من يشتغلون برصد الحالة الفكرية، ويتابعون مسيرة المؤثرين فيها، يدركون أن لكل مفكرٍّ عالَمَه، ولكل صاحب فكرٍ مشروعَه الخاصَّ الذي به يطبع بصماتِه على مجمل مسيرته، ويتميز عن غيره من المفكرين، ويجذب مريدين له أو متأثرين به يمكن لهم أن يتابعوا مسيرته، وأن ينسجوا على منواله.

والدكتور محمد عمارة، تغمده الله بواسع رحماته، واحد من أهم المفكرين الذين شغلوا ساحتنا الفكرية، وأثّروا فيها وأثْروها، لنحو ستة عقود.. وقد جاءت لحظة وفاته لتمثِّل- كما قيل بحقٍّ- استفتاءً على ما للرجل من مكانة، وما ذهب إليه من اجتهادات وخيارات..

فما الذي أكسب الدكتور عمارة هذه الحالة المميزة من الإعجاب والمتابعة والتقدير.. ومن ثم، التأثر والرثاء؟ وما الجديد الذي ميَّز مشروعه الفكري وجعل له هذا الحضور والوهج والألق؟

لا شك أن هذه (الحالة/ النموذج) لم تأتِ من فراغ، ولم تتكون جزافًا؛ وإنما جاءت عن استحقاق وجدارة؛ فالشعوب لا تعرف المجاملة، لاسيما إذا كنا بصدد مفكر لم تُصنع له دعاية، ولم يُسبَق بهالاتٍ زائفة من التفخيم والتبجيل.. وإنما نحن أمام مفكرٍ صنع مجده بيده، ونحت اسمَه في عالم الفكر بصبرٍ ومثابرةٍ ومجاهدة.. فهو (مفكر الأمة) بحق.. لا مفكر نظام ولا صنيعة مؤسسة..

وأولُّ ما يمكن رصده من ملامح عامة في هذا الصدد، أن التقدير الكبير الذي حظي به د. عمارة، وجاءت لحظة الوفاة لتكشف عنه بجلاء.. إنما كان تقديرًا لنوع النشاط العلمي الذي اشتغل به الرجل؛ ألا وهو (الفكر)..

فالدكتور عمارة لم يكن مفسِّرًا، ولا فقيهًا، ولا محدِّثا، ولا مؤرِّخًا، ولا مشتغلاً بالأدب.. وإن أخذ بحظ وافر من ذلك كله.. وإنما كان مفكرًا.. حتى وهو يشتغل بشيء من هذه العلوم التي يغلب عليها النقل، أو يقلُّ فيها العقل..

لقد كان ذا عقل كبير؛ لا يكتف بالنصوص، ولا يتمترس بها، فضلاً عن أن يذوب فيها.. وإنما يكتب حين يكتب، أو يفكر حين يفكر، وإحدى عينيه على النص، والأخرى على الواقع فاحصًا متدبرًا.. بل حتى وهو يصوب إحدى عينيه على النص، إنما يصوبها ليستخرج من النص فكرًا، غير مكتفٍ بنقل النص..

وما أحوج أمتنا في أزمتها الراهنة إلى أصحاب الفكر، لا إلى نَقَلَةِ النصوص.. وإلى استنطاق النصوص لا إلى الاكتفاء باستظهارها ونقلها.. فلم تكن مشكلتنا الحقيقة في هذا الاستظهار، وإنما في التفعيل.. ونهضتنا الجادة لن تكون بالاستظهار، وإنما بالتفكر والتدبر في النصوص.. فهذه النصوص رغم وجودها بين أيدينا، محفوظةً مصونةً، فإن ذلك لم يمنع عنا كارثة التخلف، ولم يدفع عنا عادية المعتدين..

ولا ينبغي أن يُفهَم من هذا، التهوين من قيمة النصوص.. لكن القصد أن النصوص لا تَفْعَلُ بنفسها؛ وإنما تتبدَّى في عالم الوجود من خلال تفكُّرِ المتفكرين، وتدبر المتدبر، وعمل العاملين..!

ولهذا فحين كشفت لحظة الوفاة عن الحفاوة الكبيرة التي حظي بها مفكرنا، إنما كان ذلك- في الوقت نفسه- كشفًا عن نوع العمل العلمي الذي شغل بها الرجلُ نفسَه، ونذر له حياته، وأبدع فيه أيَّما إبداع..!

أما الملمح الثاني في هذا المقام، فهو يتعلق بهذه الحالة من الحركة الدائبة لفكر الدكتور عمارة.. فمفكرنا لم يعرف السكون، فضلاً عن الجمود.. ولم يتوقف عن الحركة في الاجتهاد، والحركة في الفكر.. منذ أن كان طالبًا، حتى صعدت الروح لبارئها..

حياة الدكتور عمارة يمكن أن نوجزها في أنها كانت سلسلة من الانتقالات؛ التي تستلزم المراجعة لا الرجوع، والتحرك لا الجمود، والحيوية لا الخمول..

انتقل من اليسار- كخيار سياسي للانحياز لأفكار العدل الاجتماعي- إلى الاسلام فكرًا وثقافة وممارسة.. ومن الانشغال بالسياسة، إلى التفرغ التام للعمل الفكر والاجتهاد العلمي.. ومن (العقلانية) المنحازة للمعتزلة، إلى (العقلانية المؤمنة)؛ القائمة على (الوسطية الجامعة).. ومن التمحور حول (الدائرة القومية)، إلى الانفتاح حول (الدائرة الأكبر/ الإسلامية)..

هذه الحركة الدائبة في الفكر والاجتهاد والممارسة أتاحت للدكتور عمارة الوقوف على مختلف التيارات، ويسَّرت له الاحتكاك الفكري والعملي بالآخر.. فيما عبَّر هو عنه بأنه كان احتكاكًا أشبه بـ(البعثة) التي جعلته على اطلاع عميق بحقيقة هذه الأفكار والاتجاهات، وجعلته خبيرًا بها، جديرًا بتفنيد شبهاتها، وتفكيك أطروحاتها..

يقول مفكرنا الكبير في إحدى الحلقات التي خُصصت عن مسيرته، من البرنامج الوثائقي (وحي القلم): “الفكر اليساري كان بالنسبة لي بعثة، أدركت أن الله تعالى هيأني لهذه البعثة لكي أرى الوجه الآخر من الناحية الفكرية، ولكي يعدني لكي أكون من أكثر الناس قدرة على كسر شوكة اليسار والعلمانية والإلحاد”.

ولعل هذه النقطة- معرفة الآخر- هي من أهم مميزات المشروع الفكري للدكتور عمارة.. وهي ما تَنقص كثيرًا من أصحاب الانحيازات الإسلامية، الذين لا يعرفون إلا لونًا واحدًا من الثقافة يتصل بالذات، بينما تغيب عنهم المعرفة العميقة بالآخر.. مع أن “الضِّدَّ يُظْهِرُ حُسْنَهُ الضِدُّ”، و”بِضِدّها تتبين الأشياءُ”، كما قيل.. وذُكر عن عمر بن الخطاب قوله: إنَّمَا تُنْقَضُ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً، إذَا نَشَأَ فِي الْإِسْلَامِ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ الْجَاهِلِيَّةَ.

وفي الرصد الثالث لملامح مشروع عمارة الفكري، يمكن لنا أن نقول إن مفكرنا الكبير كان وهو يكتب أو يتحدث عن الإسلام إنما يكتب أو يتحدث بلحمه ودمه، لا بدم بارد، ولا بكلمات جافة لا حياة فيها.. كما هي عادة كثير من الأكاديميين والمفكرين..

كان يتحدث أو يتكب فتشعر بحرارة الكلمات ووهجها.. تحسّ أن نهر عقلك بدأ في الجريان، ومغادرة البرك الراكدة.. لا مكان للكلمات الباردة، ولا للإلقاء الميت.. الإسلام عنده قضية امتزجت بعواطفه كلها، وملكت عليه مشاعره جميعها، واستجمع لها عقلَه وفكرَه..

ولهذا لم يكن غريبًا أن يسري شيءٌ من ذلك كله إلى مستمعيه أو قرائه.. فيشعرون أنهم أمام نموذج مغاير لما اعتادوه من متحدثين عن الإسلام، من علماء أو مفكرين أو دعاة..

الإسلام بالنسبة لمحمد عمارة لم يكن خيارًا فكريًّا جافًّا، وإنما (قضية حياة).. يصحو عليها وينام.. يوافق عليها أو يخالف.. يناصر بها أو يعادي.. تنطلق الكلمات على لسانه كأن منبعها القلب، بل هي كذلك.. ويجري الفكر متدفقًا من عقله كأنما مرَّ بكل جوارحه، قبل أن يستقر على صفحات الكتب أو في أسماع الناس..

وما أبأسنا بمتحدثين يظنون الدعوة وظيفةً.. أو الحديثَ عن الإسلام منصبًا.. أو العلم َكلماتٍ وحروفًا بلا عاطفة وانفعال..!!

ما لم يتعامل الداعون، مع الإسلام، باعتباره (قضيةَ حياةٍ) لهم، لا قضيةً من الحياة.. وبوصفه شأنًا ذاتيًّا، لا قيودَ وظيفةٍ أو متطلباتِ مهنةٍ.. فلن يحرزوا نصرًا لصالح الإسلام، ولن يَردُّوا عادية من العوادي..

ثم تأتي الملمح الرابع متمثلاً في أن الدكتور عمارة لم يكتفِ بالفكر وحده، ولم يحبس نفسَه في الأبراج العاجية.. وإنما كان (مفكرَ أمة)؛ ولا أقول (مفكر جماهير).. نعم، انقطع عن العمل السياسي متفرغًا للعكوف والاعتكاف في محراب العلم والفكر، لكنه لم ينعزل عن هموم الأمة، ولم ينقطع عن الناس.. إنما اعتكف ليتزوَّد، لا لِيَهُجر..

الدكتور عمارة يدرك من البدء، أن الفكر وحده يظل حبرًا على ورق.. وأن الأمة لن تتغير بالكلمات وحدها.. وإنما لا بد أن تتحول الكلمات إلى واقع، والحروف إلى حياة.. لكن هذا لا يمنع من أن يتفرغ للفكر رجال، شريطة أن يتكامل عملهم في المحصِّلة مع من لديهم القدرة أكثر على ترجمة الفكر لواقع، والأفكار لبرامج..

ولهذا، اقترب الدكتور عمارة من أطياف الجماهير المتطلعة لفكرٍ نيِّر يضيء الطريق.. فتراه يحاضر في ندوات بالمساجد لعموم المسلمين.. بمثل ما يحاضر في ندوات لصفوة المثقفين.. وبمثل ما يدبج المقالات في الصحف والمجلات، أو ينشر الكتب والموسوعات.. أينما أتيحت له الفرصة ليتوجه بخطابه للناس، على اختلاف شرائحهم، لا يتوانى..

الفكر للحياة.. والفكر من الحياة.. والفكر بالحياة.. وما ينعزل يُسمَّى (فكرًا) تجوزًا..! وحريٌّ به أن يسمَّى (أُحْجِيّات)..!

وكلما اقترب الفكر من الحياة، نَبَضَ بالحياة، واكتسب ألوانًا زاهية، ودماءً تضمن له الفاعلية والاستمرارية.. وكان أقربَ إلى العمليات- أي التطبيق- من المثاليات، وإلى التفيعل من التحنيط..!

وكثيرًا ما لفت مفكرُنا إلى أن مشروعات الإصلاح عند الأفغاني ومحمد عبده كانت تنتظر حلقة مفقودة.. هي أن تخاطب عموم الناس، وأن تنتقل إلى الميدان، وألا تظل حبيسة عقول المفكرين والمثقفين.. حتى يمكن إحداث التغيير المنشود، والإصلاح المأمول..

هذه بعض الملامح العامة للمشروع الفكري عند محمد عمارة.. ذلك المشروع الضخم الممتد طولاً وعرضًا، والذي نحن بحاجة ماسة إلى استيعابه أولاً.. وإلى نقده ثانيًا.. وإلى البناء عليه ثالثًا.. وإن ذلك لهو خير وفاء وعرفان لهذا المفكر الكبير، الذي وهب حياته وفكره لدينه وأمته.. فجزاه الله عنا خير الجزاء، وتقبله في الصالحين المجددين..