لا يتوقَّف مفهوم الدعاء في فهم بديع الزمان سعيد النُّورسِي عند حدود المعنى العام الشائع لدى أغلبية المسلمين؛ وإنَّما يتعدَّاه إلى فضاء أرحب بحيث يشمل كلا من: العبادات والـمعاملات {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۚ رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ}.[إبراهيم: 40] {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَىٰ أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا}.[مريم: 48] وليس أدلَّ على ذلك من ربطه العبقري ما بين “الدُّعاء” من جهة، وضرورة “الأخذ بالأسْباب” من جهةٍ أخرى. فإذا كان مفهوم الدعاء هو “مخُّ العبادة”[سنن الترمذي: حديث رقم 3371] ورُوحها، فإنَّه يكون بحسب النورسي على ثلاثة أنواع:
النوع الأول: دعاءٌ بلسان الاستعداد والقابلية الـمُودَعَةِ في الشَّيء. وثمَّة دعاءٌ من هذا النَّوع – أي بلسان الاستعداد – هو عبارة عن “اجتماع الأسباب”، فاجتماع الأسباب دعاءٌ لإيجاد الـمسبَّب؛ أي أنَّ الأسباب تتَّخذ وضعًا مُعينًا وحالةً خاصَّة بحيث تكون كلسان حالٍ يطلبُ الـمسبَّبَ من القدير ذي الـجلال سبحانه وتعالى، فاجتماع الأسباب إذن إنَّما هو نوعٌ من “الدُّعاء” {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}.[الواقعة: 63- 64]
النوع الثاني: الدُّعاء الذي يُسأَلُ بلسان “حاجة الفِطْرة”، فالكائنات الـحيَّة جميعها تسأل حاجتَها الـخارجة عن طوْقِها واختيارِها من خالِقها. وإغداقُ هذا “الإحسان” و”الإنعام” من قِبَل الـمولى عزَّ وجلَّ ما هو إلا استجابةٌ لدعاءٍ فِطْرِيٍّ لدى الإنسان {وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ ۖ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا}.[الإسراء: 11]
النوع الثالث: الدُّعاء الذي يسْألُه ذوو الشُّعور لتلبية حاجاتِهم، ويكون على ضربين: فدُعاءُ الـمُضطر مُستجابٌ {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ}[النمل: 62]، والدُّعاء الثاني الـمعروف: إما فِعْلِيٌّ أو قوْلِيٌّ؛ فمثلا حرْثُ الأرض – بحسب النورسي – نوعٌ من الدُّعاء الفِعْليِّ حيث يطلب الإنسان الرِّزق من رازِقه الـحكيم؛ يطلبه منه – لا من التُّراب، فالتُّراب بابٌ لخزينة رحْمة الله الواسعة ليس إلَّا {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ}[الذاريات: 22] – وإنَّما يطرقهُ الإنسان بالـمحْراث {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ۖ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا}.[الشورى: 20]
وضمن هذا السِّياق، يُشدِّد النورسي على ضرورة الأخذ بأسباب العمل الإيجابيِّ البنَّاء في ضوء ظروف العصر ومُقتضياته، وأحوال العالَم الـحديث التي تزْداد تردِّيًا. يقول في ذلك الـمعنى: “إنَّ الـحياة البشرية ما هي إلا كَرَكْبٍ وقافلةٍ تمضي، وقد رأيتُ – بنور القرآن الكريم في هذا الزَّمان – أنَّ طريق تلك القافلة الـماضية أدَّتْ بهم إلى مُسْتَنْقَعٍ آسنٍ، فالبشرية تتعثَّرُ في سيرها فهي لا تكادُ تقوم حتَّى تقع في أوحالٍ مُلوَّثةٍ مُنْتِنَةٍ. لكنَّ قسما منها يمضي في طريقٍ آمنةٍ، وقسمٌ آخر قد وجد بعض الوسائل لتُنْجيه – قدر الـمستطاع – من الوحْل والـمسْتنقَعِ، وقسْمٌ آخر – وهم الأغلبيةُ – يَمْضُون في ظلامٍ دامسٍ في ذلك الـمسْتنقَعِ الـمُوْحِل الـمُتَّسِخِ”.[الـمكتوبات: الـمكتوب الثالث عشر، ص 61] {قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۚ قَالُوا فَادْعُوا ۗ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ}.[غافر: 50]
وتبعا لذلك؛ فإنَّ الرَّحمة الإلهيَّة الرَّبانية الواسعة مقرونةٌ – في رأي النُّورسي – بأنْ يُظْهِرَ العبدُ حاجاته الـخاصَّة، وحاجات جميع الـمخلوقات وفقْرِها بلسان السُّؤال والدُّعاء {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}.[غافر: 60]، وأن يُعْلن إحسانَ ربِّه وآلائه العميمة بالشُّكر والثَّناء والـحمد؛ بقوله: {الْحَمْدُ لِلَّـهِ} [الفاتحة: 2]؛ كما في قول إبراهيم – عليه السَّلام – {الْحَمْدُ لِلَّـهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ}.[إبراهيم: 39] وكما في دعاء زكريا – عليه السَّلام – {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ۖ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ۖ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ}.[آل عمران: 38] فالدُّعاء – في فهم النورسي – مجلبةٌ للرَّحمة الإلهية، ولهذا نراه يُشدِّد كثيرا على ضرورة أن ننظر إلى ألطاف آثار الرَّحمة الإلهية؛ ويَقْصِدُ بها كلًّا من: الـمحبَّة، والشَّفقة، والعشق، وكيف أنَّ الهجران الأبديَّ لا يُعادِلُ الـمحبَّة ولا يُوازيها. {وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا ۚ وَمَا عِندَ اللَّـهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}.[القصص: 60]
ومن ثمَّ، فإنَّ رحمة الله تُعَدُّ بنظره أعظم وسيلة تتولَّدُ منها مظاهرُ شفقةِ الإنسان على بني جنسه، وإنَّ أبلغ مثال لها، وأفضل مَنْ يُمثِّلُها هو الذي سُمِّي في القرآن الكريم {رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}.[طه: 107] وما بين دائرتيْ الرُّبوبيَّة والنُّبوة يتحرَّك مقصدُ “التَّفكُّر الإيمانيُّ” الـموصِّل إلى معرفة الله تعالى {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّـهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}.[آل عمران: 159]
وهكذا يقود مفهوم الدعاء الـمسلم إلى الـمحبوبيَّة بطريق العبوديَّة {لَّا يَسْأَمُ الْإِنسَانُ مِن دُعَاءِ الْخَيْرِ}[فُصِّلت: 49]، كما يقود الفقر الـمريد إلى اسم الله “الرَّحمن”، فيما توصِّلهُ الشَّفقةُ إلى اسم الله “الرَّحيم”، وأخيرًا يصلُ بواسطة التَّفكُّر إلى اسم الله “الـحكيم”. وكلُّ ذلك ببركة الدعاء الذي يجب ألا يقتصر على السَّالك أو الـمريد في حدود نفسِه وحسب، كما أنه ليس مُنفصِلًا عن الأبعاد الوظيفية الاجتماعية التي تُرافق مسيرة التَّرقِّي الرُّوحي، وتكون ثمارًا لها في الآن نفسه {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}.[غافر: 60] ولعلَّ مما له مغزى هاهنا هو ورود هذه الآية في سورة عنوانها الـمغفرة؛ وليست الـمغفرة ببعيدة عن الرَّحمة التي هي استجابة للدُّعاء.