تناولنا في مقال سابق: ” التعامل الكلي مع القرآن الكريم.. عند رشيد رضا والغزالي”، أهمية “الرؤية الكلية” في النظر للقرآن الكريم وفي تقرير هداياته وتلمُّسِ توجيهاته؛ حتى لا تستغرقنا التفاصيل، أو يذهب بنا التعاملُ الجزئي مع الآيات والأحكام بعيدًا عن “الهداية القرآنية”؛ التي هي الأساس في تنزُّلِ هذا الكتاب العزيز.
وأوضحنا أن “التفسير الموضوعي” هو مما يكفل لنا تلمس هذه “الرؤية الكلية” للقرآن الكريم.. ويضاف إليه محاولات استنباط “مقاصد” أو “محاور” للقرآن الكريم، كما عند الشيخين محمد رشيد رضا ومحمد الغزالي، رحمهما الله تعالى رحمة واسعة.
وفي هذا المقال نتوقف مع زاوية أخرى توفر لنا هذه “الرؤية الكلية” في التعامل مع الإسلام عمومًا، وهي استنباط “مزايا عامة للإسلام”؛ بحيث نكون على بينة من أهداف الإسلام وما تمتاز به، ولا تستغرقنا التفاصيل الكثيرة للأحكام التي تصعب على الحصر، لاسيما بعد أن ترسخت العلوم وتفرَّعت المعارف.
وأهمية هذه “الرؤية الكلية” سواء للقرآن الكريم، أو للإسلام في مختلف مجالاته، أنها تجعلنا أكثر إدراكًا لخصائص الإسلام وما يتميز به كمنهج وكرسالة خاتمة، وأنها تعيننا على حسن تقديمه لمن أراد التعرف عليه من غير المؤمنين به؛ وذلك من خلال “نموذج معرفي” يعتني بالأصول والكليات.. أما إذا غابت هذه “الرؤية الكلية” أو لم تكن واضحة بالقدر الكافي، فلن نحسن فَهْم الإسلام ولا تقديمه كما ينبغي.
وعند حديثه عن المقصد الخامس من مقاصد القرآن الكريم، أوضح السيد رشيد رضا أن هذا المقصد يتمثل في: عرض مزايا الإسلام العامة في التكاليف الشخصية من الواجبات والمحظورات..
وأما هذه المزايا التي اعتنى القرآن ببيانها عن الإسلام في تكاليفه، فقد أجملها رشيد رضا في عشر جمل أو قواعد؛ وهي( ):
الأولى: كونه وسطًا جامعًا لحقوق الروح والجسد، ومصالح الدنيا والآخرة
وهذا نص قوله تعالى: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (البقرة: 143). فالمسلمون وسط بين الذين تغلب عليهم الحظوظ الجسدية والمنافع المادية كاليهود، والذين تغلب عليهم التعاليم الروحيّة وتعذيب الجسد وإذلال النفس والزهد كالهندوس والنصارى، وإن خالف هذه التعاليم أكثرهم.
الثانية: الجمع بين المعرفة والسلوك
فالإسلام غايته الوصول إلى سعادة الدنيا والآخرة؛ من خلال تزكية النفس بالإيمان الصحيح ومعرفة الله والعمل الصالح ومكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال.. لا بمجرد الاعتقاد والاتكال، ولا بالشفاعات وخوارق العادات.
الثالثة: كون الغرض منه التعارف والتأليف بين البشر
لا زيادة التفريق والاختلاف كما يزعم أعداء الأديان. فالإسلام جاء عامًّا مكملاً ومتمِّمًا لدين الله على ألسنة رسله.
الرابع: كونه يسرًا لا حرج فيه ولا عسر ولا إرهاق ولا إعنات
قال الله عزّ وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَها} (البقرة: 286). وقال بلغت حكمته: {وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ} (البقرة: 220)، وقال عظمت رأفته: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة: 185)، وقال جلَّت منته: {وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78)، وقال عمَّت رحمته: {ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} (المائدة: 6).
ومن فروع هذا الأصل أن الواجب الذى يشق على المكلف أداؤه ويحرجه يسقط عنه إلى بدل أو مطلقًا؛ كالمريض الذي يرجى برؤه، والذي لا يرجى برؤه ومثله الشيخ الهرم- الأول يسقط عنه الصيام ويقضيه كالمسافر، والثاني لا يقضي بل يكفّر عن فطره بإطعام مسكين فدية عن كل يوم إذا قدر. وأما المحرَّم فيباح للضرورة بنص القرآن، وإن كان تحريمه أو النهي عنه لسد ذريعة الفساد فيباح للحاجة.
الخامسة: منع الغلو في الدين وإبطال جعله تعذيبًا للنفس
وذلك بإباحة الطيبات والزينة بدون إسراف ولا كبرياء؛ قال تعالى: {يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (الأعراف: 31، 32).
وقال الله تعالى: {يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (النساء: 171)، وفى هذا النهي اعتبار للمسلمين؛ لأنهم أولى بالانتهاء عن الغلو بأن دينهم دين الرحمة واليسر. والأحاديثُ الصحيحة في نهي المسلمين عن الغلو في العبادة، وعن ترك الطيبات، وعن الرهبانية والخصاء؛ مبيِّنةٌ لهذه الآيات، وهي مصداق تسمية النبي ﷺ لملته بالحنيفية السمحة.
السادسة: قلّة تكاليفه وسهولة فهمها
وقد كان الأعرابي يجيء النبي ﷺ من البادية فيسلّم فيعلّمه ما أوجب الله وما حرّم عليه في مجلس واحد، فيعاهده على العمل به، فيقول ﷺ: “أفلح الأعرابي إن صدق”.
وكان هذا أعظم أسباب قبول الناس له، ولكن الفقهاء أكثروا بآرائهم الاجتهادية حتى صار العلم بها متعسرًا، والعمل بها كلها متعذرًا، ولا يعترض على هذه المزية بالصلوات الخمس في كلّ يوم وليلة؛ فإن أقلّ ما تجزئ به كلّ صلاة منها يمكن أن يؤدّى في خمس دقائق، ومنها صلاة وقتها عقب القيام من النوم في الصباح، وصلاة قبل النوم في الليل؛ فهل يشق على المرء أن يؤدى في سائر يومه ثلاث صلوات متفرقة في ربع ساعة منه؟!
السابعة: انقسام التكليف إلى عزائم ورخص
وكان ابن عباس يرجّح جانب الرخص، وابن عمر يرجّح العزائم، والناس درجات في التقصير والتشمير والاعتدال، فهو يوافق البدوي الساذج والفيلسوف الحكيم وما بينهما من الطبقات. قال الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} (فاطر: 32).
الثامنة: نصوص الكتاب والسنة وهدى السنة مراعَى فيهما درجات تفاوت البشرية في العقل والفهم وعلو الهمة وضعفها
فالقطعي منها هو العام، وغير القطعي تتفاوت فيه الأفهام، فيأخذ كل أحد منه بما أداه إليه اجتهاده، ولذلك كان النبي ﷺ يقرّ كل أحد من أصحابه فيه على اجتهاد كما فعل عندما نزلت آية البقرة في الخمر والميسر والدالة على تحريمهما دلالة ظنية، فتركهما بعضهم دون بعض، وأقر كلاًّ على اجتهاده إلى أن نزلت آيتا المائدة بالتحريم القطعي.
قال الله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ} (العنكبوت: 43)؛ وبيان ذلك أن الفرائض الدينية العامة فيه، والمحرمات الدينية العامة لا يثبتان إلا بنص قطعي يفهمه كل أحد، والأول مذهب الحنفية؛ وأما الثاني وهو التحريم فهو مذهب جمهور السلف أيضًا. وأما الآيات الظنية الدلالة وأحاديث الآحاد الظنية الرواية أو الدلالة، فهي موكولة إلى اجتهاد من ثبت عنده في العبادات والأعمال الشخصية، وإلى اجتهاد أولي الأمر في الأحكام القضائية والأمور السياسية.
التاسعة: معاملة الناس بظواهرهم، وجعل البواطن موكولة إلى الله تعالى
فليس لأحد من الحكام ولا الرؤساء الرسميين ولا لخليفة المسلمين أن يعاقب أحدًا، ولا أن يحاسبه على ما يعتقد أو يضمر في قلبه، وإنما العقوبات على المخالفات العملية للأحكام العامة المتعلقة بحقوق الناس ومصالحهم.
العاشرة: مدار العبادات كلّها على اتباع ما جاء به النبي ﷺ في الظاهر
فليس لأحد فيها رأي شخصي ولا رئاسة، ومدارها في الباطن على الإخلاص لله تعالى وصحة النية، والآيات والأحاديث في الأمرين كثيرة.
وبعد أن بيَّن الشيخ رشيد رضا هذه النقاط لمزايا الإسلام العامة في التكاليف الشخصية من الواجبات والمحظورات، أوضح أن كل واحدة من هذه العشر جديرة بأن تُجعَل مقصدًا خاصًّا من مقاصد الوحى، وبأن يُستدل بها على أنه من عند الله عز وجل، لا من الآراء والإلهامات النفسية لمحمد ﷺ الأميّ في عهد الكهولة، كما يزعم البعض.
إذن، هذه النقاط العشر ترسم صورة كلية لمزايا الإسلام العامة في الواجبات والمحظورات، وتصلح لأن تكون نموذجًا للرؤية الكلية للإسلام.. وقد يضيف آخرون لهذه النقاط أو يحذفون منها.. لكن في كل الأحوال، نحن بحاجة إلى التعاطي مع الإسلام- ومع القرآن الكريم أو السنة النبوية– من منظور كلي، يضيع أيدينا على الأصول والكليات، ويرسم لنا الملامح والإطار؛ فهذا أدعى لنحسن استيعاب التفاصيل والجزئيات، ونكون أقدر على التعريف برسالة هذا الدين الخاتم..
كما أن إبراز توجيهات الإسلام في تلك الصورة الواضحة، وبهذا الإطار العام الكلي، يجلِّي كثيرًا من حقائق الإسلام، ويدفع عنه شبهات لطالما رددها خصومه؛ ويبين من ناحية أخرى امتلاك الإسلام لنموذج متميز، سواء على مستوى المعرفة والتصور، أو العمل والتطبيق.. وكم نحن بحاجة لتجلية هذه الرؤى الكلية والتصورات العامة عن حقائق الإسلام ومقاصده وتوجيهاته..