تقدم في الجزء الأول من هذا مقال مقاصد الشريعة الإسلامية من الصيام، إبراز مقاصد التقوى وتزكية النفس في الصيام، وترمز هذه المقاصد إلى الجانب الروحي من الإنسان، لأن المرء حين يؤدي الصيام على وجهه فإنه يشعر بزيادة درجة إيمانه، وشدة قربه وإنابته إلى الله تعالى، ولدينا مقاصد أخرى شرعية تستقى من معالجة الصيام للجوانب الاجتماعية أو الإنسانية. نذكر بعضها فيما ياتي
3- التكافل والمواساة مع المحرومين والمعسرين
إن الصيام في شهر رمضان يقرب الفجوة بين الفقير والغني، وبين الواجد والفاقد، يتذكر الغني معاناة الفقير حين يتكبح ليالي وأياما في الجوع والعطش، ولا يمكن لأحد أن يفهم حقيقة الضعف الذي يعالجه الفقير بشكل يومي إلا من ينازله ويعايشه، وعلى هذا جاء شهر رمضان ليذكر الغني بحالات البؤساء والفقراء في المجتمع فيتكافل معهم، ويعلم لهم في ماله حقا، لذلك نرى السلف يقولون: إن الصيام شرع ليذوق الغني طعم الجوع فلا ينسى الجائع. (لطائف المعارف: 168).
وكذا وصف الشيخ السباعي شهر رمضان في قوله إنه شهر فقر إجباري يتساوى فيه الناس جميعا فيشتركون في الآلام المنبعثة عن الشعور بالواقع، لا عن التخيل بالفكر، ومن الآلام تنشأ الرحمة، ومن الرحمة تنبعث العدالة، فما أجمل الحياة كلها حين تكون اشتراكا واحدا في الألم والإحساس، وما أجمل الزمن لو كان كله رمضان يحقق أسمى ما في الاشتراكية وخير ما تدعو إليه، وهو المساواة والاطمئنان! (أحكام الصيام وفلسفته: 68).
وكان من مظاهر التكافل الاجتماعي الذي ندب الشارع إليه في هذا الشهر الفضيل التكثير من الصدقات والهبات لذوي الحاجات، وهذا يعمم الخير في المجتمع، فكان رسول الله ﷺ يجود في رمضان، وإنه لأجود بالخير من الريح المرسلة! ودلالة التشبيه هنا على المبالغة في إنفاق الرسول ﷺ على وجه الخير واسترساله فيه، وبدون توقف خلال أيام رمضان، ويكون إنفاقه بطريق ليست فيه مضرة على الآخذ، وهنا جاءت المفاضلة على الرياح المرسلة، فإن منها المبشرة والضارة العقيمة، أما عطاءات النبي ﷺ فإنها لا تنطوي على خبيئات سيئة!
جاء شهر رمضان ليذكر الغني بحالات البؤساء والفقراء في المجتمع فيتكافل معهم، ويعلم لهم في ماله حقا، لذلك نرى السلف يقولون: إن الصيام شرع ليذوق الغني طعم الجوع فلا ينسى الجائع
كما استحب الشارع تفطير الصائم للموسرين من المسلمين عموما، لأن تفطير الصائم يبعث في القلب مواساة الضعيف والمنكوب فلا يبقى بيت مسلم في المجتمع لا يعمه هذا الخير الرمضاني. واختار الفقهاء أن التفطير المقصود تشبيع الصائم كما دل عليه حديث أم عمارة الأنصارية قالت: (إن الصائم تصلي عليه الملائكة إذا أكل عنده حتى يفرغوا»، وربما قال: (حتى يشبعوا)، قال عنه الترمذي: حديث حسن صحيح.
4- الصبر والتجلد على أمور الطاعات
تقرر لدى الفقهاء أن التكاليف الشرعية وإن كان فيها شيء من الكلفة فإنها لا تخرج عما يطيقه الإنسان السوي، كما أن طبيعة هذه الكلفة أو المشقة من النوع الذي يألفه الناس، وذلك مع قليل الصبر والمجاهدة، والعزيمة القوية، وهذا الصبر الذي يتمرن عليه المسلم في موسم رمضان، حين يمسك ساعات من نهاره عن المفطرات، بل يقل هذا التعب الذي يصاحب التكاليف – إن لم يتحول إلى المألوف – إذا وضع المسلم صوبه الأجور التي تترتب على هذه الأوامر الشرعية! وقديما قيل: من يعرف المطلوب يحقر ما بذل!
لهذا دعا المولى سبحانه عباده إلى الصبر، وأثنى على الصابرين، وبين أن الصبر في موضع العزائم يحتاج إلى النية والتوجه لكي ينال الإنسان معونة الله عليه يقول الله تعالى: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ)، وهذه الآية كانت خطابا للنبي ﷺ بالصبر على العزائم حين توعد الكفار أن يعاملهم بالمثل، فأنهاه الله عن ذلك ودعاه لما هو خير، وهو الصبر على مساوئهم! وأدركته عليه السلام معونة الله على ما لاقاه من أفعال الكفار.
وفي إطار الحديث عن مقاصد الشريعة الإسلامية والصيام، نقول إن الصيام وسيلة للتدرب على الصبر والمجاهدة، ومن هنا أطلق عليه شهر الصبر، فإن الرجل يترك ما يحبه ويستلذة مما تهواه نفسه من أطايب الطعام والشراب في نهار رمضان لأجل مرضاة الله، وهو أمر شاق على النفس الجياشة للملذات، كما يفارق نومه وراحته بالليل للقيام بين يدي الله، وهو جهاد كذلك فكان أجر الصائم حسب نصبه! يقول ابن رجب: إن المؤمن يجتمع له في شهر رمضان جهادان لنفسه: جهاد بالنهار على الصيام وجهاد بالليل على القيام فمن جمع بين هذين الجهادين ووفى بحقوقهما وصبر عليهما وفي أجره بغير حساب، قال كعب ينادي يوم القيامة مناد بأن كل حارث يعطى بحرثه ويزاد غير أهل القرآن والصيام يعطون أجورهم بغير حساب!
الصيام يوجه نشاط العبد في عبادته، ويجدد له طاقته، ويعوده على الحركة، وتعاطي أبواب الطاعات المختلفة، وهذا ما يميز هذا الشهر
وهنا اعتبر صيام شهر رمضان من أعظم المدارس التربوية التي تعين على التحلي بفضائل الصبر والمجاهدة.
5- فكرة إنجاز العمل في رمضان
إضافة إلى ما سبق، وضمن الحديث عن مقاصد الشريعة الإسلامية والصيام، فإن شهر الصيام يدرب الإنسان على منهاج العمل للأهداف المستقبلية منه، البعيدة منها والقريبة، لأن من شأن هدف العمل أنه يساعد على مواصلة العمل حتى النهاية، ولغاية تحقيق الهدف منه، وهذا ما يسمى “بفقه الإنجاز العملي”، ويظهر هذا المعنى بوضوح في صيام رمضان، فإن من مقاصده أنه يوجه نشاط العبد في عبادته، ويجدد له طاقته، ويعوده على الحركة، وتعاطي أبواب الطاعات المختلفة، وهذا ما يميز هذا الشهر، فإنه يتسع لجميع أنواع العبادات من صلاة وصدقة وصلة وعمرة .. وغير ذلك، حسب نشاط الشخص وهمته! ثم يوجه كل هذه الجهود بالرغائب والأهداف السامية في الدنيا والآخرة، وهذا ما يؤكده الحديث: (للصائم فرحتان يفرحهما، فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه)، وكان من طبيعة البشر أنه حين يكمل أي عمل إلى نهايته ينتشي له ويفرح، كذلك الأمر بالصيام، فإنه يفرح بفطره لتمام عبادته وسلامتها من المفسدات .
وفي ثنايا القيام بالعمل فإن العامل قد يصيبه شيء من الفتور والتعب الذي قد يثنيه عن المواصلة إلى النهاية، فيحتاج إلى شيء من المحفزات التي تشجعه، وكذا فكرة إنجاز العمل في رمضان، فإن مما يشجع العبد على النشاط وعدم التكاسل ما جاء من مبشرات نبوية، من ذلك أن خلوف الصائم أطيب عند الله.. ثم تحري ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان، لما لها من أجر وخيرية مطلقة بين جميع ليال السنة.. وهكذا، هذه النفحات الرمضانية مواهب من الله تعالى للصائم الذي يبتغي الخير والثواب والغفران من هذا الشهر، ثم يأتي وعد الله باعتاق بعض عباده من النار كل ليلة من ليالي رمضان!
وعموما، وفي خضم الحديث عن مقاصد الشريعة الإسلامية والصيام، جميع هذا يقوي العزيمة ويستنهض الجهد، وفقهه ينعكس على حسن أداء الصيام وإتقانه، والإحسان في العمل قاعدة أساسية لنجاح العمل وتحقيق هدفه، وإذا أحسن العبد صيامه وقيامه استحق الأجر مباشرة من الله دون وسيط أو ملك مقرب، فقال رسول الله ﷺ في الحديث القدسي: (يقول الله تعالى: الصوم لي وأنا أجزي به).