إن تزكية نفوس العباد من المَهمات التي بُعث بها النبي الكريم ﷺ، ولم تقتصر هذه المَهمة على الأنبياء والمرسلين، بل ورثها الأئمة والدعاة وغيرهم من محبي الخير، ورغبة مني في بيان فضل هذا الأمر أقدّم فكرة وجود ارتباط بين الشريعة وبين علوم التنمية البشرية النافعة والمفيدة والموافقة للشرع، وكما جاءت في كتابي ” المنهج الإسلامي في تنمية المهارات البشرية ” وهو أول كتاب من نوعه مصرح من مجمع البحوث الإسلامية في مارس 2016م ، ومن أهم هذه المهارات ” لغة الجسد”.
ومن الثابث أن العلاقة بين الإسلام وبين معرفة لغة الجسد هي علاقة وطيدة ومترابطة، فقد عرّف الإمام السيوطى علم الحديث النبوي الشريف كما فى كتابه تدريب الراوي بأنه: ” علم يُعرف به أقوال رسول الله ﷺ وأفعاله وأحواله .
فحركات وأفعال النبي محمد ﷺ لها دلالات ومعاني لا تقل عن أقواله، وبناءً على ذلك فدراسة لغة الجسد بوجه عام أمر مرغوب فيه بلا شك، ولعل من أهم هذه الإشارات القرآنية التي فتحت أعيننا على هـذا قوله عز وجل فى سورة مريم ﴿ فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29)﴾ ( سورة مريم الآيات 27 – 29)
وكذلك قوله تعالى فى سورة آل عمران ﴿ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)﴾ ( سورة آل عمران: الآية 41)
فاستخدام الإشارة في الآية الأولى، والرمز في الآية الثانية، يمثل دعوة إلى استخدام لغة الجسد.
وتُعرف لغة الجسد بأنها نوع من الحوار النفسي أو تواصل غير شفهي، يجري بين أكثر من طرف لا من خـلال النطق، بل من خـلال الصمت والملامح العامة للإنسان الصامت؛ كنظرات العيون وتعبيرات الوجه وحركات الجسم عن طريق إشارات وإيماءات تنطلق من جسد الإنسان ترسل رسالات محددة في مواقف وظروف مختلفة، تُظهر لـنا المشاعر الدفينة فنعرف من خلالها معلومات أو أفكـار عـن الشـخص الآخر
والمتتبع جيدًا لآيات القرآن والأحاديث يجد مدلولات هائلة للغة الجسد فمثلًا من تعبيرات العيون والنظرات:
(1) النظرة المتأملة والمتفكرة: وتتميز بمعاودة النظر إلى الشئ كما فى قوله عز وجل فى سورة الملك آية (3، 4) ﴿ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) ﴾
(2) النظرة العابرة غير المتفحصة: وتتميز بعدم إطالة نظر العيون إلى الشئ لاعتقادها بعدم اليقين بوجود ما يُبحث عنه فى هذا المكان، وهو ما حدث مع سيدنا إبراهيم عليه السلام عندما نظر فى النجوم ليبحث عن الله فقال عز وجل ﴿ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) ﴾ سورة الصافات آية (88)
(3) النظرة الباكية الحزينة: وتتميّز النظرة الباكية الصادقة بالانصراف عن الأعين حال البكاء فيقول الله عز وجل فى سورة التوبة آية (92) ﴿ وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ (92) ﴾
(4) نظرات الحاجة والفقر: وتتميّز بالنظر يمينًا وشمالًا وكأن صاحبها يبحث عن شئ، وجاء فى السنة ما يدل على ذلك، فعن أبي سعيدٍ الخُدريِّ رضي اللَّهُ عنه قال: بينَمَا نَحْنُ في سَفَرٍ مَعَ النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم إِذ جَاءَ رَجُلٌ على رَاحِلَةٍ لَهُ، فَجَعَلَ يَصْرفُ بَصَرَهُ يَمِيناً وَشِمَالاً، فَقَال رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: ” مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهرٍ فَليَعُدْ بِهِ عَلى مَنْ لا ظَهْرَ لَهُ، وَمَن كانَ لَهُ فَضْلٌ مِن زَادٍ، فَليَعُدْ بِهِ على مَن لا زَادَ لَه”( صحيح مسلم 1728)
(5) نظرات الاهتمام أو ما يُعرف بتوزيع النظرات: وغالبًا من يوزّع نظراته بين الحضور يكون مراده الاهتمام بهم جميعًا، وهو أمر مهم فى التواصل الفعّال، وقد فعل النبي (ﷺ) هذا الأمر كثيرًا، ومن ذلك ما رواه أبو بكرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي ﷺ على المنبر والحسن إلى جنبه ينظر إلى الناس مرَّة وإليه مرة ويقول: ” إن هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين”(البخاري 3741).
وعن لغة وتعبيرات الوجوه فى القرآن والسنة فهى كثيرة منها: وصف الوجوه الحزينة والمهمومة، وكذلك وصف الوجوه العابدة الحسنة وبيان مسببات ونتائج كل حالة.
وعن لغة الجسد في حركات اليد فقد وردت مجموعة من الآيات تمثل فيها هذا النوع من الاتصال عن طريق حركات اليد منها: حال اليد المغلولة البخيلة، وكذلك حال اليد المتقلبة النادمة، وبيان مسببات ونتائج كل حالة أيضًا.
وختامًا: فلقد حض القرآن الكريم على استخدام وتوظيف بعض الحركات الجسدية التي من شأنها أن تشيع أجواء إيجابية في المجتمع من تلاحم وعطف ورحمة وحب بين الناس، وعلى الأخص لغة الجسد المرتبطة بالوجه كالابتسام والسمت الحسن، وكذلك فقد حذّر القرآن الكريم والسنة المطهرة من ممارسة بعض الحركات الجسدية السلبية والتى تؤذى مشاعر الآخرين كاللمز والغمز والهمز.
وأعتقد أن استخلاص هذه الفوائد من الآيات والأحاديث بما لا يخالف الشرع له دور قوى في تعظيم قدر الدين عند بعض الشباب الحائر تجاه شبهات الإلحاد لأنه سيدرك لا محالة أن هذا الدين دين رباني أتى لمصلحة البشر.