ظهر الخطر الداهم المهدد لكيان السنة النبوية في عهد الدولة العباسية، حيث ابتليت الأمة الإسلامية حينه بأنواع من الحركات الهدامة، والأفكار الغريبة، والسلوكيات الباطلة، ما لم تواجه بها في أي عصر من العصور الإسلامية الماضية، ظهرت حركة وضع الحديث على لسان رواة الحديث والقصاص، حتى أصبح الكذب على رسول الله ﷺ شيئا هينا عند أصحابها، وشت بهم الأهواء فوضعوا الأحاديث، فكأن قوله ﷺ” من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ” مما لا يحمل على حقيقته، فكانت الدولة العباسية تواجه هذه الحركة من خلال مقاومة رؤوس الوضاعين والزنادقة، وتعزيز جهود العلماء المحدثين الثقات، حتى أنتجت هذه الجهود تمييز الحديث الصحيح من الحديث المكذوب الموضوع.
كان اتساع رقعة الدولة الإسلامية وتعدد الأجناس سببا على نجاح كثير من المتعمدين في بث الأحاديث المكذوبة تبعا لأغراضهم المتنوعة، ومنهم:
أ- الزنادقة أعداء الدين، قال حماد بن زيد رحمه الله: “وضعت الزنادقة على النبي – ﷺ – أربعة عشر ألف حديث[1]
ب- المنتصرون لمذاهبهم العقدية. يقول عنهم ابن الجوزي: قوم كانوا يقصدون وضع الحديث نصرة لمذهبهم، وسول لهم الشيطان أن ذلك جائز.[2]
ج – المتزلفون إلى الأمراء: الذين آثروا التقرّب إلى الأمراء بوضع الأحاديث على رسول الله ﷺ إرضاء لهم.
وقد تعاون الأمراء مع المحدثين في مقاومة حركة وضع الحديث حتى لم تبق داعية للقلق عند الأمة الإسلامية على حديث رسولها ﷺ.
الأمراء بجانب جهود المحدثين
ضاعفت سلطة الأمراء جهودها إلى جانب جهود المحدثين في القضاء على حركة وضع الحديث، كانت الدولة العباسية طالما تحتضن فحول كبار المحدثين الذين أقام لهم الأمراء وزنا في الغالب، وهذا التعظيم كان له أثر طيّب في قوة أصحاب الحديث بالقيام بالعبء العظيم تجاه مقاومة حركة وضع الحديث، فحققوا أقصى ما في وسعهم لتجلية أحوال الأحاديث الموضوعة والوضاعين، وتظهر ذلك من خلال الضمانات الوقائية اللازمة المتمثلة في جمع الحديث في الكتب بالإسناد، وبالخطة العلاجية النافعة في الكشف عن أحوال الكذابين في كل مجال.
وقال سفيان الثوري: ما أستر على أحد يكذب في حديثه.[3].
ثم عضدت قوة السلطان الحاسمة جهود المحدثين، وحظي أصحاب الحديث من الدولة بدعم مبرم في القضاء على فتنة الوضاعين، حيث يرى غير واحد من أئمة الحديث أنه من العلاج النهائي لانكارهم على الكذابين الاستعانة بالأمراء عليهم، فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
يقول الإمام الشافعي رحمه الله:” لولا شعبة ما عرف الحديث بالعراق كان يجيء إلى الرجل فيقول: لا تحدّث وإلا استعديت عليك السلطان[4]
وعن عبد الملك بن إبراهيم الجدي قال: رأيت شعبة مغضبا مبادرا فقلت: مه يا أبا بسطام فأراني طينة في يده وقال: أستعدي على جعفر بن الزبير يكذب على رسول الله ﷺ.[5]
ورد في التاريخ بعض قصص استنجاد المحدثين بالولاة في ردع الكذابين، إما بسجن أو غيره من أنواع التعزير مما يدل على المساندة الخالصة من الدولة للمحدثين في ذب الكذب عن الدين.
سد مداخل الكذب في الحديث
لقد حرصت الدولة العباسية كل الحرص على تثبيت المصادر الدينيّة والذّب عنها من أي تصرف يزعزع قوائمها، وقامت بإذلال المغرضين العابثين بقداسة السنة النبوية، ومن صور ذلك:
1- مواقفهم تجاه الزنادقة
رأى الأمراء أنه لا يكفي مجرد مناصرة المحدثين عن البعد في القضاء على حركة وضع الحديث، بل لابد من متابعة ذلك بقوة وجديّة شديدة في طلب الزنادقة وتتبعهم في الآفاق، حيث نمت حركاتهم وأطلت بقرونها مرارا، ولذا كان الأمراء لهم بالمرصاد والفضح وهتك الستر والسر واستحضارهم وقتلهم جزاء بما كسبوا ونكالا لما بين أيديهم ولنظرائهم من خلفهم، وأصر الأمراء على هذا الموقف النذير مع الزنادقة دفاعا عن السنة النبوية.
ولقد قاومهم الخليفة المنصور في عهده أشد المقاومة، وأثخن فيهم وقتل خلق منهم، كمحمد بن سعيد بن حسان المصلوب، قتله أبو جعفر المنصور في الزندقة مصلوباً سنة خمسين ومائة.[6]
وقال ابن رشدين: سألت أحمد بن صالح المصري عنه، فقال: زنديق ضربت عنقه وضع أربعة آلاف حديث عند هؤلاء الحمقى – يعني أهل الشام – فاحذروها.
وقال الجوزجاني: هو مكشوف الأمر هالك.
وقال الحاكم: هو ساقط لا خلاف بين أهل النقل فيه.[7]
وكان أمير المؤمنين المهدي أشهر من تفرغ بالبحث عن الزنادقة وكتبهم في الآفاق وقتل منهم عددا كبيرا، حتى سُجل ذلك في تاريخه أنه أعظم أعماله.
يقول الذهبي – وهو يؤرخ لعام سنة ثلاث وستين ومئة: فيها…صرف همته – يعنى المهدي – إلى تتبعهم وأتى بكتب من كتبهم فقطعت بحضرته بحلب.[8]
وقال المهدي: أقر عندي رجل من الزنادقة أنه وضع أربعمائة حديث، فهي تجول في أيدي الناس.[9]
وقد نكل بهم أيما تنكيل، وأنشأ هيئة خاصة – أشبه ما يكون بوزارة الدفاع – أسند إليهم إبادتهم واستئصالهم وعيّن لهم وزيرا مشرفا سماه “صاحب الزنادقة”.
وقال الإمام الطبري رحمه الله مؤرخا لعام سبع وستين بعد المائة: وفيها جد المهدي في طلب الزنادقة والبحث عنهم في الآفاق وقتلهم، فولى أمرهم عمر الكلواذي.[10]
ثم أوصى ابنه موسى الهادى ولي العهد قائلا له:يا بني إن صار لك هذا الأمر فتجرد لهذه العصابة، ثم فصل له أسرارهم القبيحة وخططهم تجاه الدين وأهله، ولم يألو الابن جهدا في السير على نهج أبيه بكل أمانة، حتى قال: والله لئن عشت لأقتلن هذه الفرقة كلها حتى لا أترك منها عيناً تطرف.[11]
ومن الزنادقة الذين قبض عليهم المهدي: عبد الكريم بن أبي العوجاء، قتله الخليفة، بعد سنة160 هجرية، قتله بسبب الزندقة،يقال: إنه لما أمر بضرب عنقه اعترف على نفسه بوضع أربعة آلاف حديث يحل فيها الحرام ويحرم فيها الحلال، ويصوم الناس يوم الفطر ويفطرهم في أيام الصيام.[12]
وعن ابن عُليّة قال: أخذ هارون الرشيد زنديقا، فأمر بضرب عنقه، فقال له الزنديق: ” لِمَ تضرب عنقي؟ قال له الخليفة: ” أريح العباد منك”
قال زنديق: فأين أنت من ألف حديث وضعتها على رسول الله ﷺ كلها ما فيها حرف نطق به؟!
فقال له الرشيد الأمير مطمئنا:” فأين أنت يا عدو الله من أبي إسحاق الفزاري، وعبد الله بن المبارك ينخلانها نخلاً، فيخرجانها حرفاً حرفاً.[13] وهكذا بلغ بالخليفة هارون الأمن التام على الحديث النبوي من أن يدس فيه شيء مع وجود حراسه.
2 – موقفهم تجاه أهل الزيغ
هناك بعض الطوائف المنحرفة تهوى هوى الشك في السنة النبوية، ويحدثون في الدين محدثات تعلقت بها نفوس كثير من الجهلة، وقد برمجوا خطتهم الهدامة في السر دون المجاهرة بها البتة مخافة من الأمراء.
وعن هارون الرشيد أنه قال: بلغني أن بشراً – يعنى المريسي – يقول القرآن مخلوق، علي أن أظفرني الله به لأقتلنه قتلة ما قتلتها أحدا. قال الدورقي: وكان بشر متواريا أيام الرشيد، فلما مات ظهر بشر ودعى إلى الضلالة.[14]
وهذا يدلك على أنه لم يكن للتشيّع والاعتزال قوة وصولة وظهور في أيام المنصور والمهدي والرشيد؛ ولكن بعد وفاتهم ووفاة الأمين تظاهروا بما كانوا مختفين من قبل وأضروا العباد والبلاد.
يقول الحافظ الذهبي رحمه الله: كانت الأهواء والبدع خاملة في زمن الليث ومالك والأوزاعي والسنن ظاهرة عزيزة، فأما في زمن أحمد بن حنبل وإسحاق وأبي عبيد فظهرت البدعة وامتحن أئمة الأثر ورفع أهل الأهواء رؤوسهم بدخول الدولة معهم؛ فاحتاج العلماء إلى مجادلتهم بالكتاب والسنة، ثم كثر ذلك واحتج عليهم العلماء أيضا بالمعقول فطال الجدال واشتد النزاع وتولدت الشبة نسأل الله العافية.[15]
فزمن الليث ومالك والأوزاعي هو زمن خلافة المنصور والمهدي والرشيد، وزمن أحمد بن حنبل وإسحاق وأبي عبيد، هو زمن خلافة المأمون حتى عهد المتوكل.
قال البيهقي عن المأمون “لم يكن أحد من الخلفاء قبله من بني أمية وبني العباس إلا على مذهب السلف[16]
ولما بويع المتوكل بعد مدة المحنة استمرت عشرين سنة أظهر الله عز وجل به السنة النبوية، ورفع شأن المحدثين وأمرهم “أن يجلسوا للناس، وأن يحدثوا بالأحاديث التي فيها الرد على المعتزلة والجهمية، وأن يحدثوا بالأحاديث في الرؤية. فجلس عثمان بن أبي شيبة في مدينة المنصور ووضع له منبر، واجتمع عليه نحو من ثلاثين ألفاً من الناس، وجلس أبو بكر بن أبي شيبة في مسجد الرصافة واجتمع عليه نحو من ثلاثين ألفاً.[17] وهكذا عاد الحق إلى نصابه وضعفت شوكة أعداء السنة.
3- موقفهم مع المتزلفين إليهم
وقد اشتهر عن جماعة من الرواة أنهم وضعوا أحاديث أو هموا أن يضعوها إرضاء لبعض الولاة والحكام، إلا أن هذا الصنف من الوضاعين قليلون بالنبسة لغيرهم من الأصناف.[18]
والسبب في ذلك – والله أعلم – يرجع إلى أمرين:
الأمر الأول: أن الخلفاء كانوا أهل الدراية بالحديث النبوي، وكان هذا الذي عرقل سبل تزلف الوضاعين إليهم كثيرا.
الأمر الثاني: معرفة الوضاعين الكذابين بشدة الأمراء في مقاومة الوضعوتدميرهم لألسنّة أهلها.
ولم يذكر في التاريخ – حسب علمي – من تزلف للخلفاء العباسيين بوضع الأحاديث سوى ثلاثة كذبة، وهم:
1- مقاتل بن سليمان البلخي 2- غياث بن إبراهيم النخعي 3- وهب بن وهب أبو البختري.
وهؤلاء تقربوا إلى الخلفاء بوضع أحاديث فضائل في صلاحيتهم كسبا لرضاهم وفيما أيديهم وللرياسة والجاه ونحوها،إلا أن أمرهم مكشوف عند الأمراء وفندوا كذبهم وضيقوا عليهم مسلكهم.
وباجتماع قوة السلطان وجهود المحدثين فضح الله نيات أعداء السنة وجعل كيدهم في نحورهم، فأصبح شأن الحديث الموضوع عند أهل العلم بالحديث هيّنا من غيره، ولم يأخذهم القلق عليه ثقة بالله بعد اتخاذهم الأسباب اللازمة. ولذا يحق للإمام سفيان الثوري رحمه الله أن ينطلق من أقصى الاطمئنان قائلا:” لو هم الرجل أن يكذب في الحديث وهو في جوف بيت لأظهر الله عليه.”[19]
وقال أيضا: إني لأحسب رجلاً لو حدث نفسه بالكذب في الحديث لعرف به.[20]
وقال عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله: لو أن رجلاً همّ أن يكذب في الحديث أسقطه الله عز وجل.[21]
وهكذا بات الاطمئنان في قلوب العلماء على سلامة الحديث النبوي من التحاق به ما ليس منه، ولن تجد اليوم حديثا موضوعا دخيلا في أمر ديننا ألبتة، وهذا بفضل الله ثم بفضل العلماء وولاة المسلمين في تلك العصور.
[1] الموضوعات لابن الجوزي. 1/38
[2] المصدر السابق.
[3] المجروحين. 1/21
[4] الجامع لأخلاق الراوي. 2/170
[5] الجامع لأخلاق الراوي. 2/170
[6] الوافي بالوفيات. 1/337
[7] تهذيب التهذيب. 9/164
[8] العبر في خبر من غبر. 1/184
[9] الموضوعات لابن الجوزي. 1/38
[10] تاريخ الأمم والملوك. 4/580
[11] ينظر تاريخ الأمم والملوك. 4/612
[12] البداية والنهاية. 10/121
[13] ينظر تاريخ دمشق 7/127
[14] تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام. 18/97
[15] سير أعلام النبلاء. 8/144
[16] البداية والنهاية. 10/365
[17] تاريخ بغداد. 10/67
[18] ينظر الوضع في الحديث. 1/270
[19] المجروحين. 1/25
[20] الجامع لأخلاق الراوي. 2/8
[21] المصدر السابق.