أوضح الدكتور إبراهيم أبو محمد، مفتي أستراليا، أن رمضان في أستراليا له وقع خاص، حيث أن دوافع الخير في النفس يزداد تألقها في هذا شهر الكريم بالإقبال على الله، سعيًا إليه ومسارعة لطاعته. ووجَّه الدعاةَ للاستفادة من هذا الاستعداد النفسي، مشيرًا إلى أن “الخطاب الدعوي” في رمضان يجب أن يعمل على فتح نوافذ العقل والوجدان؛ لاستقبال رسالة الرشد، وإعادة النظر فيما طرأ من استقامة أو انحراف.
ورأى مفتي أستراليا في حوار خاص مع “إسلام أون لاين“ أن من أبرز سلبيات الخطاب الدعوي في رمضان التركيز على النوافل وإهمال الفرائض؛ مطالِبًا بالانتباه إلى الفرائض الاجتماعية والاقتصادية والعلمية والسياسية وغيرها، مما يشكل قاطرة لنهضة الأمة، وبعث حضارتها من جديد، على حد قوله. وفيما يلي نص الحوار:
ماذا يمثل شهر رمضان بالنسبة للأمة الإسلامية؟ وما رسالته الأساسية لها ؟
رمضان يمثل الذاكرةَ الحية للأمة الإسلامية، والسجل المحفوظ بيوم ميلادها حين نزل القرآن الكريم فيه.. ورسالته للأمة أنه يعيد انتعاش الذاكرة كل عام في هذا الشهر؛ لتستعصي المناسبة على النسيان، ولتذكر المسلمين وأمتهم بربيع حياتهم، الذى بدأ واخضرت أوراقه في هذا الشهر العظيم. ومن ثم فهو المحتوى الزماني لرسالة الخلود؛ أمة وكتابًا ورسالة ورسولاً.
كيف ترى الخطاب الدعوي في رمضان ؟
الخطاب الدعوي في رمضان يجب أن يعتمد الفطرة رصيدًا يساعد الداعية على تحريك المشاعر وفتح نوافذ العقل والوجدان؛ لاستقبال رسالة الرشد، وإعادة النظر فيما طرأ على تلك الفطرة من مزيد استقامة أو نقص بانحراف.. والداعية الموفق هو من يحمل دافعًا ومحفزًا للاستقامة وترياقًا للانحراف.
وفيما يتصل بأهم إيجابيات الخطاب الدعوي في رمضان، فهي كثيرة، نذكر منها: أن دوافع الخير في النفس البشرية تكون أسرع في الاستجابة وأقوى في حركة اندفاعها، وهذا ليس من صنع الداعية ولا من خطابه الدعوي، وإنما هو محض فضل من الخالق الذي جعل الدين في النفس فطرة، وجعل الفطرة في التكوين البشرى نعمة؛ فاجتمعت الفطرة والنعمة في انتظار إشارة البدء الذكية من الداعية الموفق لتضيء وتشرق، ويزداد تألقها في هذا الشهر الكريم بالإقبال على الله سعيًا إليه ومسارعة لطاعته.
وأما أبزر السلبيات فهي التركيز على النوافل وإهمال الفرائض؛ لا أقصد الفرائض الدينية فقط، وإنما أقصد الفرائض الاجتماعية والاقتصادية والعلمية والسياسية وغيرها، مما يشكل قاطرة للإقلاع الحضاري، ونهضة الأمة، وبعث حضارتها من جديد.
وهذا ما يجب أن يحظى باهتمام الخطاب الدعوي؛ حيث عمارة الحياة مقصد من مقاصد شريعتنا، ولا يصح دينًا ومروءة أن يكون المسلم حاضرًا في المسجد وغائبًا عن باقي ميادين الحياة. تلك كارثة تتنافى مع توجيهات سيد الخلق الذى جُعلت له الأرض مسجدًا وطهورًا.. وعلى الدعاة أن يفعِّلوا رغبة وتطلعات العقل المسلم في النهوض واليقظة، وأن يكفوا عن استعمال وسائل التخدير العقلي والإرادي وأن يحذروا من خطورتها.
نلاحظ في رمضان تجدد الجدل حول أحكام فقهية معينة، بشكل متكرر، مثل رؤية الهلال فلكيًّا، وإخراج زكاة الفطر نقدًا.. هل يعكس ذلك أزمة العقل المسلم في دورانه حول قضايا بعينها، وربما لا تحتل مرتبة في سلم الأولويات ؟
هذا سؤال مهم جدًّا؛ لأنه يدخل في توصيف أزمة تعكس شيئًا من سر تخلفنا، وهي انقلاب قائمة أولوياتنا، هذا إذا افترضنا وجود أولويات من الأصل!
والحديث عن تلك الأزمة مملوء بالآلام، والخوض فيه ينكأ جراحًا تعايشنا معها، ونحمد الله أن روضنا أنفسنا على قبولها بمرارة.
وأعجب من أمة تدمن سر تخلفها، وتستحييه في كل عام، وكأن هناك مواسم لكشف فضائحنا وإذاعتها على العالم كله، عند بداية رمضان وعند نهايته.
ازدحام الفضائيات بالكثير من البرامج الدينية.. كيف تنظر إليه ؟
اختلاط قليل من الحق بكثير من البهتان والباطل، ولعله يكون تكفيرًا عن خطايا محاولات اغتيالِ ثوابت، واستلابِ قيمٍ ومروءات، وتسطيح عقول، وليتها لم تزن ولم تتصدق.
رمضان فرصة لمراجعة النفس، على مستوى الفرد والأمة.. كيف نمارس ذلك عمليًّا ؟
نعم رمضان فرصة لمراجعة النفس، لكن الفرصة ليست متاحة أو قاصرة على الشهر وحده، فذلك مطلوب في كل وقت، والممارسة العملية تبدأ بتحضير شيئين اثنين؛ الأول: هو الوعي الذي تعلمناه من الإسلام أن الله جل جلاله يحب التوابين ويحب المتطهرين، ويقبل توبة العبد مالم يغرغر؛ ومن ثم، فدقيقة واحدة باقية في العمر هي أمل فسيح في رحمة الله: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} (الأعراف: 56).
والثاني: هو الإرادة التي تتحرك سعيًا إلى الله بالكدح الشريف لتتعرض لتلك الرحمات.. فإذا استحضر المرء وعيه وإرادته كان السعي المشكور، الذى يفضي إلى الدخول في شرف العبودية، ويستمتع صاحبه بالنداء العلوي: {يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُون} (الزخرف: 68).
شهر رمضان والقرآن الكريم بينهما تلازم وترابط وثيق.. كيف نتجاوز القراءة باللسان إلى الفهم والتدبر والمدارسة ؟
تلك علة أخرى يشير إليها سؤالكم المهم؛ فالقرآن ليس كتابًا عاديًّا، وإنما هو كتاب الوجود والخلود، ومفاهيمه تؤسس لحضارة، وتبنى أممًا، وتؤهل أصحابه لموقع القيادة والريادة، والمسلمون الأوائل تعاملوا معه بشروطه في البناء والتأسيس وتقعيد القواعد، فكان كل ذلك..
غير أن المسلمين في عصور الانحدار والانكسار قصروا جهودهم على ضبط تشكيل كلماته وحروفه، وذلك هو الحد الأدنى طبعًا، ولكن أجلّ العبادات في هذا الكتاب تتجلى في الوعى بمقاصده، وأهدافه، وغاياته الكبرى في تغيير النفوس والمجتمعات، والخروج بنا من ضيق الذات بذاتها إلى رحابة الأفق اللامحدود، وإلى التفاعل مع الوجود والكون، والإحساس العامر بوجود الحق والأنس به، في كل عمل وفي كل وقت.. بالإضافة إلى استشعار العلاقة التي صنعها القرآن- والتي تكاد تكون عاقلة- بين الكائن والكون؛ أي بين الإنسان ومفردات الطبيعة ومنظومة الوجود والكون.. وهذا كله لا يتأتى إلا بالتدبر والفهم والمدارسة.
بم يتميز شهر رمضان في حياة مسلمي أستراليا؟
يتميز شهر رمضان في أستراليا بالتواصل والفرحة، التي اختنقت من قبل في نفوس الفقراء والمهاجرين وذوي الحاجات؛ حيث الدعم والمساندة والكرم الذي يملأ النفس حبورًا ورقة وإنسانية..
وبهذه المناسبة أتوجه للمسلمين في كل بقاع الأرض بالتهنئة الخالصة بالشهر الكريم، سائلاً الله سبحانه أن يرزقنا حسن الإفادة من هذه الأيام المباركات، وأن يجعلنا من أهل القرآن الكريم، قراءةً وتدبرًا وعملاً..