إن غنى النبي ﷺ لم يعد أمرا يختلف فيه اثنان، إذ ثبتت سواء في كتب التراث الخاصة بسيرة النبي ﷺ وأيامه روايات موثوقة، وأكدته أبحاث علمية متخصصة أن النبي ﷺ كان ثريا منفقا، غير طاغ ولا ضان بماله بخيلا، بل كان زاهدا مع ما فتحت عليه من الدنيا، وكان رسول الله يقول عن نفسه: “ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها. بل منع بعض فقهاء الأندلس وصف رسول الله بالفقر واعتبره إهانة في حقه ﷺ يستحق عليه العقاب والتعنيف[1].
وقد تتبع الباحث عبد الفتاح السمان مصادر دخل رسول الله ﷺ وعدها في عشرة أصناف، تصديقا لقوله تعالى (ووجدك عائلا فأغنى)، وتتجلى هذه الحقيقة القرآنية من خلال هذه المصادر التي من أبرزها ما يأتي:
1- كسبه ﷺ من مزاولة التجارة – فقد اشتهر أن النبي ﷺ دخل في التجارة ومارسها مع قريش قبل البعثة، وتاجر في مال خديجة رضي الله عنها، زوجه وأم أولاده، بل استمر رسول الله في التجارة حتى بعد البعثة، يقول ابن القيم: ” باع رسول الله ﷺ واشترى، وكان شراؤه بعد أن أكرمه الله تعالى برسالته أكثر من بيعه، وكذلك بعد الهجرة لا يكاد يحفظ عنه البيع إلا في قضايا يسيرة أكثرها لغيره، كبيعه القدح والحلس فيمن يزيد، وبيعه يعقوب المدبر غلام أبي مذكور، وبيعه عبدا أسود بعبدين.
وأما شراؤه فكثير، وآجر واستأجر، واستئجاره أكثر من إيجاره، وإنما يحفظ عنه أنه أََجَّر نفسه قبل النبوة في رعاية الغنم ( «وأجر نفسه من خديجة في سفره بمالها إلى الشام»)[2].
وكان ما يكسبه رسول الله ﷺ من تجاراته يصرفها في سبيل الخير وإعانة المحتاجين، وهذا ما ذكرته خديجة عن زوجها ﷺ في ضحوة نزول أولى آيات الوحي، حين أفزع عليه السلام وآنسته بلكماتها الصادقة إذ قالت: “ كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق” [البخاري: 3].
وهذه الصفات الخمس أصول الكرم والجود لا تكتسب إلا بالإنفاق سواء بالمال أو البدن لذلك قال ابن حجر: (وصفته بأصول مكارم الأخلاق لأن الإحسان إما إلى الأقارب أو إلى الأجانب وإما بالبدن أو بالمال وإما على من يستقل بأمره أو من لا يستقل وذلك كله مجموع فيما وصفته به) [فتح الباري: 1/24]
2 – ميراثه من والديه ﷺ ومن زوجته خديجة رضي الله عنها – ثبت في كتاب الفراء وغيره أن النبي ﷺ ورث أموالا وفيرة من والديه، وكذا من زوجته خديجة رضي الله عنها، بعض هذه الأموال وقفية.
يقول أبو يعلى الفراء: “ذكر الواقدي: أن رسول الله – ﷺ – ورث من أبيه عبد الله أم أيمن الحبشية، واسمها بركة خمسة أجمال، وقطعة من غنم، ومولاه شقران وابنه صالحا، وقد شهد بدرا. وورث من أمه آمنة بنت وهب دارها التي ولد فيه بمكة في شعب بني علي. وورث من زوجته خديجة بنت خويلد دارها بمكة بين الصفا والمروة خلف سوق العطارين، وأموالا. وكان حكيم بن حزام اشترى لخديجة زيد بن حارثة من سوق عكاظ بأربعمائة درهم، فاستوهبه منها رسول الله – ﷺ – وأعتقه، وزوجه أم أيمن، فولدت منه أسامة بعد النبوة” [الأحكام السلطانية: 201].
3- خمس الأنفال والغنائم: وكانت الأنفال والغنائم التي ينالها المسلمون من قتالهم للمشركين أحد مصادر ثروة رسول الله ﷺ حيث يستحق منها خمس الأخماس، يقول الله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ). بل كانت الغنائم من أكبر وأغنى مصادر أموال الرسول ﷺ.
بل كان الفيء من الأموال التي من الله بها على رسوله ﷺ، وهو يختلف تماما عن الغنيمة، فالفي ء مال يحصله المسلمون من الكفار من غير قتال فهو كما قال الماوردي كمال الهدنة والجزية. مثال ذلك أموال بني النضير في المدينة المنورة، وفدك، وغيرهما كثيره .. وكان مال الفيء يشكل جزءا كبيرا من مصادر أموال النبي ﷺ. جاء في سنن أبي داود عن مالك بن أوس رضي الله عنه، قال: كان فيما احتجَّ به عمرُ أنه قال: كانتِ لرسولِ الله – صلَّى الله عليه وسلم – ثلاثُ صفايا: بنو النضير، وخيبر، وفَدَك.
فأمَّا بنو النَّضير: فكانت حُبُساً لنوائبه، وأمَّا فدكُ فكانت حبساً لأبناء السَّبيل، وأما خيبر فجزّأها رسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلم – ثلاثةَ أجزاءٍ: جزءَين بين المُسلمين، وجُزءاً نفقةً لأهله، فما فَضَلَ عن نفقةِ أهلِه جعلَه بين فقراء المُهاجرين. [سنن أبي داود 2967].
وتتبع الباحث عبد الفتاح السمان بعض أموال الفيء التي مَنّ الله بها على نبيه ﷺ واستنتج من ذلك الامور الآتية:
1- أن مال الفيء على كثرته يتصرف به النبي ﷺ كيفما شاء، يضعه في أصحابه المذكورين في القرآن الكريم ويختلف مستحقوه عن أهل الغنيمة التي تصرف أريعة أخماسها للغزاة والمجاهدين.
2 – أن النبي ﷺ أعطى العباس رضي الله عنه عمه جزءا كبيرا من الفيء تحقيقا لوعد الله إياه بالتعويض عن المال الذي أخذ منه يوم بدر مقابل فداء نفسه. وكان رسول الله يعطي من الفيء كذلك للمهاجرين والأنصار بعضهم أكثر من بعض.
3- أن النبي ﷺ لم يخمس مال الفيء كما يفعل في الغنيمة التي يأخذها المسلمون عن طريق الجهاد.
4- أن النبي ﷺ لم يقسم مال الفيء بالسوية لأن أمر صرفه إلى اجتهاده ﷺ، لذلك لا يعد الفيء خراجا أو زكاة أو جزية. [تعامل النبي مع أمواله: ص234].
[1] الشفا في حقوق المصطفى (2/218).
[2] زاد المعاد (1/154).