلي ومنه إلى التختبوش ثم الحديثة الخلفية بالجهة البحرية، وحركة الهواء هذه تنشأ بفعل التباين في درجات الحرارة وتصل سرعة الرياح أقصاها في التختبوش خلال ساعات النهار. وفي قياسات أخرى تمت في بيت السناري بحي السيدة زينب بالقاهرة، اتضح أن سرعة الرياح بفعل فارق ضغط الهواء والحرارة تتضاعف عبر ممر المدخل الضيق الطويل، والذي يفتح على حارة “مونج” بالجهة البحرية ويؤدي إلى الفناء الداخلي من الجهة الجنوبية[15].
[1] ياقوت الحموي: معجم البلدان 5/348.
[2] ياقوت الحموي: معجم البلدان 2/60، 61.
[3] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 5/166.
[4] اليعقوبي: البلدان ص11.
[5] الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد 1/ 119.
[6] جوّها عريان: أي نقي.
[7] أي أنها شديدة الحرارة حتى إن شهري أكتوبر ونوفمبر (تشرين الأول، تشرين الثاني) كأنهما شهر يوليو (تموز).
[8] ياقوت الحموي: معجم البلدان 1/ 464، 465.
[9] ابن أبي زرع: الأنيس المطرب ص38. (ط دار المنصور، الرباط، 1972)
[10] المقريزي: المواعظ والاعتبار 3/355.
[11] د. يحيى وزيري: العمارة الإسلامية والبيئة ص95، وهو ينقل عن: عمرو خير الدين: المعالجات البيئية في تخطيط المدن الإسلامية وتصميم مبانيها، سجل بحوث مؤتمر أنتربيلد، القاهرة، 1997م، ص855 – 877.
[12] د. محمد عبد الستار عثمان: المدينة الإسلامية ص170. وهو ينقل عن: حمدي إبراهيم الديب: مدينة قنا، رسالة ماجستير، جامعة القاهرة – قسم الجغرافيا، 1980، ص235.
[13] د. ثروت عكاشة: القيم الجمالية في العمارة الإسلامية ص64، 65.
[14] د. يحيى وزيري: العمارة الإسلامية والبيئة ص98، وهو ينقل عن: عبد الرحيم غالب: موسوعة العمارة الإسلامية ص367.
[15] د. يحيى وزيري: العمارة الإسلامية والبيئة ص99، وهو ينقل عن: آمال عبد الحليم الدبركي: التهوية الطبيعية كمدخل تصميمي في العمارة السالبة، رسالة ماجستير، كلية الهندسة، قسم العمارة، جامعة عين شمس (1999 م)، ص128.