أعتقد أن أحد أهم مكاسب الفكر الإسلامي في العقود الأخيرة، أن قضية “التجديد” من حيث المبدأ أصحبت قضية مسلَّم بها، مقطوع بالحاجة إليها؛ وذلك بعد أن خاض الفكر الإسلامي سجالات كثيرة تنتزع مفهوم التجديد من متخوفين من الانحراف به- نتيجة ظروف طرحه، التي كانت تثير ريبة وشكوكًا- وتنتزعه أيضًا ممن يحاولون تمرير أطروحاتهم المغلوطة باسم التجديد، وتحت لافتته ذات المصداقية والجاذبية..
فبعد هذه السجالات نكاد لا نرى معارضًا لقضية التجديد من حيث المبدأ، وأصبح التساؤل منصبًّا على: شروط التجديد، وضوابطه، ومساراته.. إلى غير ذلك مما يضمن ألا تنحرف البوصلة عن وجهتها.
غير أن من الملاحظ أنه غالبا إذا طُرحت قضية التجديد، تنصرف الأذهان لمجال معين من المجالات التي ينبغي أن يتطرق إليها التجديد.. أعني: المجال الفقهي. وربما كان العذر في ذلك هو ما طرأ على حياتنا من قضايا وإشكاليات تتصل بتعاملات الناس، ويريدون فيها قولاً يبين حكمها من الإباحة أو المنع.. وبالتالي استحوذ “التجديد الفقهي” على مساحة كبيرة من النقاش المتصل بقضية التجديد.
غير أن هناك نوعًا آخر، لا يقل في الأهمية، وينبغي أن ينال حظه من الدراسة والبحث؛ وهو “التجديد الفكري”.
وهذا النوع من التجديد يتماس مع “التجديد الفلسفي”، غير أنه يتمايز عنه؛ فالتجديد الفلسفي ذو صبغة أكاديمية، وينشغل بموضوعات تبدو نخبوية يحتاجها الدارسون المختصون أكثر من غيرهم.. أما التجديد الفكري فيتصل بحياتنا الثقافية من زاوية أعم وأشمل، ويتطرق لموضوعات تستحوذ على اهتمام شرائح أوسع من المهتمين بالعلم والمعرفة.
ولكي نحدد ما نقصده بـ”التجديد الفكري”، نشير بإيجاز إلى معنى الكلمتين اللتين يتكون منهما المصطلح. فـ”التجديد” هو إعادة الشيء إلى أصله. وعرفه الْعَلْقَمِيُّ بأنه: “إِحْيَاءُ مَا انْدَرَسَ مِنَ الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالْأَمْرُ بِمُقْتَضَاهُمَا”([1]).
وأما “الفكر” فهو إعمال العقل في موضوع من الموضوعات؛ لنعرف مقوماته وخصائصه وما يتعلق به؛ بحيث يتضمن محاولة تحليلية للتوصل إلى المبادئ أو العناصر الأساسية للموضوع، ومحاولة تركيبها إبداعيًّا؛ سعيًا إلى الكشف عن المطالب المجهولة أو حلول المشكلات التي يتصدى لها هذا الفكر([2]).
وعلى هذا، يمكن القول بأن “التجديد الفكري” هو إعادة الاعتبار للفكر في كل ما يتصل بالإنسان من قضايا في مختلف المجالات.
نحن، إذن، أمام أنواع من التجديد الفكري تتعدد بتعدد مجالات الحياة، وتطلعات الإنسان؛ فهناك التجديد الفكري في الدين، والتجديد الفكري في السياسة، وفي الاقتصاد، وفي الاجتماع.. إلخ.
ولتفعيل “التجديد الفكري”- في عمومه- نحتاج إلى عدة أمور، منها:
إعادة الاعتبار للعقل
فالفكر عمل العقل، ولا يمكن توليد فكر جديد بينما العقل- الملَكة وآلة التفكير- معطَّل أو مهمَّش أو يُنظر إليه بازدراء.
إن تعطيل العقل أو تهميشه يعني ألا يستفيد الإنسان من سائر ملكاته على النحو المرجو؛ فالعقل هو مناط التكليف، وهو ما يميز الإنسانَ من الجماد والنبات، والعاقلَ من غيره، وهو المحرِّك لما سواه من جوارح.. وبقدر ما يعطل الإنسان من ملكاته العقلية، فإنه ينزل درجة إلى ما دونه، ويصنع حاجزًا يباعد بينه وبين إمكانية الترقي في الكمالات.
ولهذا يتحسر الكفار يوم القيامة على تعطيلهم العقل وعدم إعماله، قائلين: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (الملك: 10). جاء في تفسير النفسي: “{لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ}: اَلْإِنْذَارَ؛ سَمَاعَ طَالِبِ الْحَقِّ. {أَوْ نَعْقِلُ}: أَيْ نَعْقِلُهُ؛ عَقْلَ مُتَأَمِّلٍ. {مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}: فِي جُمْلَةِ أَهْلِ النَّارِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَدَارَ التَّكْلِيفِ عَلَى أَدِلَّةِ السَّمْعِ وَالْعَقْلِ؛ وَأَنَّهُمَا حُجَّتَانِ مُلْزِمَتَانِ”([3]).
عدم الركون للقديم أو الجديد
إن التجديد الفكري يقتضي عدم التسليم بما يتوارثه الناس، ولا بما يستجد عليهم.. وإنما يقف الإنسان منهما موقفًا نقديًّا؛ بحيث يُخضع ما يعرفه للفحص والدرس، ويدور مع الدليل حيث دار، ولا يجعل من القديم أو الجديد حجة بذاته؛ وبالتالي، لا يرفض القديم لأنه قديم، ولا يقبل الجديد لأنه جديد.. وإنما يكوِّن لنفسه معيارًا ومقياسًا يرى الأمور من خلالهما.
وإن المشركين لما جعلوا ما يتوارثونه عن آبائهم حجةً في ذاته، رافضين الجديد الذي جاءهم الأنبياء به؛ وقعوا أسرى الباطل، وحرموا أنفسهم من نعمة الوحي وهدايته: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} (البقرة: 170). قال القرطبي: “التقليد ليس طريقًا للعلم ولا موصِّلاً له؛ لا في الأصول ولا في الفروع؛ وهو قول جمهور العقلاء والعلماء”([4]).
وللعقاد كلمة بليغة هنا، إذ يقول: “الاستقلال يتجلى حينًا في التحرر من القديم، ويتجلى حينًا آخر في التحرر من الجديد”([5]). وهذا ملمح مهم؛ لأن الجديد له سطوة قد يصبح معها المرء مقلِّدا بأشد من تقليده للقديم.. فيكون قد وقع فيما فرّ منه!! أما الاستقلال الحق، والتجديد الفكري المطلوب، فيكون باتباع الصواب- أو بالأدق: ما يظنه المرء صوابًا- كان قديمًا في النشأة أم جديدًا.
التجديد لا يعني الانفلات
للأسف، يتصور البعض، خاصة المتأثرين بالحضارة الغربية ومناهجها، أن التجديد يعني الانفلات والتفلت من أية قيود أو ثوابت. ولعلهم ظنوا أن “الجديد” بما أنه مضاد للقديم، إذن “التجديد” ثورة على هذا القديم الذي يمثل الالتزام به- كما زعموا- قيدًا يمنع من الحيوية والتطور! وقد فاتهم أن الجديد وإن كان مضادًا للقديم من حيث اللغة؛ فإن التجديد ليس كذلك؛ إذ هو- كما سبقت الإشارة- يعني إعادة الشيء إلى أصوله، وليس قضاء على أصوله، وإلا أصبحنا أمام شيء مغاير تمامًا!
فالتجديد يعني إزالة الغبش عن الشيء، لا إزلة جوهره وحقيقته.. والتجديد إنما هو تأكيد للأمر المجدَّد، وليس نفيًا له؛ ودعمًا له، لا انقضاضًا عليه..
إن تجديد الدين لو كان باطِّراحه؛ لكان هذا نفيًا له لا تجديدًا، وتبديدًا لحقيقته لا عودة إليها!
ولهذا، فالتجديد لا يعني الانفلات؛ وإنما هو حركة منضبطة بغيةَ المحافظة على جوهر الشيء، والوصول إلى حقيقته، وتمييز ما يتصل بذلك الجوهر وتلك الحقيقة مما هو دخيل عليهما وطارئ!
فنحن ننشغل بتجديد الدين لنحافظ عليه، لا لنهدمه.. ولنعود إلى حقيقته، لا لنبدد هذه الحقيقة.. ولهذا، فمن يخرجون على ثوابت الأحكام باسم الدين، نقول لهم: أين ما تبقى من الدين بعدما خرجتم على ثوابته، وهدمتم أصوله! إنه لم يَبق من الدين- حينئذ- شيء، حتى يوصف بأنه مجَّدد، أو حتى تزعمون أن ثمة عمليةً تمت تسمَّى التجديد!
المرونة في التفكير والوسائل
التجديد الفكري يستلزم بالضرورة- بعد تمييز “الجوهر” من “الدخيل”- وجود قدر من المرونة؛ سواء في التفكير وتقليب وجوه الشيء، أو في الوسائل والخطوات العملية.. وهذا يتأتَّى بعد تمييز آخر، يتمثل في تمييز “الثابت” من “المتغير” في القضية التي يراد لها التجديد.
لأننا لو نظرنا للشيء المراد تجديد على أنه “كتلة مصمتة”، لأدَّى ذلك للجمود.. وفي المقابل، لو نظرنا إليه على أنه “كتلة هلامية”، لأدى ذلك للذوبان! أما لو أخذنا في الاعتبار وجود قدر من الثوابت وقدر من المتغيرات، لحافظنا على الجوهر واستوعبنا الجديد في آن واحد.
إن الجمود الفكري بشأن قضية ما، يؤدي للانقلاب عليها وتجاوزها بالكلية.. كما حدث مع الكنيسة؛ حين جمدت على تفسيرات معينة، وأفهام قاصرة، فانقلب الناس لا على الكنيسة فحسب، وإنما على الدين ذاته!
ولعل هذه إحدى خصائص الإسلام الكبرى، فهو قد وضع للناس “ثوابت” محددة ومحدودة، لا تتغير على اختلاف الزمان والمكان والحال، ثم ترك لهم “مساحة مرنة” تستوعب المتغيرات، وتتكيف مع المستجدات، وتراعي اختلاف الأفهام والأزمان والأماكن والأحوال.. وبهذا تظل رسالةُ الإسلام كلمةَ الله الأخيرة الخاتمة حتى قيام الساعة..
إننا بأشد الحاجة لنهتم بقضية “التجديد الفكري”، وفي شتى المجالات؛ حتى تتحرك مياهنا الراكدة، وتتغير أحوالنا الجامدة، ونواجِه مشكلاتنا التي لا تكفُّ عن التجدد.. وعلينا أن نواجهها بتجدد فكري مماثل!
([1]) عون المعبود شرح سنن أبي داود، 11/ 260.
([2]) قول في التجديد، د. حسن الشافعي، 13، 14.
([3]) تفسير النفسي، 3/ 513.
([4]) الجامع لأحكام القرآن، 2/ 212.
([5]) الاتجاهات الحديثة في الأدب العربي، عباس محمود العقاد، مقال بمجلة “الرسالة”، العدد 606، 12 فبراير 1945م.