في خطوة استشرافية مهمة، تعكس حراكًا علميًّا متميزًا، نظَّم مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة قطر، المنتدى الخليجي الحواري، وذلك يومي 17 و18 فبراير 2023، بمشاركة 45 مفكرًا وأكاديميًا وباحثًا من الدول الخليجية والعراق واليمن، ينتمون إلى مختلف التخصصات العلمية.
المنتدى توزعت أعماله على محاور رئيسة؛ تنوعت بين الاجتماعي، والديني، والسياسي، والعلمي.. وجاء في سياق اهتمام مركز ابن خلدون برصد التحوُّلات التي تمرُّ بها المجتمعات الخليجية، وتقييم العلاقة بين الأنساق الفكرية القديمة والحديثة، لقياس الثابت والمتغير، والتجسير بين شتى المنظورات العلمية؛ لإيجاد مقاربات مركبة للظواهر الاجتماعية، وتحديد ملامح المستقبل العلمي والمعرفي في الواقع الخليجي.
التفكير الاجتماعي
المحور الأول للمنتدى جاء عن التفكير الاجتماعي، الذي أجاب عن عدة أسئلة مهمة، تتعلق بخصائص التفكير الاجتماعي الخليجي ومصادر تشكُّله في الوقت الحاضر، وبطبيعة التغيرات الحاصلة في التفكير الاجتماعي الخليجي تجاه الموضوعات الاجتماعية الرئيسة، كالأسرة، والعادات والتقاليد، والقيم، والتعليم؛ إضافة إلى مستقبل مشهد التفكير الاجتماعي.
وخلصت مشاركات الباحثين في هذا المحور إلى عدة نقاط مهمة، منها:
– هناك تحولات حصلت في المجتمعات الخليجية، ويتسم بعض تلك التحولات بالسرعة؛ مما أدَّى إلى تغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية، غير أن التغيُّرات الحاصلة في الجوانب المادية كانت أسرع من التغييرات اللامادية (المعنوية)، كالفكر والتصور والعادات والتقاليد. ويرى بعض المشاركين أن السبب وراء تأخر التغيرات في الجوانب المعنوية قد يكون الحياء من إبداء مظاهر التغير، مراعاةً لمشاعر المجتمع. وهناك من يرى أن هذه التغيرات كانت في الجوانب الهامشية، ولم تمس القضايا الجوهرية.
– المجتمعات الخليجية لا يمكن حصرها في نمط موحَّد، بل هي، بشكل عام، تنقسم إلى ثلاثة أنماط رئيسة، وهي: المجتمع القبلي، والزراعي، والبحري؛ وكل نمط من هذه الأنماط الثلاثة له بعض قِيَمه وتصوُّراته الخاصة تجاه القضايا المركزية في الحياة. وبناءً عليه فإن المجتمعات الخليجية تتفاوت من حيث الانفتاح والانغلاق، وما يُعد انفتاحًا في مجتمع ما قد لا يُعد كذلك في مجتمع آخر.
– تحرير مصطلح “الانفتاح” مهم جدًا، حتى يمكن البناء على مفهوم واضح وصلب. ولا بد من الإجابة عن أسئلة مهمة حوله، مثل: ما حدود الانفتاح؟ وما محدداته؟ متى يعد الشيء انفتاحًا أو انغلاقًا؟ وعلى ماذا يكون الانفتاح؟ ومتى ننظر إلى الانفتاح على أنه تهديد للهوية؟
– الهوية شعور نفسي ذو محددات اجتماعية، وهناك عناصر للهوية، منها: اللغة، والعادات والتقاليد، والزي، والهوية ليست ذات صورة جامدة، بل هي عبارة عن دوائر، تبدأ من القرية، إلى المدينة، فالدولة، فالإقليم، فالعالَم، وكل دائرة منها تُشبِع جزءًا من الهوية؛ لذا يمكن القول بأن الإنسان قد يمتلك هوية مركبة، وليست هوية بسيطة.
التفكير الديني
أما في محور التفكير الديني، فقد دار النقاش حول أسئلة مهمة، منها: ما خصائص التفكير الديني في الخليج؟ وما مصادر تشكُّله؟ وما حجم التحولات في أنساق التفكير الديني الخليجي؟ وما الجديد في أولويات البحث المعرفي الديني في الخليج؟ وما مآلات اتجاهات التفكير الديني الخليجي؟
وقد شارك في هذا المحور عدد من الباحثين الذين قدموا إجابات مهمة، من أهمها:
• بعد نشأة الدول الخليجية الحديثة أصبح الخطاب الديني يتكون من خلال الدولة غالبًا.. وقد أدى هذا الوضع إلى نتائج سلبية فيما يتعلق بدور الدين في المجتمع، منها: قلة فاعلية الفرد من الناحية الدينية، وقلة فاعلية الدين نفسه في المجتمع، وتقلُّب الخطاب الديني بحسب المصالح.
• ويمكن أن يُعد “الوقف” أحد الحلول المهمة لمواجهة هذه المشكلة؛ حيث إن الوقف يزيد من فاعلية الفرد، بناءً على استقلاليته من الدولة وغيرها من مصادر التمويل، فيمكنه أن يؤدي دوره بشكل فاعل.
• تتمثل أولويات البحث المعرفي الشرعي الحالي في الخليج في القضايا السجالية؛ كالإلحاد، والعلمنة، والشذوذ، والتطبيع.
• هناك تحديات دينية تواجهها المجتمعات الخليجية، وهي تتمثل في ثقافة الاستهلاك في باب المفاهيم والمصطلحات، وبروز ظاهرة الإلحاد، وظهور “الديانة الإبراهيمية”، وظاهرة الإرجاء التي تحاول إبعاد الأحكام الشرعية عن الواقع، والحركات الدينية المتشددة، وسطحية نقد أطروحات الحداثة وما بعد الحداثة، حيث إنه يقتبس غالبًا من النقد الغربي.
التفكير العلمي
ثم كان ختام المنتدى مع محور التفكير العلمي، والذي تولّى الإجابة عن أسئلة رئيسة، منها: ما طبيعة الانشغالات العلمية لدى الشباب الخليجي في المرحلة الحالية؟ وما التحديات العلمية والمعرفية التي تواجه الشباب الخليجي؟ وما مستوى ثقة المجتمعات الخليجية في المؤسسات الأكاديمية؟ وما مدى إسهامها في صناعة الوعي العلمي؟
وانتهت إجابات المشاركين في هذا المحور إلى عدة نقاط مهمة، منها:
• المجتمعات العربية والإسلامية، ومنها المجتمعات الخليجية، كانت متأثرة بأفكار الحضارات الأخرى في الماضي، وهي تتأثر الآن بشكل كبير بالفكر الغربي.
• مفهوم التفكير العلمي قد تأثر بالتفكير في العلوم الطبيعية، وقد طغى على التفكير الشبابي في الخليج التفكير العاطفي والعفوي والتقليدي.
• هناك تحديات كثيرة تواجهها المجتمعات الخليجية فيما يتعلق بالتفكير العلمي، منها: التقصير في دعم البحث العلمي، وطغيان التفكير الخيالي والأسطوري، والتعصب للرأي التقليدي، والتحدي اللغوي والرقمي، وثقافة استهلاك المنتجات المادية الغربية دون المشاركة في تطويرها، وعدم اهتمام التعليم بالموضوعات الحيوية التي تمس المجتمعات، والتقليد الأعمى للغرب، ونظرة المجتمع السلبية إلى تخصصات العلوم الاجتماعية.
• بعض هذه المشاكل يمكن حلها من خلال التشجيع على الحوار العلمي، والنقد المعرفي، ودعم مراكز الأبحاث لسد الفجوات المعرفية، وتفعيل دور القطاع الخاص ورجال الأعمال في دعم البحث العلمي.